أدركتُ حينها أنني تحدثتُ عن قصتهما بتفاصيل كثيرة.
“أعني… عندما رأيتُ الندبة على معصمها، بدأت بعض الأمور تتضح لي تدريجيًا. وبعضها مجرد تخمينات.”
“فهمت.”
أومأ آمون برأسه بهدوء، ثم أضاف:
“سيدتي، لقد قلتِ منذ البداية إن زوجة الدوق مشبوهة، وربما كنتِ تعرفين أكثر مما تتذكرين قبل أن تفقدي ذاكرتكِ.”
“…ربما.”
“وربما لهذا السبب أصبحتِ هدفًا للجاني الحقيقي.”
شعرتُ بوخز الضمير أكثر عندما رأيتُ تعبيره الخالي من الشك، بل المفعم بالفضول الصادق.
تساءلتُ إن كنتُ سأتمكن من تسوية كل هذا الكذب المتراكم لاحقًا، وغلبني القلق.
“على أي حال، من المؤكد أن زوجة الدوق ليست الجانية.”
“صحيح.”
مع هذا المستوى من غسيل الدماغ، لم تكن لتفكر في قتله أبدًا.
“هل هناك شخص آخر تشكين به الآن؟”
“همم…”
استعدتُ الرواية الأصلية في ذهني.
بالنظر إلى شخصية راسيل، بدا أن هناك ضحايا آخرين مثلي، لكنهم، مثلي أيضًا، لم يُذكروا ولو بسطر واحد في الرواية، فلا سبيل لي لمعرفة هوياتهم.
حاولتُ التركيز لعل ذلك الصوت يمنحني دليلاً آخر، لكنه، كالعادة، لم يظهر أبدًا عندما أريده.
“لا أعرف. لم يتبادر إلى ذهني شيء بعد.”
“حقًا؟”
رد آمون بنبرة مرتاحة بشكل غريب.
على عكسي، لم يبدُ عليه أي أثر للحيرة، ففتحتُ عينيّ بدهشة وسألتُ:
“هل لديك دليل آخر ربما؟”
“لا، ليس الأمر كذلك.”
أدرك آمون استغرابي وأكمل:
“لأن هذا ليس وضعًا غريبًا بالنسبة لي. التحقيقات عادةً ما تكون محيرة.”
“آه… إذن، ما خطوتك التالية؟”
“سأعيد فحص مسرح الجريمة والجثة، وأدرس علاقات العداء التي كانت للضحية. ثم أحدد المشتبه بهم وأتحقق من مكان تواجدهم حينها ودوافعهم.”
كان ردًا نمطيًا كأنه من كتاب دراسي.
“هذه طريقتي.”
لكنه كان مطمئنًا أيضًا.
كأنه يقول إنه سيجد الجاني الحقيقي حتى بدون صوت غامض يرشده.
نظرتُ إليه في عينيه وأومأتُ موافقة.
***
منذ ذلك اليوم، بدا أمون مشغولًا للغاية.
يبدو أنه كان يتبع طريقته التي ذكرها، يفحص مسرح الجريمة والجثة.
لم أتمكن من مرافقته إلى مكان الحادث، فكما حدث عندما وصلتُ إلى مبنى الفرسان لأول مرة، لم أرَ وجه آمون لأيام.
لكن الفرق عن المرة الأولى هو أنني تكيفتُ تمامًا مع حياة الفرسان.
“سيدتي، هل كنتِ في المكتبة مجددًا؟”
اقترب مارفين مني بخطوات ثقيلة.
نظر إلى الكتب التي تملأ الرفوف حتى السقف وهز رأسه مستغربًا.
“كنتُ أعتقد أن هناك شخصًا واحدًا فقط في فرقتنا يستخدم هذا المكان. لكن مع قدومكِ سيدتي، أصبح هناك اثنان.”
وضعتُ إصبعي على شفتيّ وقلت:
“هشش- السير يوستي يبحث في بعض المواد هناك. إذا أحدثتَ ضجة، سيوبخنا.”
“لقد فات الأوان بالفعل.”
اقترب كارلايل منا دون أن ننتبه، وضرب كتف مارفين بظهر كتاب.
لم يبدُ أنه استخدم قوة كبيرة، لكن مارفين تمسك بكتفه متظاهرًا بالألم.
“آآه، إنه يؤلمني!”
تجاهل كارلايل مارفين ببساطة ومد لي الكتاب الذي استخدمه كسلاح للتو، قائلًا:
“عثرتُ عليه بالصدفة أثناء بحثي، ويبدو أنه قد يثير اهتمامكِ، سيدتي. اقرئيه.”
“شكرًا.”
“وقد قلتُ مرارًا إنكِ تستطيعين مناداتي بكارلايل ببساطة.”
“سيكون ذلك إذا دعاني السير يوستي بـ جوليا أولًا.”
“حتى لو كنتُ فارسًا غير تقليدي، فهذا صعب عليّ.”
عبس كارلايل وابتسم، فظهرت غمازته العميقة، مما جعل وجهه يبدو مرحًا على الفور.
“بالمناسبة، ما الذي تبحثث عنه مجددًا؟ لم تتوقف منذ الصباح.”
“وما الذي قد يكون؟ إنه عمل كلفني به قائد فرقتنا. يبدو أنه يظن أن الجميع يملكون نفس قوته البدنية، لا يمنحنا وقتًا للراحة.”
ضحكتُ رغمًا عني وأنا أنظر إلى وجه كارلايل المتذمر.
في البداية، عندما سمعتُ شكاويه، قلقتُ بشأن علاقته بـ آمون، لكن اتضح أنهما صديقان مقربان منذ الطفولة.
ولهذا، كان كارلايل الوحيد بين أعضاء الفرقة الذي يعرف كل شيء عن علاقتي بـ آمون.
– إذا حدث شيء في غيابي، ابحثي عن كارلايل.
قالها آمون بنفسه ذات مرة.
التفت كارلايل إلى مارفين، الذي كان لا يزال يفرك كتفه، وقال:
“بالمناسبة، لماذا أتيتَ أنتَ أيضًا؟ أنتَ بعيد كل البعد عن الكتب.”
“…آه! جئتُ لأنقل رسالة.”
توقف مارفين عن فرك كتفه وقال:
“نائبة القائد تبحث عن السيدة.”
“ماذا؟ عني؟”
فوجئ كارلايل بقدر ما فوجئتُ أنا وسأل:
“هل عادت إلويز؟ متى؟”
“نعم؟ هذا الصباح-”
“كان عليكَ إخباري!”
صرخ كارلايل، منتهكًا قاعدته الخاصة بالهدوء في المكتبة، ثم أعاد الكتاب الذي كان يحمله إلى الرف بعشوائية واندفع خارج المكتبة بسرعة كأنه يطير.
نظرتُ إلى ذلك المشهد بدهشة، ثم سألتُ مارفين:
“هل السير يوستي يحب نائبة القائد حقًا؟”
لم تكن هذه المرة الأولى التي يتصرف فيها كارلايل هكذا.
كلما ذُكرت إلويز، كان يهرع كجرو يبحث عن صاحبه.
نظر إليّ مارفين بوجه مندهش وقال:
“ماذا؟ مستحيل! إنه يفعل ذلك فقط ليضايقها.”
“يضايقها؟”
“يستفزها ويتحدث إليها ويتجول حولها ليُزعجها.”
يستفزها، يتحدث إليها، يتجول حولها… أليس ذلك ما يفعله المرء مع من يحب؟
“سيدتي، خيالكِ واسع حقًا. على أي حال، هيا بنا. نائبة القائد تنتظر.”
“حسنًا…”
تبعتُ مارفين الغافل وخرجتُ من المكتبة.
“أليست نائبة القائد منشغلة بحل قضية الحريق؟”
“صحيح. أنا مساعدها المباشر في ذلك.”
قال مارفين وهو ينتفخ صدره متفاخرًا.
“لكن لماذا تبحث عني أنا؟”
شعرتُ بتوتر خفيف.
كانت إلويز منشغلة بالتحقيق، ومنذ تلك الوجبة الصباحية لم أرَ وجهها.
وليست كـ مارفين، الذي يظهر كل شيء بوضوح، فلم تكن شخصًا يسهل التعامل معه.
“لا أعرف بالضبط.”
أمال مارفين رأسه وهو يتقدم أمامي.
“ربما لديها شيء تريد سؤالكِ عنه؟ لكن، سيدتي، هل تذهبين إلى المكتبة فعلًا لقراءة الكتب؟”
“نعم؟ بالطبع.”
“لماذا؟ هل تبحثين عن شيء؟ لا يمكن أن يكون فقط لأن الكتب ممتعة.”
انفجرتُ ضاحكة من تعبيره المفعم بالثقة.
كان مارفين طفوليًا بما يناسب عمره تمامًا، كأنه الأصغر بيننا حقًا.
“صحيح. في الحقيقة، أذهب لرؤية السير يوستي.”
“ماذا؟ حقًا؟ هل تعنين أنكِ، سيدتي-”
“هل تعتقد أنني جادة؟”
تجاوزتُ مارفين، الذي توقف مصدومًا، ودخلتُ غرفة الاستراحة التي وصلنا إليها لتوّنا.
كانت الغرفة مزدحمة كالمعتاد.
الجميع منهمكون بتناول الوجبات الخفيفة والدردشة.
بعضهم كان يقفز من مكانه دون سبب، ربما من فرط النشاط.
كانت إلويز تجلس في الزاوية، محتلة أريكة بمفردها.
شق مارفين طريقه بين الحشد المحيط بها وقال:
“نائبة القائد، لقد أحضرتُ السيدة.”
“آه.”
لكن إلويز لم ترفع رأسها.
انحنيتُ لأرى ما تفعله، فبدت وكأنها تلعب الشطرنج مع أحد الفرسان.
كانت تتذمر وتحك رأسها، ويبدو أن اللعبة لم تسر على ما يرام.
“ها نحن، الوقت يمر، نائبة القائد.”
قال خصمها وهو يبتسم بخبث.
ربما بسبب شعره الأشقر الذي يغطي رقبته، أو ضحكته المزعجة، بدا مستفزًا للغاية.
تقلص وجه إلويز كأنها على وشك سحب سيفها.
في تلك اللحظة، ظهر كارلايل خلف كرسيها كحارس، لا أدري متى وصل، وهمس لها بشيء.
فجأة، صرخت إلويز: “كش ملك!”
وفي الوقت نفسه، سحق حصانها ملك خصمها.
“هذا غش! لقد ساعدها السير يوستي!”
قفز الفارس واقفًا يصرخ، لكن إلويز لم تتحرك.
“غش؟ لا يوجد شيء كهذا في فرقة الفرسان الزرق.”
“نائبة القائد! لقد رأى الجميع-”
“هل تعني أنك لن تقبل الهزيمة؟”
حدقت إلويز في وجه الفارس المحتج.
تعبيرها الجاد لم يكن مجرد نقاش عن نتيجة الشطرنج.
في النهاية، غادر الفارس متذمرًا، وتفرق المتفرجون تدريجيًا.
استغللتُ الفرصة واقتربتُ منها أكثر.
لاحظتُ حينها أكوامًا من العملات الفضية فوق لوح الشطرنج.
‘هذا قمار، أليس كذلك؟’
جمعت إلويز العملات بسرعة ونظمت الطاولة، ثم أشارت لي بالجلوس أمامها.
“رأيتِ مشهدًا سيئًا.”
قالت بتعبير محرج.
“لا، لكن قالوا إنكِ تبحثين عني. هل هناك أمر ما؟”
“ليس أمرًا خاصًا. أردتُ فقط التقرب منكِ، سيدتي.”
“…ماذا؟”
“سمعتُ أنكِ أصبحتِ صديقة لجميع الفرسان الآخرين. مع كارلايل أيضًا. وحتى مع القائد سمعتُ أن لكما علاقة مميزة.”
“مميزة؟”
التعليقات لهذا الفصل " 15"