تلبدت السماء بالغيوم، وسرى جوّ من الشؤم في الأرجاء. خرج الفرسان المقدسون والكهنة مسرعين، فلم يتبقَّ في الحديقة سوى عددٍ قليلٍ من الأشخاص.
نظرت إيرين إلى المكان الذي بدأ منه كل شيء. عندما اندفع الآخرون إلى الخارج، أرادت أن تذهب معهم، لكنها لم تستطع، لأن بيرت أمسك بمعصمها فجأة.
وقع بصره عليها ممتلئًا بمشاعر معقدة، لكنها فهمت ما يدور في نفسه.
‘إنه يختلق الأعذار فقط.’
لماذا تحديدًا اليوم؟
كانت لاني تحدّق فيهما بوجهٍ شاحبٍ كمن رآى شبحًا. ابتسمت لها إيرين بلطف، ثم حوّلت بصرها إلى بيرت. وما إن فعلت حتى بدأ قبضه على معصمها يرخو شيئًا فشيئًا.
“هل حقًا لا بدّ من ذهابك؟”
سألها كمن يريد التأكد، فأومأت برأسها. بدا بيرت غارقًا في التفكير، لكنه لم يمنعها أكثر من ذلك. واكتفى بابتسامة حزينة، فشعرت بانقباضٍ مؤلمٍ في صدرها.
إنه اليوم الذي يفترض أن تكون فيه أسعد الناس.
تحررت يد إيرين من قبضته، وتقدّمت إلى الأمام. لكن فجأة، كان بيرت بجانبها، ثم حملها بين ذراعيه.
“سأذهب معك.”
وما إن بدأ بالجري حتى وصلا بسرعة إلى وجهتهما.
“القديسة وصلت!”
علا صوت أحدهم، فانفرج الجمع المحتشد أمام الباب إلى اليمين واليسار، ودخلت إيرين من بين الصفّين إلى الداخل.
‘كان يجدر بي أن أبدّل ثيابي قبل المجيء.’
كان فستان الخطوبة الطويل يعيق حركتها.
“هل أساعدك؟”
لم تعرف ما نوع المساعدة التي يقصدها، لكنها أومأت موافقة، فسلّ بيرت سيفه وشقّ به ذيل الفستان. ومع أن نصف القماش الثري قد قُطع، إلا أنّ الحركة أصبحت أكثر سلاسة.
في الداخل، كانت رامييل تنتظر. يا لها من مدةٍ طويلةٍ منذ آخر لقاءٍ بينهما.
“رامييل.”
ما إن نطقت إيرين باسمها، حتى التفتت رامييل التي كانت تواجه ألين، ونظرت إليها.
الوجه الذي كانت تراه يومًا جميلاً، بدا الآن مشوّهًا ومفعمًا بالقبح.
“إيرين.”
يا لها من علاقةٍ مشؤومة. الفتاة التي كانت تُؤمن يومًا بأنها ستصبح قدّيسة، انحرفت حتى غدت تجسيدًا للشر.
لم تُضِع إيرين وقتًا مع رامييل. فقد استدعت على الفور قُدرتها الإلهية، وحوّلت بصرها نحو كاميلا، التي كانت تبدو منذ لحظة دخولها إلى المكان في عجلةٍ من أمرها.
[إيرين.]
نادتها كاميلا بصوتٍ يتردد في ذهنها.
[فكّري في مستقبلك.]
بدت كأنها تحاول إقناعها، لكن إيرين لم تكن تنوي الخضوع. فقد صار لديها الكثير من الأشياء الثمينة التي تمنعها من هدم العالم في سبيل سعادتها.
إنها تتحرّك لأنها تفكّر في المستقبل.
غطّى تدفقٌ هائلٌ من القدرة الإلهية الدائرة التي رسمتها رامييل. وعندما استُهلكت كلّ قدرتها الإلهية، بدأت تستهلك حياتها نفسها.
جسدها ينهار تدريجيًا، لكن بيرت كان يسندها من الخلف.
“توقفي!”
صرخت رامييل غاضبة وهي تندفع نحوها، لكن ألين لم يسمح لها بالاقتراب. كان يقاتل هو الآخر بكل ما يملك.
بدأ وعيها يخفت شيئًا فشيئًا، وكادت أن تغيب في أي لحظة، لكنها تماسكت بكل قوتها لتمنع كاميلا من العبور.
استمرت همسات الأخيرة تتردد في أذنها، لكن دون جدوى.
‘لقد اتخذت قراري بالفعل.’
دوّى صراخٌ حادّ، ثم أُغلق الحاجز، وتلاشت صورة كاميلا.
فكّرت إيرين في ذلك وهي تحاول انتزاع الكلمات الأخيرة من حلقها.
“لا تمت.”
‘لذلك… لا تتبعني.’
“أنا سعيدة.”
‘لا تتبعني، وابحث عن سعادتك هنا.’
كان هذا كلّ ما استطاعت قوله. لم تعد قادرة على البقاء واعية، فسقطت في ظلامٍ دامسٍ لا نهاية له.
“إيرين؟”
ناداها بيرت بحذر، لكن جسدها المتراخي بين ذراعيه لم يُجِب.
حتى عندما مسح على وجنتيها، لم يتحرك جسدها البارد ساكنًا.
“دعني أرى حالتها!”
أسرعت كبيرة الكهنة غرين إليها، وأفرغت ما لديها من قدرةٍ إلهية، لكن الأمر بدا كمن يصبّ الماء في إناءٍ مثقوب.
مهما بذلوا من جهد، لم تستيقظ إيرين.
نبض قلبها أخذ يتباطأ. وكلّما ازداد بطؤه، ازدادت قلوبهم هلعًا.
لكن حتى مع انضمام المزيد من الكهنة، لم يتغير شيء.
إيرين لم تفتح عينيها، وجسدها ازداد برودة.
‘لا بأس.’
لم تمت بعد.
وفجأة، استقرّ نبض قلبها.
كان أبطأ وأضعف من قلب إنسانٍ عادي، لكنه كان دليلًا على الحياة.
ولهذا، لم يستسلم بيرت.
‘قالت لا تتبعني…’
يا لها من كلماتٍ قاسية.
كيف له أن يعيش وحيدًا بعدما وجد من يحبها أكثر من أي أحد؟
‘مستحيل.’
شدّ على أسنانه.
‘قالت كن سعيدًا…’
لكن سعادته كانت هنا، بين ذراعيه.
من دونها، لا وجود للسعادة.
لا يمكنه أن يطيع طلبًا كهذا.
ضمّ بيرت جسدها إلى صدره بقوة.
في تلك الأثناء، بدأ المكان يُنظَّف بسرعة.
رامييل، التي حاولت الفرار بجنون، أُمسكت، وأُزيلت بقايا الدائرة السحرية في لحظات.
انتهى كل شيء.
ورغم أنّ هناك بعض الهراطقة المتفرقين في أنحاء العالم، إلا أنّ القادة الرئيسيين قُتلوا أو أُسروا جميعًا.
سقطت القدّيسة التي تحفظ توازن هذا العالم، لكنها لم تمت، ولهذا لم يكن الوضع أسوأ ما يمكن.
الوحيد الذي غرق في حزنٍ عميقٍ هو بيرت.
[أنتِ حقًا فتاةٌ قاسية.]
في الظلام، دوّى صوت مألوف في أذنها.
[ما الذي يدفعك للمخاطرة بحياتك لمنع ذلك؟ ألم يكن اليوم موعد خطوبتك؟ أم زفافك؟]
ظلّ الصوت يتمتم متذمرًا، يلوم إيرين بلا توقف. كان مزعجًا إلى حدٍّ لا يُطاق.
رفعت إيرين جفنيها المثقلين ونظرت إلى الأمام. كان المكان مظلمًا حقًا، لكنها رغم ذلك استطاعت تمييز الأشياء من حولها.
كانت أمامها امرأة طويلة القامة، ملامحها قوية وجريئة، ذات شعرٍ أحمر متّقد ينسدل طويلًا، وعينين سوداويين.
“كاميلا؟”
[نادِني ‘السيدة كاميلا’. منذ متى يجرؤ إنسانٌ على مخاطبتي بهذه الوقاحة؟]
يبدو أنها تخلّت عن محاكاة أسلوب الحاكمة في الكلام، فاختفى ذاك الطابع المتعالي من نبرتها.
‘أين أنا؟’
حين نظرت حولها، رأت على بُعدٍ ليس ببعيد مبنًى قديماً بدا وكأنه معبد من زمنٍ سحيق. تجاهلت إيرين كاميلا التي لم تتوقف عن التذمّر، ونهضت متثاقلة متجهةً نحوه.
[هيه، هل تسمعينني؟]
دخلت عبر مدخلٍ نصف منهدم، فظهرت أمامها سجادة حريرية قديمة ممتدة إلى الداخل.
سارت على طولها حتى وصلت إلى نهايتها، حيث وُضع تابوت.
بداخل التابوت الشفّاف جزئيًا، كانت هناك امرأة صغيرة الجسد نائمة بعينين مغمضتين.
في البداية ظنّت أنها ميتة، لكنها ما لبثت أن لاحظت صدرها يرتفع ويهبط، فعرفت أنها نائمة.
‘الحاكمة…’
أدركت إيرين هويتها. كانت تلك المرأة التي ترقد في التابوت هي الحاكمة الحقيقية، الصانعة لهذا العالم.
[لن تستيقظ مهما نظرتِ إليها.]
قالت كاميلا التي اقتربت منها فجأة بنبرة باردة.
[لقد استهلكت قدرًا كبيرًا من قوتها، وستظل نائمةً هكذا طويلًا.]
“كم من الوقت؟”
[من يدري؟ على الأقل مئة عام.]
“طويلٌ إلى هذا الحد؟”
[ذلك يبدو طويلًا للبشر فقط. بالمناسبة، هل تتحدثين إليّ دون ألقاب؟]
“وأنتِ أيضًا تتحدثين هكذا.”
[أتقارنين نفسك بي؟]
قالت كاميلا وهي تعقد حاجبيها.
“أليست أوضاعنا متشابهة الآن؟”
[وقحة حقًا.]
ظنّت إيرين أنها ستغضب أكثر، لكنّ الأمر انتهى عند هذا الحد.
اقتربت كاميلا وجلست فوق التابوت دون تردد.
كان تصرفًا غير لائق، لكن إيرين لم تستطع منعها، فحتى تحريك جسدها كان مرهقًا.
[حسنًا، ما شعورك وأنتِ عالقة هنا لأكثر من مئة عام على الأقل؟]
لم تعرف بماذا تجيب.
[بينما أنتِ هنا، سيواصل الزمن جريانه في الخارج. وذلك يشمل زمن ذلك الرجل، بيرت. ماذا؟ قلتِ له أن يكون سعيدًا؟]
قهقهت كاميلا ساخرًة.
[أتظنين حقًا أنه سيكون سعيدًا؟]
كانت بارعة في إثارة الألم في النفوس.
رأت إيرين أن تجاهلها أفضل من الرد، فغادرت المعبد وسارت إلى الأمام.
[لن يفيدك ذلك.]
وكانت على حق. فمهما ابتعدت، لم يكن هناك شيء في هذا المكان سوى المعبد القديم. لا شيء غيره.
‘لم آكل شيئًا، ومع ذلك لا أشعر بالجوع.’
ولا بالنعاس.
[هكذا هي طبيعة هذا الفضاء. البشر لا يصمدون فيه طويلًا. أما أنا فلا بأس عليّ، لكن ماذا عنك؟ إلى متى ستصمدين؟]
“هل شخصيتك سيئة هكذا دائمًا؟”
[وأنتِ؟ دائمًا بهذا التكبر؟]
“لا، فقط معك.”
[هاه! حقًا!]
بدت كاميلا غاضبة، لكنها لم تلمسها.
وربما لم يكن الأمر امتناعًا بقدر ما كان عجزًا عن ذلك.
كفّت إيرين عن التجوّل وعادت إلى المعبد القديم.
دخلت وجلست بجوار التابوت، فذلك المكان وحده كان يصل إليه بعض الضوء.
“أيتها الحاكمة…”
نادتها، لكنها لم تستجب.
طرقت التابوت بخفة، لكن لم تعرف كيف تفتحه.
[لن يُفتح. لا يمكن فتحه إلا من كائنٍ يملك رتبة مماثلة للحاكمة.]
“أفهم.”
[وفوق ذلك، هي غارقة في سباتٍ عميق، ولن تستيقظ مهما ناديْتِها. فلا تُعلّقي آمالًا باطلة. ما رأيك أن نُقامر على شيءٍ آخر؟]
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات