أن أكونَ سعيدةً.
هذا الشّيءُ الذي يبدو بسيطًا، لكنّهُ الأصعبُ في العالمِ، لم يكن بحاجةٍ إلى ذكرياتِ الماضي.
ولم يكن بحاجةٍ إلى اسمٍ لم أعد بحاجةٍ إليهِ.
<آمون سبينسر كانَ الوحيدَ القادرَ على تحقيقِ ما تريدُهُ جوليا.>
كما قالَ الصّوتُ، كانَ هناكَ شيءٌ واحدٌ أحتاجُهُ…
“هيّا، إلى مقر فرقةِ الفرسانِ بسرعةٍ.”
لم يكن سوى آمون سبينسر.
* * *
عندما وصلتُ إلى مقر فرقةِ الفرسانِ، توجّهتُ مباشرةً إلى مكتبِ آمون.
ركضتُ على الدّرجِ دونَ توقّفٍ، لكنْ عندما وقفتُ أمامَ البابِ، توقّفتْ خطواتي فجأةً.
رفعتُ يدي المرتعشة لأطرقَ الباب.
طَـرق، طَـرق—
كانَ الصّوتُ متقطّعًا بشكلٍ غيرِ طبيعيٍّ، كما لو كانَ يعكسُ خفقانَ قلبي.
“أنا.”
قبلَ أن يجيبَ آمون، فتحتُ البابَ فجأةً.
رأيتُهُ نصفَ واقفٍ من كرسيّهِ، متردّدًا.
“آنستي؟”
كانَ مندهشًا من ظهوري المفاجئِ، عيناهُ مفتوحتانِ على وسعهما.
تقدّمتُ بخطواتٍ واسعةٍ نحوَ مكتبِهِ، أمسكتُ كتفيهِ وأجلستُهُ.
ثمَّ تكلّمتُ بنبرةٍ جديّةٍ.
“السير سبينسر.”
“… نعم.”
أحسَّ بجديّةِ الموقفِ، فأومأَ بوجهٍ متصلبٍ.
كانت هذهِ أوّلَ مرّةٍ أواجهُهُ منذُ اعترافِهِ تحتَ مصباحِ الشّارعِ.
كانَ منَ الواضحِ أنّهُ يعرفُ ما سأفعلُهُ.
تحرّكَ حلقُهُ بقوّةٍ.
“أنا…”
ابتلعتُ ريقي، ونظرتُ إلى عينيهِ مباشرةً.
شعرتُ بحرارةٍ في وجهي، وخفقَ قلبي بعنفٍ.
كانَ أمرًا غريبًا.
لم تمرَّ سوى أيّامٍ قليلةٍ منذُ اعترافِهِ.
ومعَ ذلكَ، بدا وجهُهُ، الذي اعتدتُ رؤيتَهُ يوميًّا، محبوبًا جدًّا.
عيناهُ المرتجفتانِ بالتّوقّعِ والقلقِ، وحتّى رموشُهُ المنحنيةُ بشكلٍ غريبٍ، كانتْ كلّها مألوفةً وغريبةً في آنٍ.
تنفّستُ بعمقٍ.
كانَ جسدي يشتعلُ.
كنتُ أرغبُ في الاعترافِ لهُ بمشاعري المتدفّقةِ.
بدأتُ أتكلّمُ وأنا أتلعثمُ.
“لم يعد لي مكانٌ أعودُ إليهِ. وفي الحقيقةِ… لا أريدُ العودةَ كثيرًا.”
شددتُ قبضتي على كتفيهِ.
كنتُ أعلمُ أنَّ كلامي مشوّشٌ، لكنّهُ ظلَّ ينظرُ إليَّ بهدوءٍ.
“حتّى لو كُشفت جرائمُ راسيل واستعدتُ شرفَ عائلتي… بالمقارنةِ معكَ، أنا ناقصةٌ جدًّا.”
“آنستي، أنتِ دائمًا أكثرُ مما أستحقُّ.”
أجابَ دونَ تردّدٍ، رغمَ أنّهُ لم يفهم كلامي.
“ربّما لن أستطيعَ ردَّ ديوني لكَ، السير سبينسر.”
تذكّرتُ عندما استعادَ قلادتي واشترى لي فساتينَ.
ابتسمَ آمون بهدوءٍ.
“لا يهمُّ. قلتُ لكِ إنّني أملكُ الكثيرَ منَ المالِ. كنتُ أكذبُ. ليسَ كثيرًا، بل كثيرٌ جدًّا. لا داعي للقلقِ بشأنِ ذلكَ.”
ضحكتُ على نبرتِهِ المرحةِ.
نظرتُ إليهِ وواصلتُ.
“أنا لستُ بارعةً في الآداب النبيلة والراقية. قد أجدُ الأمورَ الطّبيعيّةَ غريبةً. قد أتحدّثُ عن أشياءَ عجيبةٍ أو أشتاقُ إلى أمورٍ مجهولةٍ.”
أومأَ آمون بهدوءٍ، كأنّهُ يقولُ إنَّ كلَّ شيءٍ على ما يرامُ.
“إذا… إذا كنتَ لا تمانعُ…”
“لا بأسَ. مهما كانَ.”
قاطعني قبلَ أن أكملَ.
كانت عيناهُ مليئتينِ بالتّوقّعِ.
“أنا، أقصدُ…”
بدأتْ يديَّ تعرقانِ.
لم أستطع مواجهةَ عينيهِ منَ الخجلِ.
تجنّبتُ نظراتِهِ.
تنفّستُ بعمقٍ وسألتُ فجأةً.
“هل ستأخذني؟”
“……”
“هلْ ستعيشُ معي طوالَ حياتكَ؟”
كانَ اعترافًا سخيفًا.
ندمتُ حالَ نطقي به.
أن أطلبَ منهُ أن يأخذني، أن نعيشَ معًا إلى الأبدِ؟
عضضتُ شفتي السّفلى بقوّةٍ.
كانَ اعترافي بعيدًا كل البُعد عن اعترافِهِ.
لم أفشل في نقلِ مشاعري فقط، بل أثقلتُ عليهِ.
ربّما أرادَ آمون علاقةً خفيفةً.
ربّما أرادَ مواعيدَ قليلةً، لا حياةً معًا.
بدأت أفكاري تتسارعُ خلالَ صمتِهِ القصيرِ.
كانَ يجبُ أن أدعوهُ إلى الخارجِ.
أو أختارَ مكانًا رومانسيًّا.
أو على الأقلِّ ألا أفتحَ البابَ بوقاحةٍ.
حتّى إمساكي بكتفيهِ بدا كتهديدٍ لا اعترافٍ.
تذكّرتُ أنّني لم أهتمَّ بمظهري قبلَ القدومِ، فشعرتُ بالإحباطِ.
كيفَ استطاعَ آمون الاعترافَ لي رغمَ هذا الضّغطِ؟
“أقصدُ، أعني…”
لم أتحمّل الصّمتَ وبدأتُ أتكلّمُ.
لكنَّ آمون وضعَ يدَهُ على يدي اللتينِ تمسكانِ بكتفيهِ.
ارتجفتُ من لمسةِ يدِهِ الباردةِ.
اقتربَ من يدي ببطءٍ، كما لو كانَ يعطيني فرصةً للتراجعِ.
قبّلَ ظهرَ يدي، أصابعي، وأطرافَ أظافري.
كانَ تصرّفُهُ كطقسٍ مقدّسٍ، لكنَّ نظراتُهُ كانت عميقةً.
اشتعلت يدي بكلِّ لمسةٍ.
لم أستطع تحريكَ إصبعٍ، تحمّلتُ نظراتِهِ.
“إذا سمحتِ لي…”
بدأَ يتكلّمُ وشفتاهُ على يدي.
شعرتُ بدغدغةٍ جعلت أصابعَ قدميَّ تنقبضُ.
كانَ صوتُهُ الأعمقُ منَ المعتادِ يملأُ الغرفةَ.
نظرَ إليَّ بأعتزاز وقال:
“أريدُ أنْ أكونَ إلى جانبِكِ حتّى نهايةِ حياتي.”
* * *
“أعتقدُ أنّهُ يجبُ إقامةُ حفلِ زفافٍ فورًا.”
“ماذا؟”
رددتُ على كلامِ آمون ببلاهةٍ.
كنا جالسينِ جنبًا إلى جنبٍ على أريكةِ المكتبِ، نتغازل تحتَ ستارِ وقتِ الشّاي.
كنا متلاصقينِ على طرفِ الأريكةِ الواسعةِ، ممسكينِ بأيدي بعضِنا، نلهو.
توقّفتُ عنْ رسمِ الأشكالِ على كفّهِ الكبيرِ ونظرتُ إليهِ.
“حفلُ زفافٍ؟ لمن؟”
“بالطّبعِ، زفافُنا أنا وأنتِ.”
“ماذا؟”
سقطت يدُ آمون من يدي إلى ركبتي.
“ألم تطلبي منّي العيشَ معًا إلى الأبدِ؟”
“حسنًا، نعم.”
“هلْ ستتراجعينَ عن وعدِكِ؟”
قالَ ذلكَ ووضعَ يدَهُ على كفّي.
لم أستطع مقاومة إيمائتِهِ، فعبثتُ بأصابعِهِ الطّويلةِ دونَ وعيٍ، ثمَّ هززتُ رأسي بسرعةٍ.
“لا، انتظر لحظةً.”
لم أكن أرفضُ الزّواجَ من آمون.
كما قالَ، أنا من تحدّثتُ عن الحياةِ معًا.
كنتُ صادقةً في اعتقادي أنّني سأكونُ سعيدةً معَهُ.
لكن… هكذا فجأةً؟
التّفكيرُ في الزّواجِ بعدَ ساعاتٍ منَ الاعترافِ؟
‘هل أنا الغريبةُ؟’
أربكتني جرأةُ آمون.
ربّما في هذا العالمِ، الاعترافُ خطوةٌ نحوَ الزّواجِ؟
“هل تحتاجينَ وقتًا للتّفكيرِ؟”
لحسنِ الحظِّ، سألَ آمون سؤالًا منطقيًّا.
أومأتُ بسرعةٍ.
“نعم، على ما يبدو.”
“هل ساعةٌ كافيةٌ؟”
“ماذا؟”
“أم ثلاثُ ساعاتٍ؟”
مالَ آمون نحوي، عيناهُ تلمعانِ بمكرٍ.
كانَ الموقفُ مشابهًا لما حدثَ قبلَ ساعاتٍ، لكنَّ الجوَّ مختلفٌ.
كانَ كذئبٍ مسكين يهزُّ ذيلَهُ.
نظرتُ إليهِ مذهولةً.
‘… هل كانَ هكذا دائمًا؟’
قائدُ فرقةِ الفرسانِ الزرق، الابنُ الثّاني لعائلةِ سبينسر، المبدئيُّ، الباردُ، اللامبالي…
كلُّ الصفاتِ التي وُصِفَ بها تنهارُ.
والمشكلةُ الأكبرُ أنّني لا أكرهُ ذلكَ، بل أشعرُ بالخفقانِ.
التعليقات لهذا الفصل " 136"