عبرتُ القرية التي كانت ذات يوم تابعة لعائلة ريتس ودخلتُ الغابة.
كانت تلك الغابة نفسها التي التقيتُ فيها بتيو سابقًا.
تسلّلت رائحة البحر القادمة من بعيد إلى أنفي.
‘جوليا، اعتني بنفسك. ابتعدي قدر الإمكان.’
‘اذهبي، بسرعة!’
كما حدث من قبل، هاجمت ذكريات متقطّعة عقلي بمجرد وصولي.
بل ربّما كانت أقوى هذه المرّة.
كانت الذكريات أكثر وضوحًا، وأكثر إيلامًا، وأثارت غضبي أكثر.
وجه أمّي تصرخ، وأطراف أصابعها تمتدّ نحوي…
“هاه…”
أغمضتُ عينيّ بقوّة وتنفّستُ بعمق.
لم يكن هناك وقت للغرق في الذكريات.
إن فعلتُ، سأرتعب قبل الوصول إلى قصر ريتس، كما حدث سابقًا.
‘قرّرتُ العودة بعد حلّ كلّ شيء…’
لكن الآن، لم يعد بإمكاني الهروب.
نظرتُ عبر الغابة.
كان البحر يتلألأ تحت أشعّة الشمس.
تقدّمتُ ببطء بين الأشجار.
هبّت ريح بحريّة قويّة فبعثرت شعري، ثمّ ظهر قصر كبير أمامي.
انقطع نفسي فجأة.
على الرغم من أنّني أرى القصر لأوّل مرّة، شعرتُ بالحنين.
كأنّني عدتُ أخيرًا إلى بيتي.
كان القصر مبنيًا من الحجر الأسود، على بضع خطوات من البحر.
كانت هناك خدوش على الجدران وكثير من الطحالب.
لم يكن ذلك بسبب إهمال الصيانة فحسب، بل بسبب رياح البحر.
ربّما كان هذا متوقّعًا منذ بناء القصر هنا، مفضّلين القرب من البحر على المظهر الأنيق.
كان الباب الرئيسي مفتوحًا نصفه، يصدر صوتًا مزعجًا وهو يتأرجح.
دخلتُ، فاستقبلتني ساحة أماميّة صغيرة مقارنة بحجم القصر.
كانت الساحة مهجورة بشكل مفرط.
كأنّ أحدًا حفرها بعشوائيّة دون ترتيب، مليئة بالحفر مغطّاة بالنباتات المتوحّشة.
كان ذلك من فعل راسيل بلا شكّ.
بحجّة باميلا، حفر واقتلع كلّ زهرة في هذا المكان.
كبحتُ غضبي بصعوبة ودخلتُ القصر.
لحسن الحظّ أو لسوئه، فُتح الباب بسهولة.
دخلتُ وأنا مستعدّة، لكن الداخل كان نظيفًا نسبيًا بشكل مفاجئ.
ربّما أُخذت الأشياء القيّمة، فبدت فارغة بشكل مبالغ فيه، لكنّها لم تكن كخراب يوشك على الانهيار.
كان آمون محقًا.
مثلما استطاع سكّان القرية العيش كالمعتاد بعد سقوط عائلة ريتس، تُرك هذا القصر مهملًا تحت لا مبالاة راسيل.
توجّهتُ نحو نافذة كبيرة ممزّقة الستائر نصفها.
كان البحر مرئيًا بوضوح من خلالها.
‘هنا… كان هناك أريكة هنا تقريبًا.’
تخيّلتُ منظرًا لم أره من قبل بوضوح، وشعرتُ بدافع لا يُقاوم.
جررتُ أريكة ملقاة عشوائيًا إلى النافذة.
“هاه…”
كانت أثقل ممّا بدت، فشعرتُ بالإرهاق، لكن رؤية الأريكة في مكانها الصحيح حسّنت مزاجي قليلًا.
بدأتُ من الأريكة، وأعدتُ ترتيب الأثاث في القاعة إلى أماكنه الأصليّة.
نقلتُ كرسيّ أمّي المفضّل إلى المدفأة، وأعدتُ ترتيب مصباح مكسور الزجاج على طاولة جانبيّة.
بصعوبة، أعدتُ رفع طاولة ساقطة، فظهر أخيرًا المنظر من ذكرياتي.
جلستُ على الأريكة أحدّق في البحر.
على الرغم من التغيّرات، كان البحر وأمواجه كما هي.
بعد فترة طويلة من التأمّل، نهضتُ.
دون تفكير، كما حدث عند زيارتي لهايدن، تحرّكت خطواتي تلقائيًا.
قادتني إلى غرفتي في أعماق القصر.
لم يكن هناك ما يشير إلى أنّها غرفة جوليا، لكنّني عرفتُ بحدسي.
كانت الغرفة كما هي، باستثناء رفّ كتب كبير ساقط.
نظرتُ إلى الكتب المتناثرة على الأرض.
كانت هناك أنواع مختلفة، بما في ذلك رواية قرأتها في مكتبة الفرسان.
‘هل أذواقنا… متشابهة؟’
بشعور غريب، ركزتُ على الكتب.
بينما أتفحّصها جالسة القرفصاء، جذبتني إحداها بشكل غريب.
كانت رواية عاديّة، جزءًا من سلسلة من حوالي عشرة مجلّدات.
لكنّ الجزء الرابع فقط كان يجذبني بقوّة.
عندما فتحتُ الصفحة الأولى من الجزء الرابع، عرفتُ سبب الانجذاب.
-الإثنين، 14 يونيو-
لم أدخل البحر اليوم أيضًا.
قالت أمّي إنّ الجوّ لا يزال باردًا.
أمّي قلقة جدًا، هذه مشكلتها.
السباحة بجدّيّة كافية لتحمّل هذا البرد.
‘هذا…’
قلّبتُ الصفحات بسرعة.
كان مذكرات مغطّاة بغلاف مزيّف.
مذكرات جوليا ريتس الحقيقيّة.
خفق قلبي بقوّة.
هل تخفي هذه المذكرات سرًا كبيرًا؟
هل هذا سبب دعوة الصوت لي إلى هنا؟
‘ما أريده حقًا… هل سأعرفه بقراءتها؟’
جلستُ على السرير وفتحتُ الصفحة الأولى.
كانت المذكرات السميكة مليئة بسجلّات عام كامل قبل سقوط عائلة ريتس بسبب راسيل.
* * *
في السرير المغطّى بالغبار، وأثناء تجوّلي في غرفة المعيشة، وعلى كرسيّ أمّي المفضّل، قرأتُ المذكرات طوال الليل.
تذكّرتُ بعض الذكريات أثناء القراءة.
نعم، حدث هذا.
نعم، كنتُ سعيدة جدًا حينها.
سالت دموعي، وضحكتُ أحيانًا.
ذكريات لم أعشها أثارت الحنين.
لكن ذلك كلّه.
لم أجد أيّ دليل عن سبب دخولي في جسد جوليا، أو عن “ما أريده حقًا”.
عدتُ إلى الغرفة وأعدتُ المذكرات إلى مكانها.
استلقيتُ على السرير المغطّى بالغبار، أحدّق في السقف ببلاهة.
ضيّعتُ نصف يوم في قراءة المذكرات، لكنّني لم أندم.
شعرتُ فقط بحنين عميق.
أغمضتُ عينيّ.
‘لو رأتني أمّي مستلقية على السرير بملابس الخروج، لوبختني. بل ربّما صُدمت من نومي على سرير متّسخ كهذا.’
ابتسمتُ تلقائيًا.
جاءني النعاس الذي تأخّر طوال الليل.
سمعتُ لحنًا مألوفًا من مكان ما.
كان تهويدة كانت أمّي تغنّيها لي في طفولتي.
كنتُ في حضن أمّي، أغمض عينيّ.
كانت يدها الناعمة تمسح شعري.
أردتُ فتح عينيّ لأرى وجهها، لكن جفوني الثقيلة لم تتحرّك.
أدركتُ فجأة أنّني أحلم.
أمّي ماتت بالفعل، لم تَعُد قادرة على غناء التهويدة لي.
‘…كلا.’
حاولتُ طرد الفكرة، مقنعة نفسي أنّه ليس حلمًا، لكن دون جدوى.
ابتعد الحضن الدافئ.
خفت التهويدة.
وبدلًا من ذلك…
“كح، كح!”
سدّ شيءٌ نفاذ رئتيّ.
لم أتمكّن من كبح السعال وفتحتُ عينيّ فجأة.
غطّيتُ أنفي وفمي بيدي غريزيًا وأوقفتُ تنفّسي.
‘ما هذا؟’
نظرتُ حولي بوجهٍ مذهول، لكن لم يتغيّر شيء منذ نومي.
كانت غرفة جوليا كما هي، ولم أرَ شيئًا غريبًا.
لكن، حتّى دون رؤيته، علمتُ.
هناك شيء… شيء يملأ هذه الغرفة.
‘يجب أن أخرج.’
قفزتُ من السرير وجذبتُ مقبض الباب بسرعة.
كما توقّعتُ، كان الباب موصدًا.
ضربتُ الباب بقبضتي ودفعته بكتفي، لكنّه لم يتحرّك.
“هاه-”
أصبح التنفّس أصعب.
بدأت عيناي تؤلمانني.
بحثتُ في ساقي عن الخنجر، لكن قبل أن أسحبه من غمده، بدأت يدي تفقد قوتها.
‘كلا… هل هذه النهاية…’
انزلقتُ إلى الأرض متكئة على الباب.
أصبح رأسي مشوشًا فجأة، وخفت وعيي تدريجيًا.
التعليقات لهذا الفصل " 110"