جلست سيرينا عند النافذة، تستمع بهدوء إلى زقزقة العصافير.
انفتح الصباح الهادئ في الخارج على مشهد مألوف، لكنه بدا غريبًا بعض الشيء. منذ عودتها عبر الزمن، لم تقضِ ليلة في هذا المنزل قط. بطريقة ما، كانت هذه أول مرة تعود فيها منذ سنوات.
« سأبقى خارج القصر لفترة.»
« ……»
«أحتاج فقط لبعض الوقت لأرتب أفكاري. لكن لا تقلق، سأواصل البحث في الأمر مع كولين.»
« أنتِ من أقلق عليه. وليس تلك الأشياء.»
«…على أي حال. سآخذ استراحة في منزلي القديم. إذا احتجتَ أي شيء، يمكنكَ الاتصال بي.»
لم يوقفها إيشيد. ربما شعر أنه لا يحق له ذلك.
حدقت سيرينا بنظرة فارغة إلى المعطف المعلق بدقة على الرف.
لو تشبث بها إيشيد وتوسل إليها طالبًا المغفرة ذلك اليوم، لربما – ربما فقط – لسامحته على مضض.
لكنه لم يفعل. وهي تعلم أن هذه طريقته في مراعاة مشاعرها.
حتى مع علمها بذلك، اختارت الابتعاد عنه.
والآن، بعد مغادرتها القصر بقليل، بدأت تندم على ذلك. كان قلبها لغزًا بالنسبة لها.
هدير.
أطلقت معدتها احتجاجًا عاليًا، مما جعل سيرينا تتنهد بعمق.
بالتفكير في الأمر، كل ما فعلته منذ وصولها هو النوم. إذا استمرت في الصيام لفترة أطول، فقد تبدأ معدتها في البكاء بشدة.
بينما كانت على وشك النهوض للبحث عن شيء تأكله –
بانج، بانج.
دوى صوت طرقٍ قوي في أرجاء المنزل.
لم تكن تتوقع أحدًا.
عقدت حاجبيها في حيرة، وفتحت الباب لتجد ماري تحدق بها بعينين واسعتين.
“يا إلهي! لقد انفتح!”
“ماري؟ ماذا تفعلين هنا؟”
“كنتُ على وشك كسر الباب لو لم تفتحيه، لكن الآن لا داعي للقلق بشأن الإصلاحات.”
مرت ماري مسرعةً بجانبها إلى المنزل، وألقت بتعليقٍ عنيفٍ نوعًا ما كما لو كانت مزحة.
كانت يداها مليئتين بأغراضٍ مختلفة، كما لو كانت تخطط لهروبٍ ليلي. بدأت بترتيب البقالة التي أحضرتها على طاولة المطبخ بدقة.
“لم تأكلي، أليس كذلك؟ يبدو أنكِ كنتِ نائمةً للتو. لا بد أن معدتكِ فارغة، لذا سأعدّ لكِ حساءً خفيفًا. إذا كنتِ جائعة جدًا، يمكنكِ تناول موزةٍ أولًا.”
“انتظري، ماري. ماذا تفعلين؟”
أثار استيلاءها الطبيعي على المطبخ ارتباك سيرينا. لكن ماري ردت بلا مبالاة.
“ما رأيكِ؟ أنا هنا لأعمل مدبرة منزل.”
“لا، أعني – لماذا أنتِ هنا؟”
“أمرني جلالته أن آتي.”
“…”
“الاستراحة الحقيقية تعني تناول الطعام جيدًا والنوم جيدًا. النوم وحده لا يُحسب راحة. ويبدو أنكِ كنتِ نائمة طوال الوقت.”
عندما ذُكر أن إيشيد قد أرسلها، توقفت سيرينا عن الجدال وجلست بهدوء.
في هذه الأثناء، انتهت ماري من مسح المطبخ، ووجدت قدرًا، وبدأت بالطبخ.
“كنتُ أعرف ذلك. كيف لا يوجد طعامٌ في هذا المنزل؟ هل يسكن هنا أحدٌ أصلًا؟”
“كنتُ على وشك الذهاب لشراء البعض …”
تجاهلت ماري عذر سيرينا الضعيف، وأعدّت وجبة بسرعة.
أثار منظر الطعام الطازج شهية سيرينا.
أخذت قضمة من يخنة اللحم البقري الذهبية. ثم أخرى. وقبل أن تشعر، كانت قد أنهت طبقًا كاملًا.
بعد أن استعادت بعض طاقتها، توجهت أخيرًا إلى المهام التي كانت تؤجلها. اغتسلت سيرينا بهدوء وبدأت تستعد للخروج.
لا يزال لديها بعض الأمور لتهتم بها – لا يمكنها الاستلقاء هنا إلى أجل غير مسمى.
“سأخرج قليلاً. المفتاح في السلة تحت رف الأحذية.”
“إلى أين أنتِ ذاهبة؟”
“فقط لبعض الهواء النقي. سأعود قريبًا.”
لم تترك سيرينا سوى هذه الكلمات، وخرجت.
***
في هذه الأثناء، كان ليونارد يتتبع أوفيليا في نزهتها.
لقد كان حدسه صحيحًا. كانت باي بجانب أوفيليا مباشرة.
أطلق ليونارد تنهيدة عميقة وهو يراقبها وهي تداعب فراء باي.
‘لماذا أنتِ هناك؟’
أطلق باي مواءًا بارتياح، كما لو أن هذا المكان كان ملكًا له دائمًا.
لكن ليونارد كان الوحيد الذي يشعر بالتوتر.
لو عرفت أي نوعٍ من القطط كانت، لشعرت بالرعب.
ظلت نظرة ليونارد الحادة ثابتة على أوفيليا، التي كانت تبتسم وهي تداعب باي ببطء.
لم يكن باي مجرد قطٍ عادي، بل كان بمثابة اليد اليمنى لنوكتورن.
ليس هذا فحسب، بل كان هجينًا نادرًا ممزوجًا بدمٍ وحشي. ورغم ذكائه وجماله، كان الهجينون يُنبَذون بسبب سلالتهم.
كان من المعروف أن بعض الهجينون يصابزن بالجنون، مما يجعل تربيتها كحيوانات أليفة أمرًا صعبًا.
كانت مفارقة أوفيليا، التي تُولي أهمية كبيرة لسلالات الدم، وهي تتبنى قطًا هجينًا دون علمها أمرًا مُضحكًا.
ربما لم تكن تعلم بأصوله.
علاوة على ذلك، كان مظهر باي الجذاب خادعًا، إذ كان يخفي وراءه طبيعة شرسة ومتقلبة.
ما لم يكن نوكتورن، فلا أحد يستطيع حتى أن يمسكه.
ومع ذلك، ها هو ذا، يتصرف بكل حنان.
‘هل أمره نوكتورن بهذا أيضًا؟’
ضيّق ليونارد عينيه على باي كما لو كان يرى شيئًا غير طبيعي.
نادرًا ما كان باي يُظهر عاطفته دون أمر نوكتورن.
لهذا السبب، لم يكن سلوكه الحالي – وهو يرتاح بهدوء في حضن أوفيليا – صادقًا تمامًا.
‘يجب أن آخذه بعيدًا عنها دون أن تلاحظ… ولكن كيف؟’
مع أنه قد تأكد من هوية باي، إلا أن إبعاده عن أوفيليا كان مسألة مختلفة تمامًا.
لن تدع باي يغيب عن ناظريها.
في الوقت الحالي، كل ما يمكنه فعله هو المشاهدة من الظل، منتظرًا الفرصة.
لكن هذا النهج قد بلغ منتهاه.
ربما يكون من الأفضل مواجهة الموقف وجهًا لوجه.
‘أجل. سأرسل إشعارًا رسميًا أدعي فيه أنه حيواني الأليف. إذا ظهر المالك الحقيقي، فلن يكون لديها أي سبب للاحتفاظ به.’
في النهاية، لم تكن قد التقطت سوى قطٍّ ضال.
بمجرد أن يُعلن المالك، لن يكون هناك مبرر للاحتفاظ به.
وبينما كان ليونارد على وشك التعافي والمغادرة –
“مواء.”
ترددت صرخة قطة غريبة بالقرب منه.
في حيرة من أمره، أدار رأسه – ليُفاجأ بمشهد أكثر غرابة.
“سيد ليو؟”
“آه.”
“ظننتُ أنه قد يكون أنت. وكنتُ مُحقًا.”
ابتسمت أوفيليا ابتسامة مشرقة عندما تعرفت على ليونارد.
ومن بين ذراعيها، أطلقت باي مواءً خفيًا، يكاد يكون ساخرًا، مُشرقًا بابتسامة ماكرة.
***
كانت وجهة سيرينا معبد فيريانوس.
حالما رآها الكاهن، قادها مُباشرةً إلى حيث كان رافائيل، كما لو كان ينتظرها.
استقبلها رافائيل بضمادة ملفوفة حول جبهته.
“لقد أتيتِ. لقد كنتُ أنتظر.”
“أنتَ مصاب.”
“هذا لا شيء.”
لمس رافائيل الضمادة التي لم تُخفِ جرحه تمامًا، منتظرًا سيرينا لتجلس.
لكن سيرينا ظلت واقفة وهي تسأل.
“هل أخبرتَ جلالته؟”
“…نعم. جلالته كان يعلم مُسبقًا عندما زرتِني آخر مرة.”
لم تكن هناك حاجة للسؤال عما قيل.
كلاهما كان يعرف تمامًا ما يتحدثان عنه.
وعندما كانت سيرينا على وشك الكلام، ركع رافائيل فجأة أمامها.
“أنا آسف، آنسة سيرينا. لا توجد كلماتٌ تُبرر ما فعلته.”
“لو كنتَ آسفًا حقًا، لكان عليكَ طلب السماح مني لحظة لقائنا.”
عند رد سيرينا البارد، اكتسى وجه رافائيل بالحزن.
كانت مُحقة.
مهما كانت نواياه وفية، من وجهة نظرها، لم يكن الأمر مختلفًا عن طعنة من العدم.
لو لم يعترف بالحقيقة في أول لقاء لهما، لكان عليه على الأقل إخبارها عندما أصبحت حبيبة إيشيد.
لكنه لم يفعل. كان هذا خطأه الثاني.
حدّقت سيرينا في رافائيل، الذي ظلّ راكعًا أمامها، ثمّ تكلمت بصعوبة.
“إن لم تكن تقصد إزعاجي، فانهض. لن أسامحكَ لمجرد أنك راكع.”
“…”
“أسرِع.”
“أنا آسف.”
بإلحاحٍ من سيرينا، نهض رافائيل.
بينما جلست، دخلت في صلب الموضوع مباشرةً.
“أنوي المطالبة بتعويضٍ مناسبٍ عمّا حدث. إن كنتَ تشعر حقًا ولو بأدنى ندمٍ تجاهي، فلا تكتفِ بالقول، بل أثبت ذلك بأفعالك.”
“بالتأكيد. مهما كانت رغبة الآنسة سيرينا، سأكفّر عن خطئيّ.”
بوجهٍ جاد، لم يستطع رافائيل سوى الإيماء برأسه موافقًا على كلماتها.
في مواجهةٍ بين الجاني والضحية، قد يتحول قول الشيء الخطأ – حتى عن غير قصد – بسهولة إلى جريمة ثانية.
لقد تعلّم هذا الدرس بصعوبة بالغة – بفضل غضب إيشيد.
عندما رأت سيرينا مدى سرعة موافقة رافائيل، هدأ بعض غضبها.
لو حاول تقديم الأعذار، لغادرت فورًا.
في المرة الأولى التي واجهت فيها إيشيد بالحقيقة، كانت غارقة في مشاعرها وانفجرت غضبًا.
لكن الآن، استطاعت التفكير بعقلانية.
حرصت ماري على جعلها تتناول طعام صحي، مما ساعدها أكثر.
بينما استعادت سيرينا ذكرياتها، تكلمت أخيرًا.
“علينا أن نتحدث عن ذلك اليوم. أعلم أنكَ تصرّفتَ من أجل جلالته، رافائيل. لكن في النهاية، ارتكبتَ خطأً فادحًا.”
“نعم. بعد ما فعلتُه بكِ، لا يمكنني الادعاء بغير ذلك…”
“لا. ما أعنيه هو أن أفعالكَ آنذاك أضرّت بجلالته أيضًا.”
“ماذا…؟”
رمش رافائيل في حيرة.
لقد فعل ذلك من
أجل إيشيد.
ومع ذلك، يُقال له الآن إن أفعاله قد أضرّت به حقًا؟
كانت الفكرة صعبة الفهم.
ولكن ذلك لأنه لم يكن يعرف الحقيقة كاملةً بعد.
تابعت سيرينا بصوت هادئ.
“هنا بدأ كل شيء – عندما بدأ جلالته يمرض.”
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل " 119"
شكرًا ع الفصل🤭❤️.