كان اقتراب لونا، متجاهلةً مشاعر الآخرين ومتمحورةً فقط حول رغباتها، أمراً منفّراً للناظرين. تُرى، هل كانت هكذا دائماً؟ وبينما كان بيرت يتأمل ذلك، شعر بلمسة خفيفة على ظهره من إيرين.
“تمهّل قليلاً.”
“لماذا، إيرين؟”
“دعني أحاول الحديث معها.”
“لا. السيدة لونا تتصرف بوقاحة الآن، ولا داعي لأن تتحمّلي ذلك.”
كان رفض بيرت حازماً، لكن إيرين لم تكن مستعدة للتراجع. ارتفعت على أطراف أصابعها واقتربت لتهمس في أذنه.
“هناك أمر غير طبيعي هنا.”
مع تلك الكلمات، أعاد بيرت النظر إلى لونا. وبسماع وجهة نظر إيرين، بدأ يدرك الغرابة في الموقف. صحيح أنّ مشاعر لونا تجاهه كانت واضحة منذ زمن، لكن لم يكن من طبعها أن تتصرّف بجرأة فجة كهذه، وخصوصاً في حفل خطوبة شخص آخر.
راح بيرت يبحث في ذاكرته عن أي شيء قد يوضح ما يحدث.
“حسناً. ولكن من الخطير أن تقتربي منها مباشرة، فتحدثي من حيث أنتِ.”
“أليس ذلك وقاحة بعض الشيء؟”
“بالنسبة لي، سلامة إيرين أهم بكثير.”
في النهاية، اضطرت إيرين إلى مخاطبة لونا وهي ما تزال خلف حماية بيرت.
“السيدة لونا.”
وما إن نطقت إيرين باسمها حتى شعرت بعداء حاد ينساب من لونا نحوها. كانت نظراتها حادة، لكن إيرين لم ترتجف. بل إنها أحسّت تحت ذلك العداء بوجود شيء مألوف ومقلق… هالة تعرّفت عليها من معاركها ضد الهراطقة.
حتى الآن، لم تكن قريبة بما يكفي لتشعر بها، أما الآن فلم يعد هناك شك.
لقد تدخّل أحدهم في لونا، وهذا الشخص مرتبط بالهراطقة.
“أظن أن عليّ أن أقترب قليلاً.”
“لا، لا يمكنك ذلك.”
لم يُبدِ بيرت أي نيّة للتنحّي جانباً.
‘لا خيار أمامي إذن.’
تنهدت إيرين بخفة وبدأت تتلو ترنيمة مقدسة. كانت تدرك قلق بيرت، لذلك قررت أن تفعل ما بوسعها من مسافة بعيدة، دون أن تقترب.
شيئاً فشيئاً، امتلأ البستان الغارق في دفء الشمس بحضور القوة الإلهية. طاقة باعثة على الانتعاش اجتاحت المكان، صفّت الأذهان ورفعت المعنويات. شعر كثيرون بانشراح في صدورهم، حتى ضيوف الشمال الذين ظلّت وجوههم متجهمة طيلة الوقت.
“فجأة أشعر براحة وسكينة.” قال أحدهم.
“حقاً، كأن حملاً ثقيلاً قد انزاح.” أضاف آخر موافقاً.
سرعان ما تلطف جو الحفل، واتخذ طابعاً أكثر هدوءاً وصفاء.
لكن، لم يجد الجميع أنفسهم مستسلمين لذلك الصفاء. فبين من شعروا بالخلل كانوا الكهنة الكبار والفرسان المقدسين. ومع امتلاء الجو بالقوة الإلهية، أصبح من السهل كشف أي أثر غريب أو دخيل في البستان. كان ألين، الذي كان يحتسي الشامبانيا بصمت، يربّت بيده على مقبض سيفه المغمّد إلى جانبه.
فعندما اقترح البعض ترك السلاح جانباً، بحجة أنّه لا مجنون سيجرؤ على إزعاج حفل يحضره كهنة المعبد وفرسانه، اعترض ألين. فواجبه حماية القديسة قبل أي شيء، والخطر قد يظهر في اللحظة التي لا يتوقعها أحد.
‘من الجيد أنني أحضرته.’
فكّر في نفسه وهو يوجّه سيفه نحو لونا التي انهارت الآن على الأرض. شهق أحد الضيوف القريبين بصوت مسموع عند رؤية ذلك.
“السيد ألين؟”
“ما الذي يحدث؟”
في تلك الأثناء، بدأ الفرسان المقدسون الآخرون يطوّقون لونا، مكوّنين دائرة محكمة حولها.
“هرطوقية.”
تفوه أحد الكهنة الكبار بالكلمة وهو يرمقها باشمئزاز بالغ. وما إن سمع الحضور ذلك حتى بدا الاضطراب واضحاً على وجوه ضيوف الشمال. كانت فكرة أن تكون السيدة لونا ــ النبيلة التي نشأت مدللة في الرخاء والترف ــ هرطوقية، أمراً لا يكاد يُصدّق.
“لا بد أن هناك سوء فهم.”
احتج أحد وجهاء الشمال، لكن الفرسان المقدسين لم يتزعزعوا.
“سوء فهم؟ حين تكون نجاسة الهراطقة حاضرة بوضوح؟”
كان صوت ألين قاسياً، وكأنه يعضّ على كلماته. تراجع بعض الضيوف غريزياً خطوتين إلى الوراء، محاولين الابتعاد عن لونا.
“ه-هذا مستحيل.”
أصرّ النبيل الشمالي. فقد كان والد لونا، صديقه العزيز، قد أوكل إليه رعايتها. لم يستطع أن يتقبّل فكرة خسارتها بهذه البساطة. لكن مع مرور الوقت، ازدادت الهالة الخبيثة التي تحيط بلونا قوة، حتى صارت محسوسة للعيان، يراها ويشعر بها حتى من لا يملكون حسّاً إلهياً.
“تولّوا أمرها.”
رنّ صوت ألين البارد وهو يرفع سيفه.
“لا، أرجوكم!”
وسرعان ما دوّى صراخ حاد في البستان، شاقّاً جوّ السكينة الذي كان سائداً قبل لحظات.
في هذه الأثناء، كانت آن تحدّق عبر النافذة، غارقة في أفكارها، ثم صرفت بصرها عن المشهد في الخارج. خلفها وقفت رامييل، تلك التي اعترفت بها الحاكمة بوصفها القديسة الحقيقية، والوحيدة القادرة على إنقاذ آن من عذابها. ضمّت آن يديها كما لو كانت تصلّي، ثم تقدّمت نحو رامييل.
“هل أنتِ مستعدة؟”
سألت رامييل بابتسامة هادئة.
“نعم، أنا مستعدة.”
كانت آن امرأة نبيلة سابقة سقطت مكانتها، وعانت المشقّة منذ صغرها. حتى بعد انهيار أسرتها، ظلّ والداها متشبثين بحياتهما السابقة من بذخ، بينما بقي إخوتها متهورين غير مسؤولين. وقد حالفها الحظ في الحصول على وظيفة خادمة لدى السيدة لونا، لكن وضعها لم يتحسن كثيراً.
فكل الأجور التي كانت تكسبها كانت تُنتزع منها لصالح أسرتها، تاركة مستقبلها مظلماً. كان الانفكاك من ظلّ عائلتها أمراً يكاد يستحيل.
وفي تلك الفترة، وجدت عزاءها عند الجماعة التي يسميها الآخرون بالهراطقة.
واحداً تلو الآخر، مات إخوتها في حوادث متفرقة، فيما وهَن والداها وذويا. وهكذا كان عليها أن توكّل من يرعاهما، لكن ذلك تبيّن أنه أقل كلفة من إعالتهما حين كانا بصحة جيدة.
وبينما كان الآخرون يخافون الهراطقة، لم تخفهم آن. بالنسبة لها، كان أفراد أسرتها أشدّ رعباً.
أشرق وجه آن بالامتنان. لقد نالت منهم الكثير، وكانت دوماً تفكر في ردّ الجميل لهم يوماً ما. والآن، جاءت الفرصة.
“الأمر ليس صعباً. كل ما نحتاجه أن تُعيرينا بعضاً من قوتكِ.”
كيف كان لها أن ترفض مثل هذا الطلب؟ أومأت آن طائعة.
“أغمضي عينيكِ.”
“نعم.”
أغمضت آن عينيها طاعة، فوضعت رامييل يدها على جبينها. كان اللمس بارداً، مما جعل آن ترتجف للحظة، لكنها لم تسحب نفسها.
‘ستدفأ يدها بعد قليل.’ فكّرت. لكن البرودة لم تخف. بل أخذت تنتشر، كما لو أنّ موضع التقاء جلديهما يتجمّد.
“آه… آه…”
انفلت أنين خافت من بين شفتي آن دون وعي. لكن رامييل لم تتوقف، بل واصلت دفع قوّتها داخل آن.
“هذا… هذا غريب.”
“لا بأس. تحمّلي قليلاً فقط.”
اشتدّ الضغط في رأسها حتى عجزت آن عن كتمان ألمها. فانفجر منها صراخ ممزّق.
“آآآه! آآآه!”
لكن رغم تصاعد صرخاتها، لم يسمعها أحد في الخارج ــ فقد كانت رامييل قد أطبقت على الغرفة بصمت خانق. وفي يأسها، حاولت آن أن تبعد اليد المطبقة على جبينها.
“قلت لكِ، تحمّلي.”
“إنها تؤلمني! تؤلمني!”
“لا بأس. ستجدين السلام قريباً.”
بدأ جسد آن يرتجف بعنف، يرتعش بطاقة محمومة. لكن سرعان ما تباطأت التشنجات، ثم توقفت تماماً. وخرجت من فمها أنفاس باردة لا تلائم طقس الدفء، فيما عجزت عن إيجاد صوتها.
وأخيراً، انهارت آن حيث كانت واقفة.
“ربما لم يكن هذا كافياً بعد؟”
تمتمت رامييل مع نفسها وهي تستدير مبتعدة، خارجة من الغرفة المختومة. الهواء في الخارج كان على النقيض تماماً، دافئاً ومريحاً مقارنة بالبرد الجليدي الذي غمر جناح لونا.
في تلك اللحظة، أبصرت رامييل خادمة تمرّ بالقرب منها. ما كان اسمها؟ حاولت أن تتذكر، لكنها لم تستطع.
لكن، بالطبع، لم يكن للاسم أي أهمية. فلديها الآن أولويات أخرى.
تقدّمت رامييل بلا تردّد نحو الخادمة. المرأة رمشت ببطء، غافلة عن أن الموت يقترب منها ــ مخلوقة حمقاء لم تدرك الخطر المحدق بها.
وبابتسامة ماكرة مخبأة خلف ملامحها، انطفأ نور حياة آخر.
“قليلاً بعد فقط.”
بدأت رامييل تتجوّل في المبنى حيث كان يقيم الضيوف القادمون من الشمال. ورغم أنّ معظمهم كانوا قد خرجوا لحضور حفل الخطوبة، إلا أنّ عدداً منهم بقي خلفهم.
فالنبيل بطبيعته نادراً ما يدبّر أمره بنفسه؛ إذ لا بدّ أن يحيط نفسه بالخدم والمرافقين. ولم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى أنهت رامييل أمر كل من بقي في الداخل.
جمعت الجثث في غرفة واحدة ــ جناح لونا الذي امتلأ الآن بأجساد هامدة. وضعت رامييل الكرات المضيئة التي كانت قد أعدّتها مسبقاً قبل دخولها المعبد. تلك الكرات، المشبعة بالحياة المسروقة من كثيرين، كانت جزءاً من تحضيراتها التي رتبتها بعناية.
ومع كل روح تُزهق، كان الدائرة الاستدعائية تزداد وضوحاً. وحين تلاشى أثر لونا بالكامل، كانت الدائرة قد قاربت على الاكتمال.
“يبدو أنهم أخذوها بعيداً.”
وإن كانت لونا قد أُخذت، فهذا يعني أن فرسان المعبد سيأتون قريباً للتفتيش هنا أيضاً. فحين يمسكون بهرطوقي واحد، لا يتركون حجراً دون أن يقلبوه بحثاً عن البقية.
كانوا مثيرين للضيق بصرامتهم تلك.
“لا بأس.”
كانت رامييل واثقة أن الدائرة ستُستكمل قبل أن يتمكنوا من مقاطعتها. وما إن رسمت الخط الأخير في الدائرة، حتى انفتحت أبواب المبنى بعنف، واقتحم فرسان المعبد المكان.
“هرطوقية!”
اقتفى الفرسان أثر الطاقة الشريرة حتى وصلوا إليها. فاندفع قائد الفرسان بسيفه مباشرة ليضربها. لكن الأوان كان قد فات.
فقد أخذت الدائرة، المكتملة على حساب الأرواح المسلوبة، تنبض بضوء بنفسجي آخذ بالاتساع، ممتداً ليبتلع ما حولها. ما بدأ كحلقة صغيرة صار يكبر حتى يهدّد بابتلاع كل ما يجاوره.
“أيتها الحاكمة، استجيبي لنا!”
رفعت رامييل يديها عالياً، هاتفة بدعائها. ومع صوتها، دوّى ضحك بارد عبر الدائرة المتوهجة.
[عملٌ حسن.]
شيء شرير بدأ يشقّ طريقه خارج البوابة المضيئة. حاول فرسان المعبد اليائسون تعطيل الاستدعاء، لكن جهدهم تعرقل بالجثث التي عادت إلى الحركة لتعترض طريقهم.
“أوقفوا هذا فوراً!”
تعالت أصواتهم الغاضبة، تملأ الجو، غير أنّ رامييل لم ترتجف قيد أنملة. وفي تلك اللحظة، وصل ألين برفقة مجموعة من الكهنة، قادماً مباشرة من السجن السفلي حيث أُودعت لونا.
ومن دون تردد، انضم ألين إلى الفرسان الآخرين في محاولتهم تدمير الدائرة الاستدعائية. وبمعونة القوى الإلهية التي أطلقها الكهنة، بدأ نمو الدائرة يتباطأ، واهتزّ تمدّدها تحت وطأة هجومهم المشترك.
‘لا بأس.’
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 103"