بعد أن راودني حلم تجلّى فيه الكون بنورٍ ساطع، أفقْتُ لأجد نفسي في قلعة الأرواح، ولم أدرك أنني لا أزال حبيسة المنام إلا حين ارتسم أمامي مشهد بعيد أعادني لذكرى عتيقة؛ لمّ شمل أسرة كانت تلتف حول إبريق الشاي، بينما أراقبهم من خلف ستار المسافة.
“لا أصدق أنكِ استيقظتِ بهذه السرعة، ليراجي…
أنا فخورة بكِ، صغيرتي”
منذ أن غابت أمي عن الدنيا، أسيرةَ داءٍ نفسي، انعزلتُ كليًا عن عالم الأحياء، وأصبحت سجينة ضباب الأرواح.
أما إخوتي غير الأشقاء، أولئك الذين ورثوا خصلات الفضة من أبيهم، وتمكّنوا من استحضار الأرواح، فقد حازوا على محبته، واحتلّوا مكانًا في قلبه لطالما حلمتُ به.
كنتُ أتأمل ذلك الأب الحنون وهو يحنو على أطفاله، وقلبي يعتصره الشوق والانتماء.
“أبي… ماذا عني أنا؟”
حاولت مرارًا وتكرارًا أن ألحق بركبهم، أن أصبح واحدة منهم.
ثابرت في دراستي، وحققت تفوقًا لافتًا في الأكاديمية، فقط كي أستحق نظرة منه، كلمة، أو حتى إشادة عابرة.
“فاسيلي، ليراجي… عذرًا، الخيّاطات قد وصلن”
لكنّه كان دائمًا يُقصيني، يتعمد تجاهلي، وينزعني من كل ما يمسّ مناسباتهم العائلية.
ذاك الحلم الوردي عن دفء الأسرة لم يكن إلا خدعة…
كنت بينهم دخيلة، غريبة في بيتٍ أحبه.
حتى جاء يوم بلوغي، حيث أقام لي والدي حفل ميلادي الأول.
ما زلت أذكر تلك المائدة البهيّة، الكعكة ذات الطبقات الثلاث، والقاعة المزينة كقصص الخيال. ظننتُ، ولو لوهلة، أن شيئًا تغير.
“عيد ميلاد سعيد، ماريسيلا”
رغم بساطة العبارة، كانت أول تهنئة أتلقاها منه، بدت حينها كأنها أغنية تداوي القلب.
“هل يُعقل أنني سأصبح، أخيرًا، واحدة منهم؟ حتى دون أن أستدعي الأرواح؟”
لكن تلك الآمال بقيت حبيسة الصدر.
“أظن أنكِ لم تستيقظي فعلًا”
عندما دقّت الساعة منتصف الليل، غلف الصمت القاعة، ونظر إليّ والدي بنظرة فيها خيبة ووجع، وكأنني خذلته خذلانًا لا يُغتفر.
“لقد عاملك كابنته، منحك فرصة، وانتظر بلوغك ليُقيم لك هذا الحفل… ثم خاب أمله”
قالتها ليراجي بعلو صوتها، ترفع كأسها أمام الجميع لتسمعهم.
كان الحفل مجرد وسيلة لإثبات أنه كان مُحقًا حين أبعدني.
“وجودك بيننا هو اللعنة ذاتها، برحيلك وحده تُرفع النحوس عن القلعة”
ضحك فاسيلي باستهزاء، وأضاف:
“أتراه يغضب ملك الأرواح إن كانت وريثته ابنة غير شرعية؟ غادري الآن!”
تحوّلت من نجمة الأمسية إلى عارها، وبدأت نظرات السخرية تنهشني.
“هل كنتَ تحتاج لأن تقتلني معنويًا في أول حفل تهديني إياه؟”
لكنني لم أبكِ. لم أذرف دمعة.
بدلًا من ذلك، قلت ما كتمتُه طويلًا:
“وإن ثبت لاحقًا أنني ابنتكَ الحقيقية… ماذا ستفعل؟”
“ذلك اليوم لن يأتي.
لن أكون والدكِ أبدًا”
قالها بثبات من يصدق كذبته، كأنها عقيدة.
لحظتها، نزعت عني كل مشاعر الأسى، وقررت البدء من جديد.
رحلت أمي، وغادرني كل مأوى، سواء ناديتُ الأرواح أم لا.
قلت بيقين:
“نعم… يا عمّي”
أذكر ملامحه حين نطقتها، ملامح ماركيز بيلمور.
إنهم لا يتذكّرونك إلا حين يشيخون، ويحتاجونك.
ولكن… لن أعود.
أقسمت أنني لن أكون لهم مجددًا.
“حتى إن نلتُ اعتراف الأرواح، سيظلون غرباء”
ربما كرهًا لكلمة “عمّي”، أعلن الماركيز نبذي رسميًا، ونفاني إلى حافة المدينة، حيث أعيش الآن بين البؤساء.
عناده عنيد كالقدر.
“هل ترغبين بالانتقام؟”
في حلمي، تردّد صوت غريب.
“من هناك؟”
وفجأة، اجتاحتني موجة من السواد، غلّفت كفّي هالة حالكة، وظهرت أذنان مدببتان وعينان مستديرتان في راحتي، كأنها دمية قطة سوداء.
ثم صرخ صوت جهوري:
“نحن الأرواح العظمى”
“أوه… أنتم لطيفون!”
“وقاحة أن تصفي عظمتنا باللطافة!”
ثم برز فرخ أصفر يحلّق، بصوت عجوز ساخط:
“أنتِ من نسل عائلة الأرواح، جئتِ لأُبرم معكِ عقدًا”
“حقًا؟ تبدوان صغيرين جدًا…
هل أنتما أرواح من الطبقة الدنيا؟”
قطّب الفرخ جبينه:
“هل سترفضين العقد إن كنا ضعفاء؟”
“أبدًا، أنا فقط… سعيدة.
كما أنكما… جميلان جدًا”
عانقت الدمية والفرخ، وقلت:
“أي جرأة أن تصفيني باللطيفة! أتعلمين من أكون؟”
“لا أدري، لكن كل روح مرحّب بها.”
لم يكن يهمّني مقدار قوتهم، كل ما عناني هو قبولهم لي…
شعرت أخيرًا أنني لست ثمرة خيانة.
لطالما تساءلت: “هل أنا حقًا ابنته؟”
“ما طبيعة أرواحكما؟”
“أنا روح الظلام، وهو روح النار.
سأريكِ اللهب الذي يحيل مدينة رمادًا”
ثم نفخ بجناحيه، وأضاء لهب صغير كعود ثقاب.
“مذهل… سيوفر لي مال الحطب”
الأرواح، مهما ضَعُفت، تحمل منافع: طهو، حدادة، حِرَف…
“مياو”
تذمّرَت القطة من كفّي.
“روح الظلام يسأل: هل تنوين العودة للقلعة؟”
هززت رأسي نفيًا.
“لن أعود إليهم.
فقط أحتاج لإزالة صفة النبذ”
ضيّقت الدمية عينيها، وخفق الفرخ بجناحيه:
“ألن تنتقمي من والدكِ؟ من خان والدتكِ، وظلمكِ، واحتقركِ، ولم يعترف بكِ وجعل منكِ نكرة؟”
قالها بوجه بريء، لكن كلماته غرزت في قلبي.
أجبت بهدوء:
“الانتقام الأجمل… أن أعيش بسعادة.
لا شيء يؤلمهم أكثر”
تنهد الفرخ، بينما كنت أعلم: حين تركز على ذاتك، يسقط أعداؤك تلقائيًا.
فرص الانتقام تأتي طوعًا.
الحقد عبء، وأنا أبحث عن النور.
أرغب فقط بتربية إديل كما يجب.
“ستساعدونني في كسب الكثير من المال، أليس كذلك؟”
“مياو.”
“بشرية جشعة تستعبد الأرواح!”
رغم أقوالهم، بدوا أليفين أكثر من أي شيء آخر. تلفّت روح الظلام حول معصمي، ثم تجسّد كقط أسود أنيق وقفز أمامي.
“العقد أُبرم.
لا يُكسر إلا بالموت”
قالها الفرخ بنبرة صارمة، بينما كنت أحدق بالقط بولهٍ، أتمتم:
“أحب القطط…”
“…أعتقد أنني أبرمتُ اتفاقًا مع بشر غريب”
—
“أوه…”
حين فتحت عينيّ، أدركت أنني كنت في غيبوبة حُمى.
كم مرّ من الزمن؟ عيناي دامعتان من أثر الحلم، والغرفة يغمرها وهج الفجر الأزرق وسط صمت هائل.
هل كان حلمًا؟ هل استدعيت الأرواح حقًا؟
استدرت نحو مصدر دفء بقربي، لأجد إديل ممددًا بجانبي، شعره الداكن مسدول على الوسادة.
بجانبه مناشف مبللة وصينية طعام…
لا بد أنه سهر يعتني بي حتى أنهكه التعب.
كان دفء رعايته عذبًا بطريقة لم أعهدها.
“إديل”
هززت كتفه برفق.
“هممم”
استيقظ عابسًا، كقط منزعج:
“ظننتكِ متِّ”
لكنّه ناولني كوب ماء أعدّه سلفًا. ربما كان خائفًا من أن يبقى وحيدًا.
“كيف أموت وأنا أملك إديل؟ تعال هنا”
جذبت يده بلطف، فوضع راحته الصغيرة على جبيني، يتحقق من حرارتي.
“مياو”
قط أسود مسح خد إديل بذيله. ضيّق عينيه بدهشة:
“قط؟”
ثم، أطلّ الفرخ مغرّدًا:
“روح الظلام يقول: أنتِ من سلالتي، ساكن الظلال”
اتسعت عيناي، وسقط فكي في ذهول…
التعاقد مع الأرواح لم يكن حلمًا.
التعليقات لهذا الفصل " 18"