لم أعد قادرة على التأجيل.
حياة المنفى، والعيش تحت وطأة المذلّة… كان لا بد من الفرار من كل ذلك.
والآن، وقد استيقظت بهويتي الجديدة كمُستدعِية للأرواح، بات لزامًا علي التوجّه إلى قلعة الأرواح، علّ المركيز يقرّ بي كابنته الشرعية.
رغم أن قلبي كان يتوق لقطع كل صلة بذلك البيت النبيل الكريه، وأن أعيش غريبة عنهم لبقية عمري…
إلا أن هذا الطريق وحده كفيل بمحو وصمة المنفى عني.
“لو أنني ارتقيت مرتبة واحدة فقط، لربما كنت اليوم ساحرة وطنية…”
تنهدتُ وأنا أرتّب حاجياتي بعناية في الحقيبة.
الأرواح رفضت البوح بأسمائها الحقيقية أو بهوياتها، مما جعل من المستحيل تقدير قدراتي أو تحديد إحصاءاتي.
لكن المشكلة الأهم، أنني لا أستطيع صياغة التعاويذ بمفردي.
عليّ أن أرجو الأرواح أن تمنحني قوتها مباشرة—وكأنني أدرّب مخلوقات خرافية.
إحداها، روح صغيرة بحجم فرخ، تُدعى دوشيك، رفرفت بجناحيها واقتربت مني.
“هل ترغبين في أن تصبحي ساحرة وطنية؟”
“ذلك أحد سُبل النجاة من وصمة المنفى.”
“إذن، اذهبي إلى العاصمة المركزية للإمبراطورية! لقد استيقظتِ، أليس كذلك؟!”
أشعلتُ شعلة صغيرة، بالكاد توازي عود ثقاب، وابتسمتُ بخفة بينما سألتُ دوشيك:
“هل أنت من الأرواح المتوسطة أم العليا؟”
رغم كل شيء، بقي بصيص من الأمل مرتعشًا في صوتي.
“بمقاييس البشر، أُعدّ من الأرواح الدنيا.
لكن قوتي العظمى تفوق إدراكك.”
صغير في الجسد، عظيم في الروح.
يتوهم أنه ملك الأرواح.
أغلقتُ حقيبتي وقد سرحتُ في فكري.
“كل شيء في أوانه.
أولًا، علي أن أطهّر اسمي وأتخلص من سمة المنفى.
ويجب أن أبرّئ اسم والدتي الراحلة من كل ما لُفّق حولها من أكاذيب.
ولهذا، عليّ الذهاب إلى قلعة الأرواح.”
“نياه.”
كامي وقد استدارت بجسدها داخل الحقيبة، تموء بتكاسل.
يبدو أن الأرواح، شأنها شأن القطط، لا تنجو من طبعها الكسول.
“إيريليا؟ كانت روحًا طيبة ونبيلة.”
قال دوشيك ذلك وهو يضم جناحيه كأنهما ذراعان ويجلس بفخر. رمقته بدهشة.
“إيريليا… ذلك اسم والدتي.
هل عرفتها؟”
“بالطبع.
ملك الأرواح كان يخصّها بمودّة فريدة.
وكذلك الكثير من الأرواح.”
“فلماذا إذن…”
لماذا لم يتدخّل أحد حين لفّقوا الأكاذيب ونفوها؟ لم أُكمل سؤالي، لكن دوشيك قرأه في نظراتي، وأطلق تنهيدة خافتة.
“والدك—سيد قلعة الأرواح—عقد عهدًا مع روح الغيرة.
والأرواح لا تقوى على نفي الغيرة أو الشك حين يتغلغلان في الأعماق.
تلك مشاعر تتجاوز نطاق سلطاننا.”
هل كانت مكروهة؟ وبينما كنت أغوص في دوّامة أفكاري، سألني دوشيك:
“آيزيك بيلمور… أما زال حيًا؟ لا بد أنه تجاوز المئة الآن.”
آيزيك بيلمور، الدوق الأكبر، كان جدي الأكبر.
قبل قرن، اختاره ملك الأرواح، وبعد أن تم العقد، سلّم لقبه وتنحّى إلى قصرٍ ناءٍ في أطراف البلاد.
ومنذ ذلك الحين، لم يقع اختيار الملك على أحدٍ جديد.
ورث أبي وجدي، وكلاهما من أبرع مستدعِي الأرواح، لقب سيادة القلعة.
“لا يزال على قيد الحياة وبصحة جيدة، رغم أنني لم أره قط.
لماذا تسأل؟”
“مجرد فضول.”
أجاب دوشيك ببرود، ثم انشغل بتنظيف ريشه.
وحين أنهيتُ استعداداتي، ارتميتُ على السرير وزفرتُ بعمق.
عادت إلى ذهني نظرات الاحتقار الباردة ممن كانوا يدّعون أنهم “عائلتي”، تبثّ في صدري رجفة.
الحزن والغضب كانا ينهشانني، لكنني عقدت العزم على الثبات.
هم من لفظوني أولًا—ولا مجال للإصلاح بعد الآن.
سأوجّه كل جهدي صوب هدفي: إسقاط صفة المنفى عني.
وبعدها… سأهرب مع إيديل إلى أرض بعيدة لا تعرفها أقدام أبطال القصة الأصلية.
“أنا مستعدة.”
الشيء الوحيد الذي حمله إيديل كان كتابًا تحت ذراعه.
لم يكن يملك غيره.
وكنتُ مضطرة لتدبّر كل شيء بنفسي.
“إيديل، لا تتسبب في المشكلات، اتفقنا؟”
أومأ بفتور.
وقبل المغادرة، رتّبتُ المتجر بعناية، وعلّقتُ لافتة كتب عليها: “مغلق لأسباب شخصية.”
رنّ الجرس فجأة—
ودخل العجوز “جان”، بائع الخردة، مرتديًا بدلته المعتادة المصنوعة من الجرائد وحبلًا كربطة عنق.
حدّق في اللافتة بيدي، وسأل:
“إجازة؟”
“آه.
مجرد رحلة عمل قصيرة.”
ابتسمت، وسلمته كيس الحلوى المعتاد.
ناولني قطعة نقدية صدئة وجدها قرب النافورة، وقال:
“سمعت أن اللصوص الذين كانوا يجوبون المنطقة اختفوا أخيرًا.”
لابد أنه يقصد فيليب وعصابته.
بلعتُ ريقي وتظاهرت بالجهل.
“خبر سار.”
“فنانة تجريبية كانت آخر من رآهم.”
تلك الغريبة ذات التنورة الشفافة التي ولّت هاربة عندما رأت فيليب؟ كان نظر جان يتجه نحو الحاجز المحطّم.
كنت قد أخبرت كيا أن لصوصًا اقتحموا المكان وسرقوا القليل مما نملك…
لكن نقابة الشحاذين تملك أوسع شبكة معلومات في الإمبراطورية.
هل عرف هوية إيديل؟
لبثتُ صامتة، أترقّب كلماته.
“يقولون إن الهجوم وقع هنا تحديدًا.
هل أنتما بخير؟ لقد أقلقني الأمر.”
كانت نبرته ونظراته صادقتين.
“نعم، لحسن الحظ لم يكن لدينا ما يُسرق… فقط بعض الحلوى التي اشتريتها أنت.
أمر شائع في مثل هذه الأحياء.”
“إن حطّموا الحاجز، فهُم ليسوا لصوصًا عاديين.”
قالها بنبرة مشوبة بالريبة، ثم ابتسم بلطف.
“المهم أن تكونا بخير، أنتِ والفتى الصغير. “
تنفّستُ الصعداء في سري.
يبدو أنه لم يكتشف هوية إيديل.
“هل لديك أي معلومات عن أولئك اللصوص؟”
“لدي إحساس قوي بأنها تنتمي إلى نقابة استخبارات سرية.
الطريقة التي اخترقت بها الحاجز تدل على احتراف.
كما أنها تستهدف متاجر ‘يوديس’ فقط… أمر يثير التساؤل.
ربما تظن أن المعتدي الغامض ساحر مظلم، وتبحث عنه.”
…إن استمرّ الوضع على هذا النحو، قد تُكشف هويتي.
من أجل إيديل كان علي أن أغير مجرى الحديث. نظرتُ إلى جان مباشرة، إلى عينيه، وقلت بجدية:
“جدي، هناك أمر لا بد أن أبوح لك به.”
“وما هو؟”
ترددتُ قليلًا، أحاول انتقاء الكلمات.
“…أنا ابنة لعائلة نبيلة، وقد طُردتُ من قلعة الأرواح بتهمة جلب النحس.”
كل ما دار بيننا من أحاديث، وكل جهلي المتصنّع… كان محض كذب.
“تلك النبيلة المنفية… هي أنا.
سأسافر إلى قلعة الأرواح لأستعيد مقامي.
آسفة لإخفاء الأمر.”
ظلّ جان يحدّق بي بصمت، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة هادئة.
“كنت أعلم منذ البداية.
لا تستهيني بشبكة نقابة الشحاذين.”
إذًا… كان يعلم، ومع ذلك استمرّ بمشاركتي المعلومات؟
“أسلوبك، وهندامك، يفضحان نشأتك النبيلة.
من الواضح أنك لم تكبري في حيّ مثل هذا.”
أرخيتُ فكي المتشنج، وقلت بصوت متهدّج:
“لم تكن سرقة… لقد أرادوا قتلي.
وعلى الأرجح، بأمر من عائلتي.”
ساد صمت ثقيل.
لم ينبس ببنت شفة.
فقط أخرج شيئًا من معطفه المبطن بالجرائد، وقدّمه لي.
“حان الوقت لأعطيك هذا.”
عوضًا عن كلمات التعاطف، سلّمني بطاقة شحاذ فخرية مذهّبة.
[بطاقة الشحاذ الفخرية]
الاسم: سييلا
الانتماء: مجموعة المستشارين المباشرين لرئيس النقابة
تشهد هذه البطاقة أن حاملها قد عُيّن شحاذًا فخريًا من قبل رئيس نقابة الشحاذين.
“ستكون ذات نفع عظيم.
الشحاذون في كل مكان… ومع ذلك لا يراهم أحد.”
كانت هذه رخصة بالتسوّل في أي بقعة—طريقته لضمان ألا أجوع أبدًا.
تأثرتُ بكرمه، وقلت وأنا أعضّ على شفتي:
“هل طلبتَ من رئيس النقابة أن يُعدّها لي خصيصًا؟”
“أنتِ فتاة تفهم معنى العرفان، وتردّ الجميل دومًا.”
مدّ يده يصافحني.
“إن احتجتِ إليّ يومًا، لا تترددي.
وقد يأتي وقت أطلب فيه عونك أنا أيضًا.”
شبكة الشحاذين تمتد في كل زاوية.
وسأكون بحاجة للمعلومات قريبًا.
رفعتُ رأسي، ومسحتُ دمعةً تسللت على خدي.
“لدي طلب، جدي.
أرجوك، ساعدني في العثور على ‘فيليب كيلوسيكوس’.”
كنتُ أجهّز لصفقة—موقعه مقابل سكوتي عن هوية إيديل.
وقد يكون بحوزته مفتاح موت والدتي.
“حسنًا، سييلا.
سأتواصل معك متى وصلتني أخبار.
كوني بخير، وتذكّري أنكِ مرحب بكِ دائمًا هنا.”
ابتسم جان بحرارة.
ركبنا العربة التي أعدّتها كيا وانطلقنا صوب بيلمور، أرض قلعة الأرواح.
كانت الرحلة وعرة، بعيدة كل البعد عن الراحة، لكن إيديل ظلّ منهمك في قراءة كتابه بتركيز مدهش.
ذكي ومجتهد… لو أن له فرصة للالتحاق بأكاديمية محترمة…
“إيديل، سأحرص على أن تُقبل على الدراسة في أكاديمية محترمة.”
رفع نظره نحوي بدهشة، كأنّ كلامي نزل من السماء.
“هكذا بلا تمهيد؟”
“ليست مفاجأة.
لطالما ندمت على عدم إتمام دراستي.
حتى إن اضطررتُ لبيع منزلنا—”
“ما عدنا نملك منزلًا.”
…صحيح.
ومع ذلك، ببعض الجهد ومعونة الأرواح الصغيرة، سأوفّر نفقات التحاقها.
وحين تُحقّق النجاح وتصبح شخصية لامعة، ستردّ لي الجميل… ستعتني بي حين أشيخ… وبينما كنت أستغرق في تلك الأحلام، اهتزّ العالم من حولنا، وظهرت في الأفق أسوار قلعة الأرواح المهيبة.
كيا، التي كانت تمسك زمام القيادة، التفتت إلينا.
“لقد وصلنا.”
“بهذه السرعة؟ ألم يكن من المفترض أن تستغرق الرحلة عدة أيام؟”
“استخدمنا بوابة تنقّل.”
بوابات التنقّل… أليست تلك الوسائل الرفيعة التي تتطلّب ثروة لتسجيلها، وأخرى لاستخدامها؟
“كيف دفعنا؟ لا تخبريني أنها من راتبي!”
“كيف عرفتِ؟”
غمزت كيا وهي توجّه العربة نحو القلعة.
اللعنة.
لم يتبقَ لي وقت للاستعداد النفسي! كنت أحتاج لتدريب نفسي على بعض العبارات النارية قبل المواجهة!
لكن قبل أن أستجمع شتات أفكاري، كنا قد بلغنا بوابات بيلمور الشاهقة.
___
ترجمت من الكوري للانجليزي للعربي،
قدروا جهودي وكثروا من النجوم والكومنتز 😿.
واعذروني اذا في اخطاء املائية …
التعليقات لهذا الفصل " 20"