بدأت سرعة نموّ المحاصيل تتباطأ. رفع أنفاسه متنهّدًا ونظر إلى السماء، فوجدها رمادية اللون. في الأيام القليلة الماضية، ظلّت السماء قاتمة على الدوام. ومع أنّ الحياة ما زالت محتملة حتى الآن، إلا أنه لا يدري إلى متى سيستمر ذلك. لم يكن أمامه سوى إطلاق تنهيدة عفوية.
ما زال المعبد صامتًا بلا أي خبر. ومع ذلك، فإنّ الأخبار التي وصلت عبر بعض الأشخاص لم تكن مطمئنة أبدًا.
“يُقال إن عددًا كبيرًا من الأطباء دخلوا المعبد مؤخرًا.”
المعبد مكان يعجّ بالكهنة القادرين على استخدام القوة الإلهية، فلا تكاد جروح أو أمراض تقوى على اختراق حماه. ومع ذلك، فإن خبر دخول عدد كبير من الأطباء لا يمكن أن يعني إلا شيئًا واحدًا.
“لا بدّ أنّ هناك مشكلة لدى القديسة.”
لم يمضِ وقت طويل منذ أن اختارت الحاكمة القديسة الجديدة. فكيف يحدث أمر كهذا الآن؟
ارتجف المزارع من الخوف الذي اجتاح جسده.
حاول المعبد قدر الإمكان منع تسرب الأخبار إلى الخارج، لكن ذلك كان فوق طاقته. فالأعراض الناجمة عن غياب القديسة بدأت تظهر بوضوح.
أما الطبيب الماهر الذي جاء من بعيد وفحص إيرين، فقد هزّ رأسه بعد تفحّصها.
“لا أستطيع تحديد السبب.”
“يمكنك الانصراف.”
انحنى الطبيب ثم خرج من الغرفة.
تكررت هذه الكلمات عشرات المرات. وأحسّ بيرت بنفاد صبره شيئًا فشيئًا، فنقل بصره نحو إيرين.
منذ أن سقطت، لم تفتح عينيها ولو لمرة واحدة. كانت تتنفس فقط، وهذا كل ما في الأمر.
أنزل بيرت يده على خدّها الشاحب. ومع ذلك، فإن تكرار هذه الحركة لم يكن كافيًا ليمنحها أي دفء.
“إيرين…”
أمسك يدها المتراخية ورفعها إلى شفتيه فطبع عليها قبلة خافتة.
“استيقظي من فضلك.”
تردّد صوته المبلّل بالعاطفة داخل الغرفة الهادئة، غير أنّ إيرين ظلّت مغمضة العينين بهدوء.
قال له المعبد إن استدعاء الأطباء لن يجدي نفعًا، لكنّه لم يرد أن يفقد حتى آخر بصيص أمل.
“سنواصل البحث وبذل كل ما في وسعنا.”
لقد أوفيت غرين، كبيرة الكهنة، بوعدها. فالكثير من كهنة المعبد باتوا يكرسون ليلهم ونهارهم في البحث عن أي وثائق تتعلق بكاميلا.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل كانوا يسكبون قدرًا هائلًا من القوة الإلهية على فترات منتظمة رغم علمهم بأن الأمر عديم الجدوى.
ولهذا لم يكن بيرت قادرًا على لومهم.
طرقة خفيفة…
دخلت لاني وهي تحمل صينية صغيرة. كانت قد تركت الغرفة من قبل لتمنحه بعض الخصوصية.
“سيدي بيرت، من فضلك تناول الحساء على الأقل.”
منذ سقوط إيرين، لم يتناول بيرت وجبة لائقة قط. وإذا ما أصرّ عليه من حوله، كان يضع بعض الطعام في فمه مكرهًا، كأنه يجبر نفسه عليه.
كانت لاني تشعر بقلق شديد تجاهه.
“السيدة إيرين بالتأكيد لا ترغب في رؤيتك هكذا.”
كانت لاني تعلم جيدًا ما يعنيه آخر ما شهدته من إيرين، ولذلك كانت واثقة أنّ الأخيرة لم تكن لتتمنى التعاسة لمن تحب.
“حين تستيقظ وترى حالك، ستحزن كثيرًا.”
عندها فقط، حرّر بيرت يد إيرين برفق ونهض من مكانه.
ناولته لاني الصينية بصمت.
‘يا لي من عاجزة.’
ما يمكنها فعله كان قليلًا جدًا. لا تمتلك أي قوة إلهية، ولا تعرف شيئًا عن طرق العلاج. كل ما تستطيع فعله هو إعداد الطعام كي تشجّع من حولها على الصمود قليلًا.
بعد أن رأت بيرت يمسك بالملعقة، خرجت لاني من الغرفة وأسندت ظهرها إلى الباب.
“لاني.”
اقترب منها نوح.
“قلت لكِ أن تناديني بالأخت.”
قالت ذلك وقد سبق أن طلبت منه الأمر مرارًا، لكنه بقي على عناده.
مدّ نوح نحوها سلة صغيرة دون أن يردّ.
“ما هذا؟”
رفعت القماش الذي يغطيها، فرأت خبزًا أبيض ناعمًا.
“لكِ، لتأكلي.”
“هاه؟”
“لم تنامي أو تأكلي جيدًا منذ أيام.”
“…هل فعلتُ ذلك فعلًا؟”
رغم أنها تهتمّ بالآخرين، إلا أنها لا تعرف كيف تعتني بنفسها.
ضحكت لاني بخفة حين أدركت ذلك متأخرًا.
“كلي الآن.”
قالها نوح بنبرة جافة.
“حسنًا… على الأقل لنخرج من هنا أولًا.”
حملت لاني السلة وسارت ببطء عبر الممر.
‘نعم، عليّ أن آكل جيدًا في مثل هذه الأوقات. يجب أن أظل قوية حتى تستيقظ السيدة إيرين.’
أرادت أن تؤمن بذلك.
لقد تدهورت أحوال الجميع بعد ليالٍ بلا نوم، لكنّ غرين لم يكن بمقدورها التوقف.
‘لم أقدّم أي مساعدة حتى الآن… لكن عليّ أن أفعل ما أستطيع.’
غمرها الندم على الماضي.
‘لو أنني فقط مددت يدي لتلك الطفلة التي نبذها الجميع بسبب رمزها المشؤوم… لو ناديتها باسمها بلطف وسمعت قصتها… ربما ما كنت لأشعر بهذا الأسى الآن.’
‘لا… لا فائدة من ذلك الآن.’
لا يمكنها أن تظلّ عالقة في الماضي.
كان عليها أن تفكّر في ما هو قادم.
‘لا بدّ أن هناك وثيقة ما في مكان ما.’
كانت أرشيفات المعبد، التي وُجدت منذ أزمان طويلة، ضخمة للغاية. ولهذا، حتى مع اجتهاد عدد لا يُحصى من الكهنة في البحث معًا، لم يظهر أي بصيص نهاية في الأفق.
“آه…”
أمام غرين، ألقى أحد الكهنة الكبار برأسه فوق الطاولة.
حتى لو عوّض قلة النوم بالقوة الإلهية، فإنّ الإرهاق الذهني لم يكن يسهل التغلب عليه.
“لا يمكنني التوقف.”
وبعد وقت قصير، رفع الكاهن الكبير رأسه مجددًا وفتح لفيفة جديدة بعينين محمرتين.
انتقل من تصفح الكتب الموثقة إلى الوثائق الأقدم.
“خذ استراحة.”
ففي حالته تلك، لن يستطيع العمل بفاعلية.
لكنّ الكاهن الكبير هزّ رأسه رافضًا.
“كيف لي أن أرتاح والقديسة طريحة الفراش؟”
بعد أن قال ذلك، تردّد لبرهة طويلة، ثم أضاف كلامه.
“أشعر بندم شديد على الماضي. لو كنتُ قد فهمت تلك الفتاة حقًا في وقتٍ أبكر، لما تفوّهتُ بتفاهاتٍ كهذه.”
لم يكن غرين وحدها من ندمت على الماضي. فقد احتفظ معظم الكهنة الناجين بذكرياتهم حول إقصائهم لإيرين.
“كنتُ أظن أنّ السيدة رامييل هي من ستصبح القديسة.”
لكنّ من اختارتها الحاكمة لتكون القديسة كانت إيرين، وأما رامييل الآن، فقد أصبحت وحشًا رهيبًا.
في أعماق المعبد، إذا ما نزلتَ إلى أسفله ثم أعمق، فستجد هناك سجنًا خفيًا. مكان يُحبس فيه أتباع البدع لاستخلاص المعلومات منهم. وبطبيعة الحال، فجوّه ثقيل ومظلم.
كان ألين هناك في تلك اللحظة.
“يا له من مشهد مريع.”
قال غلوك، الفارس المقدّس الذي يعاون ألين، وهو يتنفس بامتعاض.
“إنها وحش مروّع حقًا.”
كان ظاهرها فتاة جميلة، لكن باطنها فاسد ومروّع. لا بدّ أنها كانت في الأصل ابنة نبيل عادية، فكيف انحدرت إلى هذا الحدّ من الفساد؟
“لا أفهم حقًا ما الذي تعنيه الحياة بالنسبة لها.”
فعدد الأرواح التي أزهقتها حتى الآن لا يُحصى. لقد كانت قاتلة متسلسلة من الطراز الأول.
“لعلّه كان…”
لكنّ غلوك قطع كلامه فجأة.
كانت رامييل ضعيفة أمام الألم.
مع أنها قتلت الكثيرين بأبشع الطرق، إلا أنها تنهار سريعًا أمام معاناتها الخاصة.
فبمجرد أن تتعرض لأدنى درجة من الألم، تعترف بكل ما اقترفته.
كان الاستماع إلى ذلك مؤلمًا حدّ الغصّة.
‘لو أنها فقط تحمّلت العذاب وتصرّفت كشريرة حقيقية…’
كما يفعل باقي أتباع البدع.
أولئك الذين، رغم التعذيب، يظلون صامتين، ويصبّون اللعنات بدلًا من الاعتراف.
يبدون من شدّة صلابتهم كأنهم شياطين.
لكنّ رامييل لم تكن كذلك.
‘كيف تتألم من أقلّ وجع، ومع ذلك تجاهلت آلام الآخرين؟’
إن كانت لتتجاهل معاناة غيرها، فعليها أن تتحمل آلامها بدورها مثلهم.
كيف لمرشّحة سابقة القديسة أن تكون بهذه السذاجة؟
كانت فتاة نشأت في بيئة مريحة محاطة بالرفاهية، وما إن سُلبت منها بعض امتيازاتها، حتى انحدرت في الظلام.
لو كان غيرها لفُهم الأمر، لكن بالنسبة إلى مرشّحة القديسة، لم يكن ذلك مقبولًا.
“هل توصّلتم إلى مزيد من المعلومات؟”
“كل ما تفوّهت به هو اعترافات عن الذين قتلتهم. غير ذلك، فهي لا تعلم شيئًا.”
“لا تعلم شيئًا…”
“نعم. إنها ليست سوى وحش فاسد. لا تستحق أن نمنحها أي أهمية أو معنًى خاص.”
كان حكم غلوك صارمًا بلا رحمة.
“أفهم. وماذا عن باقي أتباع البدع؟”
بعد أسر رامييل، بدأ الكهنة في ملاحقة وتنظيف صفوف أتباع البدع.
وخلال تلك العملية، حاول بعضهم التسلل إلى المعبد لإنقاذها.
“يعرفون أكثر منها قليلًا، لكن هذا كل ما في الأمر. حتى إنهم لا يعرفون الاسم الصحيح لكاميلا. يبدو أنّ أحدهم علّمهم اسمًا مغلوطًا عمدًا.”
لقد كانت كاميلا تستخدم أتباعها ليس إلا.
فالحاكمه الحقيقي هو من يحمي المؤمنين به ويقودهم، لكنها لم تفعل ذلك.
ولهذا لم يصفها المعبد أبدًا بأنها ‘حاكمة’.
فهي لا تملك أدنى مؤهلات الألوهية.
أما الذين لا يعرفون الحقيقة، فقد وصفوها بـ’الحاكمة الشريرة’، لكنّهم قلة.
وربما كان هذا هو السبب الذي جعل كاميلا تكره المعبد بشدّة.
“استمرّوا في استخراج مزيد من المعلومات.”
“حسنًا.”
وبينما كان غلوك يجيبه، غادر ألين السجن تحت الأرض.
ففي فترة ما بعد الظهر، كان من المقرّر تنفيذ عملية جديدة لتطهير أتباع البدع المختبئين في العاصمة المركزية.
بعد أن قُتل أغلب قادتهم وأُسرت رامييل، فقدوا اتّزانهم ولم يعودوا يعرفون ماذا يفعلون، مما جعل القبض عليهم أكثر سهولة.
منذ أن تمّت محاصرة كاميلا وخَتْم قوّتها، أخذ عدد أتباع البدع يتناقص بسرعة.
وكان العالم يتجه نحو مستقبل أفضل.
‘الآن لم يتبقَّ سوى أن تستيقظ القديسة.’
عند خروجه إلى السطح، رفع ألين بصره إلى السماء التي ما زالت ملبّدة بالغيوم.
كان يتوق إلى رؤية سماء صافية زرقاء من جديد.
ولوهلة، خطر بباله وجه القديسة وهي تبتسم.
مع أنها كانت صارمة متحفظة في العادة، إلا أنها كانت تبتسم أحيانًا، لا سيّما أمام المقرّبين منها.
‘أتُرى هل سيأتي يوم أراها تبتسم لي أيضًا؟’
حين استوعب تلك الرغبة التي في قلبه، تشبّث بها ألين بإصرار.
ورغم أن القديسة قد انهارت قبل أن تتحقق أمنيته، إلا أنه لم يعتقد أبدًا أنّ هذا هو النهاية.
‘ستنهض حتمًا.’
آمن بذلك بكل جوارحه، ولهذا لم يتوقف عن العمل بجدّ.
حتى إذا نهضت القديسة مجددًا، تجد عالمًا خاليًا من الهموم والاضطراب.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات