ظلٌ مظلم؟ سيف؟ تجهّم وجهي بسبب كلمات غامضة محيّرة.
إذا كان الصوت يصف الأحداث التي تدور حولي كما اعتاد حتى الآن، فمن المرجح أن يكون الظل المظلم هو مفتعل الحريق نفسه.
‘هل يعني ذلك أنه يخفي سيفًا في ملابسه وهو متواجدٌ في الجوار الآن؟’
دون وعي مني، أخذت أتفحّص المحيط حولي بحذرٍ شديد.
إن كان يقصد ‘بالجوار’، فقد يشير إلى داخل هذا المتجر بالذات.
في تلك اللحظة، استمر الصوت يتردد داخل رأسي.
<تفحّص الرجل الزقاق الضيق بعناية فائقة. لم يكن عليه أن يغفل أبدًا عما حوله ولو للحظةٍ واحدةٍ. فلو قُبض عليه في مثل هذا الموقف، لقتله سيّده بلا شك.>
‘سيّد؟’
كأنما بدا ذلك وكأن وراء مفتعل الحريق مُحرّضًا يقف في الخفاء.
إذا كانت استنتاجاتي السابقة صحيحة، وكان هذا الحريق -لأسباب مجهولة- تحذيرًا موجهًا إلى راسيل، فلا بد أن يكون ذلك المحرّض هو الجاني الحقيقي.
تسلل القلق إلى قلبي خفيةً كالدخان. لم يكن للصوت أن يكشف عن الجاني دون سبب وجيه.
‘إن كان الزقاق الضيق يعني ذلك الزقاق هناك أسفل الطريق، فهل… هل آمون في خطر؟’
أمسكتُ طرف ثوبي بقوة حتى تشنّجت أصابعي.
“سيّدتي، سيّدتي؟”
“آه..، ماذا؟”
حينها فقط أدركت أنني غرقت في أفكاري الخاصة، ناسيةً حتى ثرثرة مارفين عن راعيه.
“ما بكِ؟ هل حدث شيء؟”
هل أخبر مارفين بهذا الأمر وأطلب مساعدته؟ بدا لي أنه قد يصدقني حتى دون تفسير منطقي.
‘لكن المخاطرة كبيرة جدًا.’
بحسب ما يرويه الصوت، يبدو أن مفتعل الحريق لم ينتبه بعد إلى أن أحدًا يُراقبه ويتربص به.
كان حذرًا من محيطه، لكن ليس هناك ماهو أكثر من ذلك.
لذا، إن تسببتُ في جلبة دون داعٍ، واكتشف أنه تحت مراقبة الفرسان، فقد نفقد فرصة القبض عليه إلى الأبد.
ولم أكن واثقة أن مارفين، بطيشه المعتاد، قادر على التعامل مع الأمر بهدوء.
“سيّدتي؟”
“لا شيء. فقط… أشعر ببعض الاضطراب في معدتي.”
فاخترتُ في النهاية أن أتهرّب بعذرٍ واهٍ.
نظر إليّ مارفين بوجهٍ قلق، ثم نهض فجأة من مقعده.
“سأحضر لكِ بعض الماء.”
“…… انتظر لحظة!”
أمسكتُ بمعصم مارفين بسرعة وكأنني أخطفه وهو يهمّ بتجاوزي.
التفت إليّ بعينين متسعتين من الدهشة.
“سيّدتي؟ تعابير وجهكِ… ما الذي يحدث؟”
<هتف الرجل بابتهاج داخلي. آمون سبينسر، قائد فرقة الفرسان الزرق، من كان ليظن أنني سأصادفه في هذا الزقاق؟ كانت كل الظروف مثالية.>
مفتعل الحريق يعرف وجه آمون واسمه.
والأسوء من ذلك، كونه قد رآه للتو.
لقد فشلت خطة وضع الكمين لأمساكه متلبسًا بالفعل.
لا، ليست هذه هي المشكلة…
<كانت فرصةً لتنفيذ أوامر السيّد. إن أنهيتُ أمر هذا الرجل، فسيمدحني سيّدي بلا شك. أخرج الرجل من صدره خنجرًا مصقولًا جيدًا.>
حياة آمون في خطر.
قفزتُ من مقعدي فجأة.
* * *
كان آمون وإلويز يتفقدان الطريق المحدد مسبقًا.
كانت الأزقة المظلمة بعيدة عن المناطق الصاخبة معقدة كمتاهة حقيقية.
حتى إن إلويز أبتعدت عن آمون مسافة لا بأس بها، وكأنها تعبّر عن استيائها.
كانت تعلم جيدًا أن القاعدة تقتضي عدم الابتعاد عن بعضهما أثناء الدورية، لكنها فعلت.
كاد آمون يوبّخها، لكنه كبح جماح نفسه.
كان يدرك أن تدخّله المفاجئ أثار استياء إلويز.
ولم تكن إلويز وحدها من شعرت بالضيق، فالجميع كان سيجد هذا الموقف مزعجًا على الأرجح.
‘ما الذي يدفع جوليا للاهتمام بهذه القضية على أي حال؟’
رافقها لأنه لم يستطع تركها وحدها، لكنه لم يفهم دوافعها أبدًا.
خصوصًا أنها، في اليوم السابق فقط، أمرت بحبس هايدن في مقر الفرسان.
ظنّ أنهم وجدوا أخيرًا بعض الخيوط، لكن الآن شعر أنهم يضيّعون الوقت في أمور تافهة.
كان من حسن حظه طلبهُ من كارلايل التحقيق في هوية جندي من عائلة الدوق.
بعد ساعات قليلة، حين تنتهي مهمة المراقبة، سيعود ليتلقى تقريرًا مفصلًا منه.
‘ليت خيطًا جديدًا ينسجُ من هوية ذلك الجندي يمكننا من ربط أحجيات هذه القضية المبعثرة.’
بمجرد أن خطرت فكرة الجندي في ذهنه، تذكّر ما قالته جوليا.
كانت تجهل آداب هذا العالم جهلًا تامًا، حتى إن المرء قد يتساءل إن كان فقدان الذاكرة كافيًا لتفسير ذلك.
تطلّع آمون نحو نهاية الزقاق، حيث المتجر الذي تجلس فيه جوليا.
اليوم أيضًا، كانت تنظر إلى الطعام العادي أو كأس الجعة وكأنها أشياءُ تجربها للمرة الأولى، مندهشة كطفلة.
حقًا، كانت شخصية ممتعة.
“سيدي القائد، لم أرَ أي شخص مشبوه…”
اقتربت إلويز لتتحدث، لكنها توقفت فجأة وعبست.
“لمَ تضحك؟ هل رأيت شيئًا؟”
“أضحك؟ أنا؟”
لمس آمون شفتيه بيده ليتحقق من تعابيره.
كانت إلويز تنظر إليه وكأنها رأت شيئًا غريبًا، فعبست أكثر.
سعل آمون سعالًا خفيفًا ثم قال:
“لا تهتمي.”
“على أي حال، لم نرَ شخصًا مشبوهًا، لذا يكفي أن ندور في الزقاق الأيمن ثم نتبادل المهام.”
“حسنًا.”
تجاوز آمون إلويز، التي كانت لا تزال تتجهّم بغرابة، واتجه نحو الزقاق الأيمن.
أراد إنهاء الدورية سريعًا ليعود إلى المتجر قبل أن يظهر بمظهر أكثر غرابة.
‘ما هذا؟’
لكن عندما اقترب من مدخل الزقاق، توقف آمون فجأة، لشعوره بشيء غريب.
قد يكون الظلام الشديد بسبب عطل في مصباح الشارع، لكن كان هناك شيء آخر، حضور لا يمكن إخفاؤه… شيء كالنية المشبعةِ بالقتل.
لم يكن آمون وحده من شعر بهذا الغرابة، فقد تبادل هو وإلويز النظرات دون كلام، ووضعا أيديهما على خصريهما.
وعندما همّا بسحب سيفيهما-
“سيدي القائد!”
فجأة، رنّ صوت رجل مألوف من الخلف.
التفت آمون بغريزة تلقائية، فاندفع ضوء ساطع نحوه.
كان الضوء قويًا جدًا لتقاومه عيناه، التي اعتادت الظلام حتى تلك اللحظة.
أغمض عينيه لا إراديًا، وفي تلك اللحظة-
“لااا!”
اندفع شيء بسرعة نحو صدر آمون.
لم يتحمل قوة الاصطدام وسقط أرضًا، لكنه أدرك فورًا أن الجسد النحيل والصغير الذي احتضنه هو جوليا.
كتفاها النحيلتان، اللتان لمسهما مرة واحدة فقط لكنهما لم يغادرا ذاكرته، والعطر الخافت الذي يحيط بها دائمًا، اجتاحاه بقوة.
لو بقي الأمر على هذا الحال، لارتطما بالأرض معًا.
في لحظة خاطفة، أدرك آمون كل شيء، فلوى جسده بسرعة.
دوى صوت الارتطام أرجاء المكان–
سقط آمون على الأرض وهو يحتضن جوليا.
في اللحظة التالية، عمّت الفوضى المكان.
صرخات إلويز، رنين نصل يسقط أرضًا، أصوات عالية تتداخل وتتقاطع…
“آه!”
أنهى صراخ رجل، كادت ذراعه تُكسر على يد إلويز، المشهد.
تفحّص آمون الوجوه التي ملأت الزقاق الضيق.
كانت إلويز تكبّل يدي الرجل، وكان بويت يشهر سيفه، بينما داس مارفين على السيف الملقى أرضًا بقدمه.
وأخيرًا، كان هو وجوليا ملقيان على الأرض بجانبهم.
“هل أنت بخير، سيدي القائد؟”
هرع مارفين نحو آمون، الذي رفع جسدهُ قليلًا.
“ما كل هذا…”
“أعتذر، سيدي القائد!”
تدخّل بويت هذه المرة.
“بدا الموقف خطيرًا، فأشرت بالضوء، لكن…”
حينها فقط، اتضحت الصورة كاملة.
على الأرجح، اندفع الرجل، الذي قد يكون مفتعل الحريق، نحو آمون بسكين، ورآه بويت فصاح به مذعورًا، لكن ذلك جعل الأمور أسوأ.
حُجبت رؤية آمون، وكاد يُطعن، لولا أن جوليا رمت نفسها لتحميه.
تنهّد آمون تنهيدة قصيرة، ثم نظر إلى جوليا الملقاة في حضنه.
بدت وكأنها فقدت وعيها للحظة، ثم فتحت عينيها ببطء.
ما إن تقاطعت نظراتهما حتى صرخت:
“هل أنت بخير؟!”
بين خصلات شعرها المشعثة، برزت عيناها البنيتان المفعمتان بالقلق.
كم أوصيتها بالبقاء في مكان آمن، فلمَ هي هنا إذن؟ ضحك آمون ضحكة خافتة دون كلام، فازداد وجه جوليا قتامة.
“السير سبينسر؟”
نهضت جوليا قليلًا، فشعر آمون بركبتها الهزيلة على فخذه بوضوح.
“هل طُعنت؟ لم تُصب بطعنة، أليس كذلك؟ أنت بخير، صحيح؟”
بدأت يداها الصغيرتان تتحسسان جسده هنا وهناك.
يبدو أنها لم تلحظ أنها تجثم فوقه، وأن ثمانية أزواج من العيون تحدّق بها. أو بالأحرى، لم يكن لديها متسع لتلحظ ذلك.
نظر آمون إلى وجهها المتجهّم بجدية، ثم مدّ يده دون وعي ليعدّل خصلات شعرها المبعثرة إلى الخلف.
“شعركِ أصبح فوضويًا.”
“…… ماذا؟”
“ألم تُصابي بأذى؟”
“…… لا.”
“إذن، من الأفضل أن تنهضي الآن.”
ومضت عيناها البنيتان الفاتحتان، مختفية تحت جفنيها ثم عائدة.
ثم احمرّ وجهها كالجمر.
التعليقات لهذا الفصل " 24"