في زقاق مظلم لا تصله أنظار الناس، أخفضتُ رأسي واتّجهتُ نحو مكان عرفته مسبقًا.
في نهاية ممرّ ضيّق يكاد يتّسع لشخص واحد، يوجد قضبان حديديّة تبدو متينة للوهلة الأولى.
بعد هزّها بيدي عدّة مرّات، انفصلت القضبان بسهولة.
كلّ شيء كما أخبرني هايدن بوليف.
انحنيتُ ودخلتُ الممرّ.
أعدتُ تثبيت القضبان من الداخل، ثمّ التقطتُ حجرًا صغيرًا من الأرض ورميته.
على الرغم من كوني رميته بكلّ قوّتي، تدحرج الحجر دون أن يصطدم بشيء.
ابتلعتُ ريقي وأمسكتُ الخنجر المخفي في صدري بقوّة.
في نهاية هذا الممرّ يوجد راسيل بوليف.
الآن… لا عودة إلى الوراء.
حان وقت إنهاء الخطّة الطويلة.
كم من الوقت زحفتُ في الممرّ الضيّق؟
غمرني الهواء الحار الرطب، وخرجت أنفاسي متسارعة.
لكن الجسد المتعرّق المتّسخ، والركبتان المؤلمتان من الاحتكاك، لم يكونا يستحقّان الانتباه.
ركّزتُ كلّ حواسي على نهاية الممرّ التي بدت تلوح.
حسب كلام هايدن، نهاية الممرّ تؤدّي إلى غرفة نوم راسيل بوليف.
جلستُ بهدوء وركّزتُ على الأصوات الخارجيّة.
لكن لم أسمع شيئًا.
إذا كان راسيل نائمًا بالفعل، فهذا حسن، لكنّه قد يكون لم يصل بعد.
فكّرتُ قليلًا.
مواجهة راسيل وجهًا لوجه خطر جدًا، لذا يجب أن أنتظر حتّى ينام.
إذًا…
ألصقتُ أذني بالممرّ المسدود وتحقّقتُ لفترة طويلة، ثمّ بدأتُ أعبث بالجدار كما أخبرني هايدن.
عند تحريك قطع خشبيّة تبدو عاديّة، رنّ صوت خافت واهتزّ خزانة زينة.
بقيتُ متجمّدة في مكاني، لكن لم يظهر أيّ أثر لأحد من الخارج.
أمسكتُ الخنجر بقوّة ودفعته بحذر.
تحرّكت الخزانة بسهولة إلى الجانب، وتدفّق الضوء إلى الممرّ.
فتحتُ عينيّ رغم الألم الذي يجتاحني بشدته الحادة.
وكان المشهد أمامي…
سقط الخنجر من يدي على الأرض.
لم أفكّر حتّى في التقاطه، وحدّقتُ بدهشة في المشهد أمامي.
خلف سرير فاخر مغطّى بستائر حمراء، رأيتُ طاولة شاي مقلوبة.
بجانبها، كوب شاي مكسور وماء متسرّب، وأخيرًا…
رأيتُ راسيل بوليف منهارًا.
كان يمسك صدره بقوّة، محدّقًا في السقف بعيون مفتوحة.
لا جروح ولا دماء، لكنّي عرفتُ بحدسي.
مات راسيل بوليف.
“…آهـ، آهـ…”
لم يخرج منّي سوى أنين غبيّ.
مات راسيل.
بيد شخص آخر غيري.
جلستُ بدهشة أحدّق في الجثّة وتمتمتُ دون تمالك نفسي:
“كـ.. لا…”
تلعثمتُ والتقطتُ الخنجر من الأرض.
زحفتُ كالمجنونة حتّى وصلتُ إلى جثّة راسيل.
كان يحدّق بعيون حمراء مخيفة.
قميصه الأبيض المفتوح كالمعتاد كان مجعّدًا بشدّة.
لم تكن هناك أيّ جروح.
“لا، لا… لا يمكن، لا!!”
لم أتمالك ذلك الشعور المجنون المروع وأمسكتُ بياقته.
كانت بشرته لا تزال دافئة.
ربّما لم يمت بعد.
هززته بعنف.
“استيقظ، استيقظ!”
رغم اصطدام رأسه بالأرض بقوّة، لم يتحرّك راسيل.
انتهى كلّ شيء.
انتهى انتقامي بهذا الشكل البائس.
كم من الوقت تحمّلتُ من أجل قتل راسيل؟
كم تخلّيتُ عن أشياء، وكم كانت عزيمتي كبيرة؟
امتلأت عيناي بالدموع والإحباط.
لكن في غضبي العميق، شعرتُ بشعور غير مرغوب يتسلّل إليّ.
الراحة.
راحة لعدم اضطراري لقتل راسيل، لقتل إنسان.
تسرّبت قشعريرة مرعبة إلى جميع أنحاء جسدي.
كيف أفكّر هكذا أمام عدوّ والديّ؟
بدأتُ أراجع مشاعري.
هل كانت عزيمتي بهذا الحدّ فقط؟
لو لم يمت راسيل، هل كنتُ سأنفّذ الخطّة؟
هل كنتُ سأغرز هذا الخنجر في قلبه؟
هل كنتُ سأهرب؟
هل كان كلّ ذلك الصبر والتضحيات والعزيمة حقيقيّة؟
هل غضبي العارم في قتل راسيل…
… حقيقيّ؟
ارتجفت يدي التي تمسك الخنجر.
أعدتُ قبضه بقوّة.
‘جوليا، اعتني بنفسكِ. ابتعدي قدر الإمكان.’
‘اذهبي، بسرعة!’
استعدتُ الذكريات.
الألم، الغضب، الحسرة، شعور الفقدان المقيت.
يجب أن أثبت غضبي.
حدّقتُ في عيون راسيل الحمراء، وغرزتُ الخنجر في صدره.
كان إحساس تمزيق الجلد غريب.
دوك، دوك— شعرتُ بدمائهِ التي لا تزال تجري.
سمعتُ صوت شيء ينقطع، وعلق النصل بالعظام.
أم أنّ هذا كلّه وهمي؟
سمعتُ صوت أمواج من مكان ما.
شممتُ رائحة مألوفة.
نادى أحدهم اسمي.
أمي وأبي يلوّحان لي بسعادة…
تدفّق الدم كنافورة.
كان الدم على وجهي مالحًا.
ربّما كان ماء البحر.
شـق— اخترق النصل صدر راسيل مرّة أخرى، وحدّقتُ في البحر بدهشة.
كانوا ينادونني، كأنّهم يقولون إنّه يمكنني التوقّف الآن.
حرّكتُ يدي بلا إحساس.
حدّقتُ في جثّة راسيل بعيون فارغة.
انهار شيء ما بداخلي.
لم أعد أشعر بشيء، ولا أستحقّ الشعور.
نهضتُ.
عبرتُ بركة الدم الغزيرة، واتّجهتُ ببطء نحو البحر.
حيث ينتظرني أمي وأبي.
فقدتُ يدي قوتها.
* * *
ومض ضوء القمر على النصل مرّة أخرى.
حدّقتُ بدهشة في وجهيْنا المنعكسين على النصل.
كنتُ أعرف ما حدث بعد ذلك.
لحظة سقوط الخنجر من يد جوليا، كانت تلك اللحظة التي وصلتُ فيها إلى هذا العالم لأوّل مرّة.
وكانت تلك اللحظة التي نجحتُ فيها في الانتحار.
في نفس اللحظة بالضبط، تخلّى أحدهم عن الانتقام، وفشل الآخر فيه.
أنهى أحدهم حياته، وتخلّى الآخر عن إرادة العيش غارقًا بأعماق يأسه المفجع.
فقدتُ جسدي، وفقدت جوليا روحها.
هل كلّ هذا مجرّد صدفة؟
هل تشابه حياتي وحياة جوليا من البداية إلى النهاية؟
لا يمكن أن يكون كذلك.
شعرتُ بحدسي أنّني وهي كنا واحدًا منذ البداية.
عشنا منقسمتين في عالمين.
كنتُ جوليا، وكانت جوليا هي أنا.
“آآهـ…”
تنهّدتُ بعمق وأخفضتُ رأسي.
ألمي، وألم جوليا.
ألم شخص واحد يبدو كأنّه اثنان، اخترق قلبي.
اتّخذنا خيارات مختلفة في عوالم مختلفة، لكن وجهتنا النهائيّة لم تختلف كثيرًا.
الآن فهمتُ لماذا وصلتُ إلى هذا العالم، ولماذا دخلتُ جسد جوليا بالذات، ولماذا تلاشت ذكرياتي تدريجيًا واندمجتُ مع جوليا.
لكن حتّى مع تبدّد الضباب، كان هناك جزء لا يزال غير مرئي.
إذا كانت روحي وروح جوليا تتردّدان معًا، فلماذا قرأتُ هذا العالم ككتاب؟
من هو هذا الصوت الغامض في رأسي؟
وما هويّة باميلا وماذا كانت تعني بكلامها؟
<لقد استطاعت أن تجد. ما تريده حقًا.>
رفعتُ الخنجر المغروز عموديًا في الأرض.
حدّقتُ مباشرة في سيلينا التي لا تزال فاقدة للوعي.
‘ما أريده حقًا.’
شعرتُ بحدسي أنّ مفتاح حلّ كلّ الألغاز موجود هنا.
كان عليّ أن أجده.
ما أريده حقًا.
لذلك…
عضضتُ على أسناني وحدّقتُ في سيلينا.
اندلعت بداخلي نيران شديدة وعارمة..
تحمل في طياتِ هيجانها مشاعر مختلطة من الغضب والذنب اللذان بلغا أشدهما.
كنتُ أعرف.
إحساس طعن إنسان، وإحساس تمزّق الروح إلى عشرات الأجزاء.
الإهانة التي أعادها لي الانتقام.
لم أستطع تكرار نفس الخطأ.
كان عليّ تجاوز مرحلة أخرى.
رفعتُ تنّورتي ببطء وأعدتُ الخنجر إلى غمده.
ثم تحرّكتُ بسرعة حتّى لا أفكّر في شيء آخر.
أوّلًا، أخذتُ الحبل الذي قيّد يديّ وربطتُ يدي وقدمي سيلينا.
نزعتُ الأقمشة التي تغطّي النوافذ، واخترتُ بعض الأقمشة النظيفة وفرشتُ الباقي على الأرض.
أضجعتُ سيلينا هناك، وخلعتُ ملابسها.
وضعتُ قماشًا نظيفًا على جرحها العميق وضغطتُ بقوّة لبدء إيقاف النزيف.
التعليقات لهذا الفصل " 114"