منذُ أن أدركَ آمون سبينسر مشاعرَهُ لأوّلِ مرّةٍ، وبّخَ نفسَهُ مرارًا أنَّهُ لا يجوزُ لهُ أن يطمحَ إلى أيِّ شيءٍ.
تفاقمَ ذلكَ بعدَ سماعِهِ كلماتِ كارلايل.
بعدَ أن استرجعَ اللّيال الطّويلة التي قضاها معَ جوليا في منزلِ دولوريس، أدركَ أنَّ مشاعرَهُ بعيدةٌ كلَّ البُعدِ عن كونِها نقيّةً.
لو وضعَ في موقفٍ مشابهٍ مجدّدًا، لم يكن واثقًا من قدرتهِ على ضبطِ النّفسِ.
كانَ سيُريدُ بالتّأكيدِ أن يصلَ إليها، أن يلمسَها.
شعرَ آمون بالنّفورِ من مشاعرِهِ.
كانت أقربَ إلى رغبةٍ شديدةٍ ومظلمةٍ، تقعُ في نقيضِ الفروسيّةِ التي آمنَ بها طوالَ حياتِهِ.
لذا، لم يكن بإمكانِهِ أبدًا أن يعترفَ لجوليا بهذهِ المشاعرِ.
على الأقلِّ، قرّرَ أن يخفيَها عنها تمامًا.
لكن، كلّما وقفَ أمامَ جوليا، تحوّلَ آمون إلى شخصٍ متهوّرٍ.
كانَ إعلانُهُ المفاجئُ عن اعترافٍ وشيكٍ، وتسرّعُهُ في تحديدِ موعدٍ اليومَ، كلّهُ بسببِ ذلكَ.
لم يستطع كبحَ مشاعرِهِ المتفجّرةِ.
لم يكن يريدُ أنْ تُقرَّ بمشاعرِهِ، ولا أن تتطوّرَ علاقتُهما.
كلُّ ما أرادَهُ هوَ أن يُفصح بما يتأجج في طياتِ قلبهِ.
لم يستطع الصّبرَ دونَ ذلكَ.
كانَ متأكّدًا من ذلكَ…
لكنَّ آمون نظرَ بهدوءٍ إلى جوليا المعانقةِ لهُ.
كيفَ يُفسّرُ تصرّفَها؟
اندفعَ الخوفُ معَ الأملِ في قلبِهِ.
في السابقِ، تحتَ هذا المصباحِ ذاتِهِ، عانقتهُ جوليا.
كانَ ذلكَ بوضوحٍ منَ الشّفقةِ.
‘هل هذا أيضًا كذلكَ؟’
هل عانقتني لأنّها تشفقُ على مشاعري التي لا تستطيعُ قبولَها؟
كانت جوليا شخصًا طيّبًا.
ربّما لا ترى نفسَها كذلكَ، لكنَّ قلبَها كانَ أرقَّ من أيِّ أحدٍ.
موقفُها عندما سمعت قصّةَ طفولتِهِ يؤكّدُ ذلكَ.
ربّما بسببِ معرفتِهِ بهذا، اتّجهتْ أفكارُ آمون نحوَ السّلبيّةِ.
“بسببِ البردِ، لهذا.”
تسلّلَ صوتُها المتذمّرُ إلى صدرِهِ.
بهذهِ الكلماتِ، تأكّدَ آمون.
هذا رفضٌ لطيفٌ من جوليا.
لم يتوقّع أبدًا أن تبادلهُ مشاعرَهُ.
مقارنةً بأسوأ النّهاياتِ التي تخيّلَها، كانَ هذا الموقفُ إيجابيًّا إلى حدٍّ ما.
ومعَ ذلكَ…
“حقًّا؟”
ربتَ آمون على كتفِها بحذرٍ، مبتلعًا تنهيدةً عميقةً.
طيبةُ جوليا، التي أعطتهُ أملًا ولو ضئيلًا، آلمتْ قلبَهُ اليومَ بشكلٍ خاصٍّ.
* * *
لم يسأل آمون شيئًا، ولم يطالبني بردٍّ.
في جوٍّ منَ التّوترِ، عدتُ إلى قصرِ الدّوقِ، واستلقيتُ على سريري في غرفتي، غارقةً في التّفكيرِ مجدّدًا.
حبّي لآمون، والعيشُ معَ آمون في حبٍّ، شيئانِ مختلفانِ.
عندما أدركتُ أنَّ هذينِ الأمرينِ منفصلانِ، كما لو كانا لعبةَ كلماتٍ، فهمتُ أنَّ التّأكّدَ من مشاعري وإعطاءَهُ جوابًا نهائيًّا هما أيضًا أمرانِ مختلفانِ.
هذا لا يتعلّقُ بالخوفِ منَ المستقبلِ.
تذكّرتُ فجأةً حقيقةً مهمّةً كنتُ أغفلُ عنها.
<آمون سبينسر هوَ الوحيدُ الذي يمكنهُ تحقيقُ ما تريده جوليا.>
كانت تتعلّقُ بالصّوتِ الغامضِ الذي يُعتبرُ نقطةَ البدايةِ لكلِّ هذهِ الأحداثِ.
كيفَ قرأتُ هذا العالمَ ككتابٍ؟
لماذا أسمعُ هذا الصّوتَ في رأسي؟
ما هويّتُهُ؟
وما الذي أريدهُ حقًّا؟
لا يزالُ هناكَ الكثيرُ مما يجبُ حلّهُ.
الرّدُّ على اعترافِ آمون بتهوّرٍ في هذهِ الحالةِ سيكونُ تصرّفًا غيرَ مسؤولٍ.
‘لكن، إذا استمررتُ في عدمِ الرّدِّ؟’
سيُسيءُ آمون فهمَ مشاعري، وهذا أمرٌ مؤكّدٌ.
لا يمكنني أن أجرحَهُ بحقائقَ غيرِ موجودةٍ.
بينما كنتُ أفكّرُ، نهضتُ منَ السّريرِ فجأةً وقرّرتُ.
أسبوعٌ واحدٌ.
إذا لم أحلَّ الألغازَ خلالَ أسبوعٍ، سأتجاهلُ كلَّ ما يتعلّقُ بالمستقبلِ وأعترفُ لآمون بمشاعري.
توجّهتُ أوّلًا إلى قصرِ دوقِ بوليف.
بما أنَّ عائلةَ بوليف كانت تحتَ التّفتيشِ منذُ زمنٍ بسببِ قضيّةِ سيلينا، تمكّنتُ، برفقةِ مارفين، من التّجوّلِ في القصرِ دونَ صعوبةٍ.
“أنا أتبعُ أوامرَ القائدِ بتلبيةِ أيِّ طلبٍ منكِ، سيّدتي… لكن، ألا تخبرينني لماذا أتيتِ؟”
سألَ مارفين وهوَ يتبعني بخطواتٍ متثاقلةٍ.
هززتُ كتفيَّ بلامبالاةٍ ولم أجب.
لكن شعورًا بالذّنبِ لا مفرَّ منهُ ضغطَ على قلبي.
‘قالَ إنَّهُ سيلبّي أيَّ طلبٍ لي.’
كنتُ أعلمُ أنَّهُ يشعرُ بالإحباطِ من صمتي، لكنَّ هذا كانَ أمرًا يشبهُ آمون تمامًا.
“لنذهب إلى غرفةِ نومِ راسيل بوليف أوّلًا.”
“حسنًا.”
تقدّمَ مارفين دونَ اعتراضٍ.
عندما وصلنا إلى غرفةِ نومِ راسيل، تنفّستُ بعمقٍ.
منَ السّريرِ ذي السّتائرِ الحمراءِ إلى خزانةِ الزّينةِ التي تحملُ شمعدانًا، كانتِ الغرفةُ مطابقةً تمامًا لما رأيتُهُ أوّلَ مرّةٍ، باستثناءِ غيابِ جثّةِ راسيل.
‘هذا متوقّعٌ، إذ إنّها مسرحُ الجريمةِ.’
حذّرنا أحدُ أعضاءِ فرقةِ الفرسانِ الذي يحرسُ البابَ:
“انتهى التّفتيشُ، لكنْ عليكما الحذرُ.”
“حسنًا، فهمتُ.”
أجبتُ بطاعةٍ، ثمَّ قلتُ لمارفين الواقفِ عندَ البابِ:
“آسفةٌ، هل يمكنكَ تركي وحدي قليلًا؟”
“ماذا؟ حتّى لو كنتِ أنتِ، سيّدتي، أن تبقي وحدكِ في مسرحِ جريمةٍ…”
“أرجوكَ. ألم يقل إنّهُ سيلبّي أيَّ طلبٍ لي؟”
“… لكن.”
“على أيِّ حالٍ، انتهى التّفتيشُ، أليسَ كذلكَ؟ لن ألمسَ شيئًا. أريدُ فقط أن أفكّرَ وحدي.”
بعدَ نقاشٍ قصيرٍ، استسلمَ مارفين أخيرًا وغادرَ الغرفةَ بتثاقلٍ.
“خمسُ دقائقَ فقط.”
بقيتُ وحدي في غرفةِ راسيل، واجتزتُ الغرفةَ ببطءٍ.
توقّفتُ أمامَ خزانةِ الزّينةِ، كما لو كنتُ ممثّلةً تبحثُ عنْ موقعِها في مسرحيّةٍ.
كانَ هذا المكانَ بالضّبطِ.
المكانُ الذي سقطَ فيهِ الخنجرُ على الأرضِ، حيثُ رأيتُ جثّةَ راسيل، وحيثُ وصلتُ إلى هذا العالمِ لأوّلِ مرّةٍ.
‘تراجعتُ دونَ وعيٍ…’
خطوتُ خطوتينِ إلى الخلفِ.
بفضلِ بقعةِ الدّمِ المنظّفةِ، لم أنزلق.
‘ثمَّ نظرتُ إلى النّافذةِ.’
أدرتُ رأسي إلى اليمينِ، فرأيتُ النّافذةَ التي لا تزالُ في مكانِها، تعكسُ وجهي.
كنتُ قد صُدمتُ عندما رأيتُ وجهي أوّلَ مرّةٍ، لكنّهُ الآنَ مألوفٌ وهادئٌ.
‘ثمَّ سمعتُ طرقًا على البابِ…’
تذكّرتُ الجنديَّ الذي دفنَ وجهَهُ بيديهِ الكبيرتينِ وهوَ يبكي، وتخيّلتُ الممرَّ خارجَ البابِ بوضوحٍ.
‘بعدَ ذلكَ، بينما كنتُ أتساءلُ حائرةً عما يجبُ فعلُهُ، سمعتُ الصّوتَ لأوّلِ مرّةٍ.’
تذكّرتُ الصّوتَ الغريبَ الذي سمعتُهُ أوّلًا.
<سارعت جوليا ريتس بالتّحرّكِ.>
وقفتُ في مكاني، منتظرةً بهدوءٍ.
‘أرجوكِ…’
كانَ سببُ مجيئي إلى غرفةِ راسيل بسيطًا.
كما يُقالُ إنَّ الجانيَ يعودُ دائمًا إلى مسرحِ الجريمةِ، فكّرتُ أنَّ العودةَ إلى المكانِ الذي سمعتُ فيهِ الصّوتَ أوّلًا قدْ تجعلني أسمعُ شيئًا.
‘لأسمع شيئًا، أرجوكِ.’
أغمضتُ عينيَّ بقوّةٍ وتمتمتُ كمنْ يتلو أمنياته بيأس عميق.
‘لقد وجدتُ الجانيَ الحقيقيَّ، أليسَ كذلكَ؟ حانَ الوقتُ لتخبرينني. لقد فعلتُ كلَّ ما طُلبَ منّي.’
تحوّلتْ التمتمة الحارّةُ تدريجيًّا إلى عصبيّةٍ.
ربّما كانت فكرةً ساذجةً جدًّا.
ربّما عليَّ البحثُ عن طريقةٍ أخرى.
بينما كنتُ أتنهّدُ في يأسٍ، سمعتُهُ.
<سارعت جوليا ريتس بالتّحرّكِ.>
فتحتُ عينيَّ مندهشةً ونظرتُ حولي.
هلْ كانَ ذلكَ هلوسةً؟
كانَ الصّوتُ مطابقًا تمامًا للصّوتِ الأوّلِ.
لكنَّ الصّوتَ استمرَّ، كما لو كانَ يثبتُ وجودَهُ.
<كانَ هناكَ طريقةٌ واحدةٌ فقط لتجدَ إجاباتِ كلِّ الأسرارِ.>
كانَ شكلُ الصّوتِ مشابهًا جدًّا للصّوتِ الذي أرشدني للهروبِ من هنا أوّلًا.
شعرتُ وكأنّهُ يسخرُ منْ قلبي.
<البحثُ عن تلكَ التي تعرفُ الإجابةَ، باميلا إليونورا.>
“ماذا؟!”
صرختُ دونَ وعيٍ من صدمتي.
باميلا، بطلةُ هذهِ الرّوايةِ وزوجةُ راسيل بوليف، التي أخبرتني بصرامةٍ أنّني لن أعودَ إلى عالمي الأصليِّ… ثمَّ ماتت.
مثلما شعرتُ بالرّعبِ عندما عرفتُ أنّها صاحبةُ الصّوتِ في رأسي، انتابني القشعريرةُ.
“أجد شخصًا ميتًا؟ هل يبدو ذلكَ ممكنًا؟”
صرختُ نحوَ السّقفِ، أتساءلُ دونَ أن أعرفَ إن كانَ سيُسمعُ.
ثمَّ، كما لوْ كانَ ردًّا، جاءَ الصّوتُ.
<بالأحرى، ابحثي عن دفترِ يوميّاتِ باميلا إليونورا الذي كتبت فيهِ أفكارَها.>
وما أذهلني أنَّ الصّوتَ كانَ يحملُ نبرةَ ضحكةٍ خفيفةٍ.
التعليقات لهذا الفصل " 131"