رد جاك، منزعجًا، على نوكتورن الذي أمسكه فجأة من ياقته.
“عن ماذا تتحدث؟ تكلم لأفهم.”
“عينك. لم تكن حادثة بسيطة، أليس كذلك؟”
“…”
“كان من فعل الدوق، أليس كذلك؟ هل أنا محق؟”
اشتعلت عينا نوكتورن بشدة. ليونارد، الذي كان يقف بالقرب منه، سحب نوكتورن بعيدًا عن جاك وتحدث.
“اهدأ يا نوكتورن. سأشرح لكَ كل شيء.”
لكن نوكتورن دفع ليونارد جانبًا أيضًا، وهو يزمجر.
“تشرح؟ لو كنتَ ستشرح، لكان عليكَ فعل ذلك عندما فقد عينه.”
“…”
“لم تكن لديكم نية لإخباري حتى اكتشفتُ الأمر بنفسي، أليس كذلك؟”
بينما سخر نوكتورن منهم واتهمهم، فرك ليونارد وجهه في إحباط. لم يكن متأكدًا من كيفية تسرب المعلومات، لكنها كانت مشكلة.
“ليس الأمر أننا لم نكن نثق بك. لقد تجنبتُ ذكر الأمر فقط حتى لا تقلق…”
تردّد جاك، مُقيِّمًا رد فعل نوكتورن. لم يكن الأمر أنه لا يثق به؛ بل إنه لم يُخبره لأنه لم يُرِد أن يُثقل كاهله.
ففي النهاية، كان دوق غرينوود هو الأب البيولوجي لنوكتورن، وكان من المُقدَّر لتلك العائلة أن تصبح مِلكًا لنوكتورن بمجرد أن يُطيح بالدوق. كان من الطبيعي أن يتجنبوا مناقشة الكشف عن تورط الدوق. تكلم ليونارد.
“لهذا السبب تحديدًا لم نستطع إخبارك.”
“ليونارد!”
“انظر إلى نفسك الآن. في اللحظة التي يتعلق فيها الأمر بالدوق، تفقد السيطرة وتتصرف بدافع العواطف.”
“…”
“عادةً ما تكون عقلانيًا، لكن في اللحظة التي يتعلق فيها الأمر بالدوق، تتصرف كالمجنون. كيف كان من المفترض أن نخبرك؟”
“مهلاً، ليونارد، هذا مُبالغ فيه.”
حاول جاك أن يُشير إلى ليونارد ليهدأ، لكن ليونارد أكمل حديثه دون أن يتأثر.
“لا أعرف كم فهمت، لكن هدئ من روعكَ أولًا، ثم سنتحدث مجددًا.”
“أنا هادئٌ تمامًا. لذا اشرح لي ما كنتَ تفعله بالضبط من ورائي قبل أن أكتشف ذلك، ليونارد.”
“إذا كنتَ هادئًا لهذه الدرجة، فلماذا اندفعتَ إلى هنا هكذا؟ حتى أنكَ تركتَ الآنسة سيرينا خلفك.”
“…أنا آسف على ذلك. جيمس استفزني.”
فرك نوكتورن وجهه بعنف، مُحاولًا تمالك نفسه، لكن غضبه لم يهدأ تمامًا. تكلم ليونارد مجددًا.
“جيمس؟ هل تقصد من أصبح دوق غرينوود الشاب؟”
“آه، ذلك الأحمق عديم الفائدة؟ نفس الشخص الذي كان يُعذّب نوكتورن بلا هوادة حتى ضربتَه؟”
تدخل جاك، وتابع ليونارد.
“الآن وقد اكتشفتَ الأمر، ربما يشتبه الدوق في أننا نخطط لشيءٍ ما أيضًا.”
“آه، أنتَ مُستهترٌ للغاية. في هذه الأثناء، أنا أفقد صوابي.”
حدّق نوكتورن في ليونارد للحظة، ثم فرك وجهه مرة أخرى وهو يتمتم.
“اذهب إلى الآنسة سيرينا. أحتاج إلى تصفية ذهني…”
“ستعود قبل الحفل، صحيح؟”
“…”
تجمد نوكتورن في مكانه عند سؤال ليونارد، ثم غادر دون إجابة.
“إذن، هذا يعني نعم.”
همس جاك وهو يراقبه وهو يغادر. تنهد ليونارد تنهيدة عميقة.
“ليونارد، هذا الرجل يخفي شيئًا بالتأكيد. أنا متأكد أن الدوق لديه ما يخفيه.”
“إنه لا يقول شيئًا.”
“ربما لا يستطيع. ألم نبدأ بالبحث عن الدوق من البداية لأننا كنا قلقين بشأن نوكتورن؟”
ع”لى أي حال، يجب أن أطمئن على الآنسة سيرينا.”
نهض ليونارد بصعوبة، ثم حدق فجأة في جاك.
“لماذا بحق الجحيم ترتدي شيئًا يلفت الانتباه كرقعة عين؟ العيون الاصطناعية رائعة هذه الأيام. هل تحاول أن تبرز عمدًا؟”
“لماذا تصرخ في وجهي؟ هل سمعتَ يومًا عن احترام التفضيلات الشخصية؟ العيون الاصطناعية تبدو غير طبيعية. إنها غير مريحة، حسنًا؟”
“ليتكَ تستطيع الصمت. كان يجب أن تُخيط فمكَ بدلًا من أن تفقد عينًا.”
“يا! هذا كثيرٌ جدًا! لا تنسَ من كان يبكي قبل قليل!”
بينما كان جاك يصرخ وينهض غاضبًا، غادر ليونارد الغرفة دون أن ينبس ببنت شفة. ترك جاك وحده، فلعن في سره.
“أجل، أنا كيس ملاكمة الجميع، أليس كذلك؟”
بعد أن شعّث شعره من شدة الإحباط، خرج جاك غاضبًا هو الآخر.
***
حدّق إيشيد في السماء بنظرة فارغة. خيّم البنفسج على المكان الذي كان فيه غروب الشمس للتو. كان الليل قد اقترب.
أخفض إيشيد بصره، وحدق في نار التضحية المشتعلة فوق المذبح. انبعثت من ألسنة اللهب المتوهجة رائحة فحمٍ خفيفة. وبينما كان يشاهد الدخان يتصاعد، طفت على ذهنه فكرة فجأة.
«رينا، أراكِ في المرة القادمة.»
خرجت تنهيدة من شفتيه. شعر إيشيد بانزعاجٍ يتصاعد وهو يتذكر لقائه الأخير مع بنيامين. التفكير في تصرف الرجل بألفة مفرطة مع سيرينا جعله يتمنى لو ركل ساقي بنيامين بدلاً من ساقي الكرسي.
أن يفكر في شيءٍ كهذا في يومٍ كهذا…
كان يعلم أنه لا ينبغي أن يُطيل التفكير فيه، ومع ذلك استمرت الأفكار في الظهور. ظل تعبيره متوترًا.
كان الأمر غريبًا. في ذلك الصباح تحديدًا، كان خاملًا غارقًا في أفكار والدته الراحلة. الآن، بدا أن الطاقة تتدفق بداخله.
في تلك اللحظة، اقترب رافائيل، بعد أن أكمل استعداداته للطقوس.
“جلالتك.”
“رافائيل، أنتَ هنا.”
“تبدو في حالةٍ معنوية أفضل من ذي قبل.”
“هل الأمر كذلك؟”
ابتسم إيشيد ابتسامة خفيفة وهز كتفيه. بصفته كاهناً، من المرجح أن وجود رافائيل على المذبح نابعٌ من قلقه على إيشيد.
وللتهدئة من قلقه، قرر إيشيد الإدلاء بملاحظة خفيفة.
“أنت، من ناحية أخرى، يبدو أنكَ تتقدم في السن.”
“حسنًا، أنا أتقدم في السن. من يدري؟ قد أجد صعوبة في رفع سيفٍ قريبًا.”
“كف عن المبالغة.”
“أنا رجلٌ عجوزٌ الآن يا صاحب الجلالة. تدريبكَ على المبارزة أصبح فوق طاقتي.”
“ومع ذلك، لم أقابل فارسًا يجيد استخدام السيف بمهارة مثلك. يجب أن تفخر بذلك.”
“قد لا يعجب السير ليونارد أو السير ليلي سماع ذلك.”
“لهذا السبب أقولها فقط عندما نكون وحدنا.”
ضحك إيشيد ضحكة خفيفة، ورمش رافائيل بدهشة.
“أنتَ تضحك.”
“همم؟”
“من الجيد رؤية ذلك.”
“….”
“استمر في الابتسام هكذا. لا تعش وكأنكَ في حدادٍ دائم.”
بناءً على نصيحة رافائيل، ابتسم إيشيد ابتسامة مريرة. لم يكن رافائيل مجرد عرّاب إيشيد، بل كان في السابق فارسًا، أقسم على حماية ميديا، قديسة فيريانوس.
غالبًا ما كان كهنة معبد فيريانوس يؤدون دورين كفرسان نظرًا لقلة عدد المؤمنين. أما رافائيل، على الرغم من كبر سنه، فقد كان لا يزال مبارزًا ماهرًا قادرًا على استخدام طاقة السيف.
“سمعتُ أن ضيفًا سيقيم هنا لهذا اليوم.”
“أوه، سيرينا.”
“تناديها باسمها. لا بد أنكَ قريبٌ منها.”
عبس إيشيد قليلاً عند ملاحظة رافائيل.
“أجل. عادةً، مناداة شخصٍ باسمه تعني أنكما مقرّبان.”
“صحيح.”
وافق رافائيل دون تردد، فوجد إيشيد نفسه غارقًا في التفكير. كانت الفيكونتيسة فنسنت تُنادي سيرينا أيضًا بـ’رينا’ بنبرة مألوفة. لم يُزعجه ذلك حينها، لكن سماع بنيامين يستخدم نفس اللقب أزعجه بشدة.
“رافائيل، متى يستخدم الناس الألقاب عادةً؟”
“عندما يكونون مقربين جدًا. على سبيل المثال، عائلة أو عشاق.”
“عشاق؟ هذا ليس هو المقصود بالتأكيد.”
“عفوًا؟”
“كان عليّ حقًا أن أركل ساقيه.”
“؟؟؟”
اندهش رافائيل من تمتمة إيشيد. في كل عام في يوم الذكرى هذا، بدا إيسيد بلا حياة كجروٍ مهزوم.
لطالما تمنى رافائيل ألّا يحضر إيشيد الطقوس، إذ بدا له أن استعادة آلامه القديمة كل عام أمرٌ غير ضروري.
لكنه اليوم مختلفٌ تمامًا.
شكّ رافائيل في أن يكون لتغيّر سلوك إيشيد علاقةٌ بالضيفة سيرينا.
سمح لها بالزيارة لأنها طبيبة إيشيد، وقد أثنى عليها ليونارد كثيرًا. لكن لم يخطر ببال رافائيل قط أنها قد تكون تلك الطفلة.
أزعجه هذا الاكتشاف. فتاةٌ كان يظنّها مجرد خادمةٍ في بيتٍ نبيل، تبيّن أنها ابنةٌ غير شرعية. والآن، عادت كطبيبة إيشيد.
فكّر رافائيل في كلمات ميديا من الماضي.
«رافائيل، كالعادة، اتبع قناعاتك.»
«لكن ماذا لو أدّت اختياراتي إلى أخطاء؟»
«حتى لو أدّت إلى أخطاء، فكلّ ما كان مقدّرًا له أن يحدث سيحدث. لا يمكنك حجب السماء بيديك.»
في الواقع، كان من المستحيل حجب السماء بيديه. تأمل رافائيل كيف جمع القدر بينهما، وتنهد بعمق.
“ماذا أفعل إن كانت اختياراتي خاطئة حقًا، ميديا؟’
اجتمع الاثنان اللذان ظنّهما منفصلين إلى الأبد. لم يدرِ رافائيل إن كان عليه أن يشعر بالارتياح أم بالخوف. إن انكشفت الحقيقة يومًا ما ومزقت علاقتهما، فسيكون ذلك ذنبه.
ربما كان من الأفضل أن يعترف الآن. لكن شفتيه لم تتحركا.
في هذه الأثناء، كان إيشيد لا يزال غارقًا في التفكير ببنيامين وسيرينا.
“هل هما قريبان؟ لم يبدوا أقرب مما أنا عليه معها…”
“عفوًا؟”
“ماذا لو كانا كذلك؟ أنا قريبٌ أيضًا. هل عليّ أن أدعوها بهذا الل
قب؟”
“جلالتك؟”
“آه، إنه ذنب جاك. كلامه الفارغ يُصيبني بالصداع.”
ربت رافائيل على كتف إيشيد ليعيده إلى الواقع. التفت إيشيد وسأل.
“ما رأيك؟”
“…في ماذا تحديدًا؟”
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل "69"
شكرًا ع الفصل😭😭