فصل جانبي 3
تنهد سير بعمق. كانت آلي صديقة عزيزة عليه، ولم يكن ليستطيع خسارتها في مكان كهذا. لذا تراجع عن فكرة الهجوم ورفع يديه عاليًا.
“أستسلم.”
وبمجرد أن قالها، أمسكت عصابة الرجل بسير، وقيدته أيدٍ خشنة على جسده الصغير.
“مع أنك استسلمت، إلا أنك صعب المراس.”
نقر سير بلسانه.
“وأنت تتصرف بهدوء كبير على شخصٍ أُمسك به.”
قال الرجل وهو ينظر إليه بنفاد صبر، وكأنه كان يريد أن يراه مرتعبًا أو مذهولًا.
لكن سير لم يكن مثل الأطفال الآخرين في سنه.
فوالده كان أعظم سياف، ومعلمه أفضل فارسٍ مقدّس. أما والدته إيرين القديسة فكانت لطيفة جدًا، لكنها لم تمنع والده أو معلمه من تدريبه بصرامة.
‘وقد كنت أنا من أراد ذلك منذ البداية.’
فقد كان حلم سير أن يصبح قويًا وصلبًا مثل والده ومعلمه.
“لا تظن أني أشعر بالخوف.”
قالها ساخرًا، فازداد انزعاج الرجل واقترب منه يحدّق فيه بعينين حادتين، لكنه لم يمد يده نحوه.
‘يا للأسف.’
بلّل سير شفتيه الجافتين بلسانه. لم يعلم الرجل أن سير لم يكن طفلًا عاديًا.
فمنذ ولادته، نال بركة الحاكمة، وبفضلها، إن أُصيب بجرح بالغ، تتمكن أمه من معرفة مكانه فورًا.
كانت تلك عناية رتبتها الحاكمة خصيصًا من أجل إيرين كثيرة القلق.
وهذا يعني أن رييه أيضًا تحمل البركة نفسها.
كانا ابني شخصٍ محبوب من العالم، وهذه كانت ميزة ولد بها سير.
“أسرعوا وخذوه.”
“ولم العجلة؟”
سأل أحد أفراد العصابة، فأجاب الرجل:
“لا بد أن أحدًا قد رآهم.”
وكان محقًا. فمن النادر أن تجد أحدًا في العاصمة لا يكن الود لسير.
حتى الذين كانوا لا يزالون يتشاءمون من العلامات المشؤومة، كانوا يولون سلامته اهتمامًا بالغًا.
فإيرين لا ينبغي أن تُصاب بأذى أو تُصاب بمزاج سيئ، إذ إن سلامة العالم تعتمد على سلامتها.
الناس جميعًا تمنوا سعادتها، وكان ذلك يعني أيضًا رغبتهم في أن ينشأ سير ورييه بأمان.
لقد كان سير ورييه ابني العالم.
ولذا إن رآهم أحد أو شكّ في أمرهم، فسيرسل حتمًا بلاغًا إلى المعبد.
بدأ الرجل يقود الأطفال بسرعة. كانت الأزقة التي امتلأت بالناس قبل لحظات قد خلت تمامًا الآن.
غطّوا عيني سير، فلا يريدون له أن يرى الطريق الذي يسلكونه.
وبعد وقتٍ من السير، توقفوا ودفعوه خارج العربة.
ترنّح على الأرض، ثم نُزع الغطاء عن عينيه.
‘أين أنا؟’
كان مكانًا يراه لأول مرة. أمامه حديقة مهملة وقصر متداعٍ لم يُعتنَ به منذ زمن طويل.
لم يكن صغيرًا الحجم، لكن يبدو أنه لا يزال ضمن حدود العاصمة بحسب زمن الرحلة.
‘قصرٌ مهجور لأحد أصحاب النفوذ.’
قال الرجل بصوتٍ بارد:
“ادخل.”
ولا تزال آلي في قبضتهم، وكذلك روآن.
تبع سير أوامرهم ودخل القصر دون مقاومة.
وبينما كان يعبر البوابة، لمح لافتة عليها اسم “روستيل”.
‘هذا الاسم مألوف…’
هل كان ضمن قائمة النبلاء التي طلبت منه المربية حفظها؟ حاول التذكر، لكنه لم يستطع الجزم.
“ها قد أتيت.”
وما إن دخل سير حتى أُغلق الباب خلفه، ونزل رجل ببطء من الطابق الثاني.
كان ذا شعرٍ أشقر كثيف، ووجهٍ غريب لا يقلّ غموضًا عن القصر نفسه.
‘لنجرب استفزازه قليلًا.’
رفع سير نظره إليه بفكرٍ لا يليق بالأطفال، فبدت على وجه الرجل علامات الغضب.
“أنت…”
ارتجفت شفتاه الرفيعتان التي تكشفان عن طبيعته الحادة، وكاد يتفوه بكلماتٍ قاسية، لكنه تراجع، غير أنه لم يقدر على إخفاء تعبير وجهه.
ازدادت ملامحه تشوّهًا حتى صارت قبيحة من الغضب.
“لقد ورثت العلامات المشؤومة عن أمك.”
طقطق الرجل بأسنانه غيظًا، وعندها تذكّر سير من أين سمع اسم “روستيل”.
ففي الماضي، كانت والدته إيرين ابنة دوق بيت روستيل.
وقد أخبرته المربية بذلك عرضًا عندما كان صغيرًا.
“كانوا أشخاصًا سيئين جدًا.”
قالت له ببطء:
“عديمي الضمير، بلا موهبة، ولا يعرفون الندم. وأنا أيضًا كنت مثلهم في الماضي.”
“أأنتِ يا مربية؟”
سألها سير، فابتسمت بخفوت.
“نعم، كنت إنسانة سيئة. لكنني وجدت الخلاص حين التقيت بالسيدة إيرين.
كان الأمر صعبًا في البداية، لكنني تلقيت الجزاء العادل لما اقترفته.”
ولهذا لا ينبغي لسير أن يؤذي أحدًا دون سبب.
“إن ظلمتَ من هو أضعف منك، فستعود إليك أفعالك يومًا ما.”
“لن أفعل.”
هكذا قال والده ومعلمه أيضًا:
“كن شخصًا يعرف كيف يحمي الضعفاء.”
فالجميع بشر، والضعيف ليس دومًا صالحًا، لكنهم علموه أن ينظر إليهم دون تحيّز.
“بالطبع، أنت لست من يفعل ذلك، فأنت ابن من تكون.”
قالت المربية بابتسامة فخورة.
“إنه يشبهها كثيرًا.”
أما دوق بيت روستيل السابق، فكان قد قوبل بالرفض من الجميع وجُنّ نصف جنون حتى مات.
ولم يبقَ من العائلة إلا شخصٌ واحد:
ليكسون، شقيق والدته، الذي اختفى بعد وفاة والده، ولم يُعرف ما إن كان حيًّا أو ميتًا، وها هو الآن يظهر أمامه.
“يا لسوء الحظ.”
“هذه كلمتي أنا.”
قال سير بسخرية وهو يزفر من أنفه. كان قد سمع أن رئيس أسرة روستيل الراحل وكذلك ليكسيون شاركا في إيذاء والدته.
لذلك، لم يكن يشعر نحوه بأية مشاعر طيبة بطبيعة الحال.
“ما أوقحك.”
ومن الذي له الحق في قول ذلك؟ اتسعت عينا سير بنظرة حادة، ثم شعر فجأة بطاقة غريبة تنبعث من ليكسيون، تشبه دخانًا أسود خانقًا.
“أنت… من أتباع الديانات الباطلة.”
بدأت الطاقة الإلهية المتجمعة في جسده تبدي مقاومة.
“من أتباع الديانات الباطلة، إذًا.”
ابتسم ليكسيون بسخرية. في الماضي، كان هو أيضًا يحتقر أولئك المنتمين لتلك الديانات ويبتعد عنهم.
لكن حين أصبحت تلك الفتاة الحقيرة ‘قديسةً’، ودمرت عائلته، أدرك أنه لا بد له من التغيير.
وفي النهاية، اتخذ أسوأ قرار ممكن؛ إذ عقد تحالفًا مع أتباع الديانات الباطلةث الذين كانوا في طريقهم إلى الزوال، وجمع قوته استعدادًا للمستقبل.
رغم أن قوة فرسان الهيكل الذين كانوا يصطادون أولئك الأتباع كانت عظيمة فحالَت دون نموه الكامل، إلا أن خططه لم تكن بلا فائدة.
فقد تمكن من اختطاف الأطفال بهذا الشكل على الأقل.
“تلك المرأة ارتكبت خطيئة عظيمة. خانت العائلة التي احتضنتها وربّتها. لقد رفعوها من وحل القذارة والدناءة، ومع ذلك…”
“القصة التي سمعتها تختلف قليلًا عن هذا.”
‘هل يهذي هذا الرجل؟’
لم يكن يبدو طبيعيًا، خاصة مع ذلك البريق الغريب الذي كان يلمع في عينيه.
حقًا، أتباع تلك الديانات لم يكونوا أسوياء قط. كانوا يحتقرون حياة البشر ويعبدون القوة المنبثقة من الشقاء.
نزل ليكسيون الدرج ببطء حتى وقف أمام سير، ورغم أن جسده كان أكبر من جسد الصبي بكثير، إلا أن سير لم يشعر بأي خوف.
ربت الرجل بيده الكبيرة على خد سير مرتين، وكان يأمل أن يرى في عينيه الرعب، لكن هيهات.
رفع سير زاوية شفتيه بابتسامة ساخرة.
“لماذا؟ هل ستضربني؟”
لو رأتهم المربية لرفعت يدها إلى جبينها تسأل من أين تعلم هذا الأسلوب في الكلام.
“لا، لستُ غبيًا إلى هذا الحد. لا بد أن هناك إجراءً وُضع لحمايتك، ما داموا سمحوا لك بالتجول في العاصمة من دون حراسة.”
أومأ ليكسيون برأسه إلى الخلف، فخرج عدد من الأشخاص يرتدون أغطية للرأس وتقدموا نحو سير.
‘يا لها من طاقة كريهة.’
لقد اجتمع هنا أتباع الديانات الباطلة الذين كان يُعتقد أن معظمهم قد أُبيد.
“اكشفوا الأمر.”
“أمرُك.”
مدّ أحدهم يده نحو سير، لكن الصبي لم يجد سببًا ليخضع، فقفز إلى الخلف بخفة.
“إن حاولتَ الهرب، فلن يخرج أصدقاؤك سالمين.”
هدده ليكسيون كأي خاطف ماكر، فلم يحاول سير الهرب مرة أخرى.
كان الأمر مقززًا، لكنه تحمّل بصمت أن تلمسه يد ذلك الأتباع.
ويبدو أن ذلك الأتباع شعر بالاشمئزاز أيضًا، فالقوتان كانتا متضادتين بطبيعتهما.
“إنه محاط بالبركات.”
“كم عددها؟”
“عدة بركات تتمحور حول بركة كبرى واحدة.”
“فسّر بدقة.”
“البركة الكبرى تنقل موقعه فور تعرضه لصدمة تفوق حدًا معينًا. إلى جانبها، تتداخل بركات أخرى تتمنى للطفل الصحة والسعادة. أعتقد أنه لم يمرض أبدًا من قبل.”
توقف قليلًا ثم أضاف:
“أيضًا، قدرته على التعلم عالية جدًا، ويتبعه حظ طيب في أمور صغيرة.”
هزّ سير كتفيه بلا مبالاة.
أما رييه الأضعف جسدًا منه، فقد كانت تحظى بعدد أكبر من البركات.
فالأم القديسة، ورئيس الكهنة جيان، والكاهنة الكبرى غرين، وفرسان الهيكل، جميعهم يمنحونهم البركات كل عام. ناهيك عن بركة الحاكمة نفسها.
“يا له من أمر مزعج حقًا.”
ألم يكن مزعجًا بالفعل؟
صرّ ليكسيون على أسنانه مجددًا وحدّق في سير بغيظ.
“هل يمكن إزالة كل هذا؟”
“سيستغرق الأمر وقتًا طويلًا. لم أرَ من قبل بركات متراكبة بهذا الشكل.”
“إذًا هل علينا أن نتخلى عن فكها ونتخلص منه فحسب؟”
كما توقّع سير، لم يكن ينوي تركه حيًا. فتفقد المكان من حوله بحذر.
**
“وجدتُه.”
فتحت إيرين عينيها المغلقتين.
“قصر أسرة روستيل.”
وما إن نطقت بهذه الكلمات حتى تحرك بيرت على الفور.
“سأذهب معكِ!”
تردّد قليلًا، ثم مد يده إليها، وما إن أمسكت بها حتى رفعها بخفة، وقفز بها من خلال النافذة إلى الخارج.
“أمي!”
ارتفع صوت رييه من خلفهما.
“انتظري قليلًا فحسب!”
طمأنتها إيرين وهي تمتطي الحصان مع بيرت، وتبعهما الفرسان التابعون له.
التعليقات