أمرني الصّوتُ بالذّهابِ إلى الجناحِ الملحقِ بقصرِ دوقِ بوليف.
كانَ المكانَ الذي شهدتُ فيهِ نهايةَ باميلا.
لم يكن بعيدًا عنْ غرفةِ نومِ راسيل، فتوجّهتُ إليهِ مباشرةً.
لكنَّ ذهني كانَ مليئًا بالتّساؤلاتِ.
‘نقلت باميلا إقامتَها إلى الجناحِ بعدَ موتِ راسيل.’
قالت إنّها فقدت وعيَها بعدَ موتِ راسيل مباشرةً.
إذا نُقلت إلى الجناحِ بواسطةِ شخصٍ آخرَ، فلن تكونَ قد أخذت دفترَ يوميّاتِها.
‘هل حملَهُ شخصٌ آخرُ؟’
إذا كانَ الدّفترُ يحملُ إجاباتِ أسئلتي، فلا يمكنُ أن تكونَ باميلا قد شاركتهُ معَ أحدٍ.
خاصّةً أنَّها كانت تحتَ مراقبةٍ شديدةٍ من راسيل.
لا يمكنُ أن يكونَ هناكَ شخصٌ تثقُ بهِ لتعهدَ إليهِ بدفترِها.
‘هل كانَ هناكَ حليفٌ لا أعرفُهُ؟’
كانَ هناكَ سؤالٌ آخرُ.
<بالأحرى، ابحثي عن دفترِ يوميّاتِ باميلا إليونورا الذي كتبت فيهِ أفكارَها.>
الصّوتُ الذي سمعتُهُ قبلَ قليلٍ، الممزوجُ بضحكةٍ خفيفةٍ كما لو كانَ يسخرُ منّي.
بعدَ موتِ باميلا، لاحظتُ أنَّ الصّوتَ في رأسي تغيّرَ بشكلٍ طفيفٍ.
لكنَّهُ لم يُظهر مشاعرَهُ بهذهِ الطّريقةِ من قبلُ.
‘باستثناءِ تلكَ الجملةِ، عادَ إلى نبرتِهِ الرّسميّةِ كما لو كانَ يقرأُ روايةً…’
ومعَ ذلكَ، لم يتلاشى شعورُ القلقِ.
“جئتُ لأتفقّدَ شيئًا.”
عندَ وصولي إلى الجناحِ، أظهرَ مارفين دبّوسَهُ لتأكيدِ هويّتِهِ.
لوّحَ الفرسانُ الذينَ يحرسونَ المدخلَ بأيديهم بلامبالاةٍ وسمحوا لنا بالدّخولِ.
كانَ موقفُهم مختلفًا تمامًا عن فرسانِ غرفةِ راسيل.
عندَ دخولي، أدركتُ السّببَ.
كانَ الجناحُ بأكملِهِ في حالةِ فوضى.
كأنّهُ يُحضَّرُ للانتقالِ، أو كأنَّ لصًّا اقتحمَهُ.
كان الأثاث خارجَ أماكنِه، والأغراضُ التي كانَ يجبُ أن تكونَ مرتبةً مبعثرةً.
“ما كلُّ هذا؟”
رأى مارفين دهشتي وشرحَ:
“كما تعلمينَ، الجميعُ يبحثونَ عنْ أيِّ ثغرةٍ في عائلةِ بوليف. سمعتُ أنّهمْ يفتّشونَ هنا بحثًا عن شيءٍ مخفيٍّ.”
“حسنًا…”
“لكن يبدو أنّهم لم يجدوا شيئًا.”
على عكسِ غرفةِ راسيل، لم يكن هذا مسرحَ جريمةٍ.
لم يكن هناكَ داعٍ للفرسانِ للحفاظِ عليهِ.
يبدو أنَّ موقفَ فالدي، الوريثَ المحتملَ لعائلةِ بوليف، لم يختلف كثيرًا.
‘إذا استطاعَ حمايةَ مكانٍ يتعلّقُ بهِ مقابلَ التّخلّي عن هذا الجناحِ، فسيكونُ ذلكَ مرحّبًا بهِ.’
نظرتُ حولي بوجهٍ مضطربٍ.
بالنظرِ إلى أفعالِ عائلةِ بوليف، كانَ هذا جزاءً عادلًا.
لكنّني قلقتُ من أنْ يكونَ فرسانُ الفرقةِ قد عثروا بالفعلِ على دفترِ يوميّاتِ باميلا.
‘على أيِّ حالٍ، أينَ أجدُ الدّفترَ؟ هل يجبُ أن أفتّشَ المكانَ بأكملِهِ؟’
كما لو كانَ يقرأُ أفكاري، أعطاني الصّوتُ تعليماتٍ.
<توجّهت جوليا إلى غرفةِ رئيسة الخدم.>
رئيسة الخدم؟ تذكّرتُ شخصًا واحدًا على الفورِ.
كانت الخادمة التي تديرُ الجناحَ بأكملِهِ، أقربَ المقرّبينَ إلى باميلا.
‘لكنَّها في الحقيقةِ كانت تابعةً لراسيل.’
على الرّغمِ منْ أنّها بدأت تتأثّرُ بشخصيّةِ باميلا وتشعرُ ببعضِ العاطفةِ الإنسانيّةِ، إلّا أنّها كانت جاسوسة.
‘بالمناسبةِ، أينَ ذهبت الخادمة؟’
لم أرَ أحدًا في الجناحِ سوى الفرسانِ.
لم يكن هناكَ حتّى خادمة واحدة، مما يعني أنَّ القصرَ تخلّى عن هذا الجناحِ.
ربّما أُعيدَ توزيعُ الأشخاصِ إلى أماكنَ أخرى.
كانَ ذلكَ في صالحي.
تبعتُ تعليماتِ الصّوتِ وتوجّهتُ إلى غرفةِ الخادمة.
كانت في نهايةِ الممرِّ الطّويلِ الذي يضمُّ غرفةَ باميلا.
“سيّدتي، إلى أينَ تذهبينَ؟”
سألَ مارفين وهوَ يتبعني.
يبدو أنّهُ لم يعد يستطيعُ كبحَ فضولِهِ منذُ قلتُ إنّني أريدُ رؤيةَ الجناحِ.
“أريدُ فقطْ التّجوّلَ قليلًا. هذا ليسَ مسرحَ جريمةٍ، لذا لا بأسَ، أليسَ كذلكَ؟”
“حسنًا، التّجوّلُ لا بأسَ بهِ…”
أومأَ مارفين بوجهٍ متردّدٍ.
حينَ حاولَ أن يتبعني، مددتُ يدي بسرعةٍ لأمنعَهُ.
“وحدي.”
حاولَ مارفين قولَ شيءٍ، لكنّهُ هزَّ رأسَهُ مستسلمًا، كما لو كانَ يتذكّرُ نقاشَنا في غرفةِ راسيل.
“حسنًا. عندما تنتهينَ، تعالي إلى غرفةِ الاستقبالِ.”
“نعم.”
بعدَ أنْ تخلّصتُ من مارفين أخيرًا، تجوّلتُ في الممرِّ بهدوءٍ.
تأكّدتُ أنَّ أحدًا منَ الفرسانِ المتجولينَ لا ينظرُ إليَّ، ثمَّ دخلتُ غرفةَ الخادمة بسرعةٍ.
لم تكن غرفةُ الخادمة مختلفةً كثيرًا عن باقي الأماكنِ.
كانتِ الأدراجُ مفتوحةً، والسّريرُ منحرفٌ بشكلٍ واضحٍ عنْ مكانِهِ.
إذا كانَ دفترُ يوميّاتِ باميلا هنا، فمنَ المؤكّدِ أنّهُ لن يكونَ سليمًا في هذهِ الأجواءِ.
<اقتربت جوليا منَ النّافذةِ.>
بوجهٍ متشكّكٍ، تبعتُ تعليماتِ الصّوتِ.
رأيتُ نافذتينِ مغلقتينِ بإحكامٍ في جانبِ الغرفةِ.
<فتحتِ النّافذةَ اليمنى وأخرجتْ جسدَها إلى الخارجِ.>
‘أخرجُ جسدي إلى الخارجِ؟’
توقّعتُ أن أجدَ مكانًا سرّيًّا كالمعتادِ، لكنَّ هذا كانَ مفاجئًا.
فتحتُ النّافذةَ بحذرٍ واقتربتُ.
عندما أنزلتُ رأسي، رأيتُ حديقةً مُعتنى بها جيّدًا وفرسانًا يحرسونَ المكانَ.
‘ماذا أفعلُ الآنَ؟’
بدأَ الخوفُ يتسلّلُ إليَّ، وكأنَّ أحدًا قد يدفعُني منَ الخلفِ.
<مدَّت ذراعَها إلى اليمينِ. عندما لمست النّحتَ البارزَ على الجدارِ الخارجيِّ، شعرت بخيطٍ رفيعٍ.>
نظرتُ إلى اليمينِ باتّباعِ الصّوتِ، وبالفعلِ كانَ هناكَ نتوءٌ على شكلِ عمودٍ.
لكن مهما مددتُ ذراعي، لمْ أستطع الوصولَ إليهِ.
“هاه…”
نظرتُ إلى الأسفلِ.
لم يكنِ المبنى مرتفعًا جدًّا.
إذا سقطتُ، قد أكسرُ يدي أو رجلي، لكنَّ حياتي لن تكونَ في خطرٍ.
المشكلةُ أنَّ قلبي النّابضَ لم يهدأ.
صعدتُ بركبتي على عتبةِ النّافذةِ.
معَ ارتفاعِ الرّؤيةِ، بدأَ قلبي ينبضُ بقوّةٍ أكبرَ.
أمسكتُ عتبةَ النّافذةِ بيدي اليسرى بقوّةٍ، وأخرجتُ جسدي إلى الخارجِ.
مددتُ ذراعي اليمنى المرتجفةَ.
‘قليلًا فقط، قليلًا أكثرَ…’
كلّما اقتربتُ منَ العمودِ، زادَ ميلانُ جسدي.
حتّى النّسيمُ اللّطيفُ شعرتُ بهِ كعدوٍّ.
حينها توقّفت.
لمستْ أصابعي العمودَ.
أوقفتُ تنفّسي وأسرعتُ بتفحّصِ العمودِ.
بينَ الخطوطِ المنحوتةِ، شعرتُ بخيطٍ رفيعٍ.
أمسكتُ الخيطَ بغريزةٍ.
<عندما سحبتِ الخيطَ، سقطَ دفترُ يوميّاتِ باميلا، الموضوعُ على عتبةِ النّافذةِ، إلى الأسفلِ.>
شعرتُ بثقلٍ في نهايةِ الخيطِ عندما سحبتُهُ.
قبلَ أنْ أتحقّقَ منهُ، أمسكتُ الخيطَ بقوّةٍ وألقيتُ بنفسي داخلَ الغرفةِ.
“هاه، هاه…”
بارتعاشٍ في ساقيَّ، هبطتُ على الأرضِ واستعدتُ أنفاسي.
ثمَّ تحقّقتُ منَ الشّيءِ المعلّقِ بالخيطِ.
كانَ يبدو كمجموعةٍ منْ أوراقٍ مختلفةِ الأحجامِ والموادِّ، مربوطةً معًا.
لو لم أعرف مسبقًا، لما ظننتُ أنّهُ دفترُ يوميّاتٍ.
‘ما هذا؟’
بعدَ تصفّحٍ سريعٍ، أدركتُ هويّةَ الأوراقِ.
منديلٌ ملطّخٌ بالطّعامِ، قطعةُ قماشٍ ممزّقةٍ، رباطُ ستارةٍ، منديلٌ يبدو أنّهُ مُقدَّمٌ منْ شخصٍ، زاويةُ جريدةٍ…
أوراقٌ متنوّعةٌ أوحتْ بالظّروفِ التي مرّتْ بها باميلا.
كانَ راسيل مهووسًا بها بشكلٍ مرَضيٍّ.
منَ المؤكّدِ أنّهُ لم يُسمح لها بكتابةِ يوميّاتٍ بحريّةٍ.
‘ربّما كتبت دفترَ يوميّاتٍ منفصلًا لتُريهِ لراسيل.’
لذا، لم يكن هذا دفترَ يوميّاتٍ بالمعنى التّقليديِّ.
بلْ كانَ شذراتِ ذكرياتٍ أرادت باميلا إخفاءَها بأيِّ ثمنٍ.
أمسكتُ الدّفترَ بقوّةٍ دونَ وعيٍ.
‘لكن لماذا خُبّئَ في غرفةِ الخادمة؟’
بغضِّ النّظرِ عن شعوري بالأسى، كانت الخادمة تابعة لراسيل.
حتّى لوْ تأثّرت بها، لم يكن هناكَ سببٌ لتخفيَ دفترَها بهذا الشّكلِ.
‘بل، حتّى بعدَ أن فقدت باميلا وعيَها، خبّأَ الدّفترَ عمدًا.’
مِلتُ رأسي متسائلةً، وقلّبتُ الصّفحةَ الأولى.
عندما قرأتُ الكلماتِ، فهمتُ مشاعرَ الخادمة قليلًا.
منَ المؤكّدِ أنّها أرادت حمايةَ كرامةِ باميلا الأخيرةِ.
ما كُتبَ كانَ سيبدو للغريبِ كتمتماتِ شخصٍ مختلٍّ عقليًّا.
اليومُ x منْ الشّهرِ x
رأيتُ عالمًا غريبًا في حلمي.
مبانٍ مرتفعةٌ تحجبُ الشّمسَ، وعرباتٌ غريبةُ الشّكلِ تختفي منَ الرّؤيةِ برمشةِ عينٍ، تملأُ الشّوارعَ.
التعليقات لهذا الفصل " 132"