قرأنا الرسالة من بدايتها إلى نهايتها مرّات عديدة.
كنا قد طلبنا من دولوريس أن تتواصل معنا إذا تذكّرت شيئًا متعلّقًا برسائلها مع دوق سبينسر، لذا حتّى لو لم يكن الأمر يتعلّق بالخزنة، ربّما كان هناك دليل آخر.
لكن مهما دقّقنا، لم نجد شيئًا متعلّقًا بذلك.
كانت الرسالة تحتوي في الغالب على تحيّات وشكر وأخبار عن صحّتها.
غادر آمون، الذي كان يقرأ الرسالة بجانبي، مكانه بوجه خائب.
“لا يبدو أنّها ستفيدنا كثيرًا.”
“… نعم، يبدو كذلك.”
رغم قولي هذا، استحوذت عليّ مشاعر غريبة، فلم أرفع عينيّ عن الرسالة.
بالأحرى، عن الجزء الأخير منها، الملحوظة الختاميّة.
“يبدو أنّ التحقيق في ماضي سيلينا ودار الأيتام لوديليون هو الحلّ الوحيد. لا يمكننا ضمان النجاح، لكن…”
“نعم، على الأرجح.”
“إذا لم ينجح ذلك، يمكننا اختيار أحد التواريخ التي ذكرتِها عشوائيًّا. هي ثلاثة خيارات، لذا احتمال النجاح ليس معدومًا.”
“نعم…”
بينما كنت أجيب آمون بإجابات غامضة، وأنا مثبتة عينيّ على الرسالة، تحدّث مارفين، الذي كان يقف متسمّرًا بجانبنا، وهو ينظر إلى الخزنة:
“لم يبقَ سوى ساعات قليلة، ألا يجب أن تتجهوا للإخلاء؟ لا نعرف مدى تأثير الانفجار.”
“بحسب تقدير كارلايل، ستنهار نصف غرفة الاستقبال. سنحتاج للإخلاء قريبًا.”
“أليس هناك أيّ طريقة؟ ربّما التهديد أو التعذيب-”
“لو كانت ستنطق بهذه الطرق، لفعلت منذ زمن… ولا أريد اللجوء إلى مثل هذه الأساليب.”
“حسنًا…”
بينما كنت أستمع بهدوء إلى حديث مارفين وآمون، بدأت أفكار مختلفة تتبادر إلى ذهني.
‘تاريخ، ماضي سيلينا، تعلّق، انفجار، تهديد… تهديد؟’
أعدت نظري إلى الرسالة.
شعرت وكأنّ نغمة مألوفة، لا يمكن أن أسمعها، ترنّ في رأسي.
‘ربّما…’
أمسكت الرسالة بقوّة ونهضت من مكاني فجأة.
* * *
توجّهت إلى غرفة الاحتجاز في مقرّ الفرقة حيث تُحتجز سيلينا.
“هل يمكنكم استدعاء السيّد كليفورد؟”
طرق الأعضاء الذين يحرسون الباب غرفة الاحتجاز.
خرج كليفورد ونظر إليّ بعيون متعجّبة.
“هل اكتشفتِ شيئًا؟”
“لستُ متأكّدة…”
عندما تحدّثت بصوت متردّد، ضيّق كليفورد عينيه ونظر إليّ.
“إذن؟”
“لكن يمكننا المحاولة.”
تحوّلت نظرته إلى الرسالة التي أمسكها بيدي بإحكام.
“لقد قرأتِ رسالة دولوريس.”
“نعم.”
“هل تنوين الدخول وحدكِ؟”
“… نعم، لأنّني لستُ متأكّدة.”
كان آمون وكارلايل منشغلين بالتحقيق في ماضي سيلينا.
لم أرد إضاعة وقتهما في شيء قد لا ينجح.
أومأ كليفورد بعد أن نظر إليّ للحظة، وتنحّى خطوة عن الباب.
“ادخلي.”
أمسكت مقبض الباب وطلبت من أعضاء الفرقة:
“لا يدخل أحد حتّى أطلب ذلك. مهما سمعتم من أصوات داخل الغرفة.”
تبادل الأعضاء النظرات بتردّد، ثمّ أومأوا.
“حسنًا.”
أخذت نفسًا عميقًا بحزم، ثمّ فتحت الباب.
أغلق الباب الحديديّ الثقيل خلفي بصوت خافت.
كانت سيلينا مستلقية على الطاولة بنفس الوضعيّة السابقة.
بين خصلات شعرها الأسود المبعثرة، رأيت عينيها فاقدتي التركيز.
بدلًا من الاقتراب منها، وقفت عند الباب وأغمضت عينيّ.
تذكّرت النغمة التي سمعتها مرارًا في الحلم، أو بالأحرى، في ذكريات الماضي الحيّة.
“… ملاكي الصغير.”
كانت المقطوعة الأولى التي غنّيتها بصوت مرتجف هي التهويدة التي كانت أمّي تغنّيها لي حتّى شعوري بالملل.
“بعد أن تهطل العاصفة، ستظهر أشعّة الشمس الصافية.”
“ماذا تفعلين؟”
سمعت صوت سيلينا الحادّ مع رنين الأغلال.
واصلت الغناء بعيون مغلقة.
“ملاكي الصغير، بعد الليل المظلم، سيأتي صباح مشرق.”
“سألتكِ، ماذا تفعلين؟”
“ملاكي الصغير، نحن الآن نودّع بعضنا…”
فتحت عينيّ ونظرت إلى سيلينا مباشرة.
كانت قد رفعت رأسها بتصلّب وتنظر إليّ بحدّة.
تسارع نبض قلبي.
بدلًا من كلمات التهويدة المألوفة، غنّيت كلمات أخرى:
“… لكننا سنلتقي، سنلتقي حتمًا مرّة أخرى.”
قبل أن أكمل المقطوعة، اندفعت سيلينا نحوي.
سقط الكرسي المقيّد بقدميها مع صوت قويّ، بينما لم يتحرّك المكتب الضخم، ممسكًا بها في مكانها.
“كيف… كيف عرفتِ؟”
نظرت إليّ سيلينا بعيون متأججة بعد أن تقدّمت بضع خطوات فقط.
كانت الأغلال تشدّ يديها وقدميها، ومن المؤكّد أنّ ذلك مؤلم، لكن تعابيرها بدت وكأنّها لا تكترث.
تظاهرت بالهدوء وواصلت الكلام الذي أعددته:
“كلمات التهويدة الأصليّة ليست هكذا، أليس كذلك؟”
“لذا أسألكِ، كيف عرفتِ؟”
كان صوت سيلينا المكبوت يرتجف.
“الكلمات الأصليّة هي ‘غدًا عندما تفتحين عينيكِ، سنلتقي’… لكن تغييرها إلى ‘سنلتقي حتمًا مرّة أخرى’ كان لأنّها كانت تعلم أنّكما لن تلتقيا غدًا.”
“……”
“أمّكِ الحقيقيّة هي التي غنّت لكِ هذه التهويدة.”
صدر صوت قويّ آخر عندما حاولت سيلينا الاندفاع نحوي مجدّدًا، فسقط الكرسي مع ضجيج حاد، كما لو كان يصرخ نيابة عنها.
أكّدت ردّة فعلها أنّني لستُ على الطريق الخاطئ.
كانت هذه المرّة الأولى التي أرى فيها سيلينا مضطربة إلى هذا الحدّ.
ما كتبته دولوريس في الرسالة كان معلومة تبدو تافهة للوهلة الأولى.
ملحوظة ختاميّة:
قد يبدو الأمر تافهًا، لكنّني تذكّرت شيئًا غريبًا.
كانت تلك الفتاة تغنّي كلمات التهويدة بشكل خاطئ.
كانت تغنّي المقطوعة الأخيرة بشكل مختلف تمامًا.
حاولت تصحيحها مرّات عديدة، لكنّها لم تغيّرها.
ربّما يكون ذلك مفيدًا.
عندما قرأت تلك الملحوظة، خطرت لي فكرة أنّ كلمة المرور لفتح الخزنة قد تكون تاريخًا آخر مرتبطًا بماضي سيلينا.
ربّما، على سبيل المثال، اليوم الذي تُركت فيه في دار الأيتام.
المشكلة هي أنّه حتّى لو علمنا ذلك، فالتواصل مع دولوريس أو البحث في سجلّات دار الأيتام مستحيل.
لذا، الطريقة الوحيدة المتبقّية لي هي…
‘التهديد.’
“لقد وجدتُ أمّكِ الحقيقيّة.”
“ماذا؟”
“روت لي بحزن كيف غيّرت كلمات التهويدة.”
قرّرت المغامرة مرّة أخرى لخداع سيلينا تمامًا.
كلمة المرور هي إحدى التواريخ الثلاثة، كلّها في ديسمبر.
“في شتاء ديسمبر البارد، اضطرت لترككِ في دار الأيتام…”
جلست سيلينا على الأرض فجأة.
“أين… كيف…”
تمتمت كأنّها فقدت صوابها، ثمّ دفنت وجهها في يديها.
“لماذا… لماذا تركتني؟ لماذا لم تأتِ للبحث عنّي؟ قالت إنّنا سنلتقي حتمًا مرّة أخرى…”
“إذا كنتِ تريدين معرفة ذلك، التقي بها بنفسكِ.”
رفعت سيلينا رأسها فجأة.
كانت ملامحها مليئة بالتوتر والارتباك، وبريق من الأمل.
شعرت بشعور غريب.
قتلت العديد من الأشخاص المهمّين، دون أدنى شعور بالذنب،
لكنّها تُظهر هذا الموقف تجاه والديها.
“أين هي؟ أين؟”
سألت سيلينا وهي تتحسّس الأرض، كأنّها مستعدّة للزحف لملاقاتها.
نظرت إليها وأنا أقف متصلبة.
“إنّها في غرفة الاستقبال، بجانب خزنتكِ الكبيرة.”
“ماذا؟”
“لم يبقَ سوى ساعات قليلة.”
تظاهرت بعدم الاكتراث وأكملت:
“إنّها لا تعرف شيئًا. لا تعرف أنّها خزنة، ولا أنّها ستنفجر إذا لم تُفتح.”
“ماذا تقولين…”
“نطاق الانفجار كبير جدًّا. قالوا إنّ نصف غرفة الاستقبال سينهار…”
تشوّه وجه سيلينا بغضب.
خدشت أظافرها الأرضية الملساء بصوت مزعج.
“هل تهدّدينني؟”
“أعطيكِ فرصة. هذه المرّة، أنتِ من ستتركين والدتكِ. ماذا ستفعلين؟”
التعليقات لهذا الفصل " 125"