ماركيزية بيلمور: قصر الأرواح
كان الحي المحيط بقلعة الأرواح متواضعًا في هيئته، تناثرت فيه البيوت الصغيرة كأنها نبتت من صلب الأرض، يسكنها الفلاحون والعامة، أولئك الذين يقتاتون على شقاء الأيّام، ويكابدون لقمة العيش بأعمال شاقة أو مهن متفرقة.
“فيضانات حينًا، وجفاف حي آخر…”
همس الفلاح بصوت متهالك، يرمق زرعه الذابل بعينٍ يملؤها القنوط، وقد انكفأ على يأسه كمن طوّقته الحاجة.
“أمّي بحاجة إلى دواء لا ينقطع…
لكن العثور على طبيب أو صيدلي صار أمرًا بعيد المنال”
قالتها الخادمة التي تخدم في القصر بصوت مشوب بالكآبة.
أما ذلك الرجل الذي أفنى عمره في طحن الحبوب، ثم خسر كل شيء إثر زلزالٍ غادر، فكان يحتضن زجاجة خمر بيد مرتعشة، ويشهق بأنينٍ كأنما يخرج من أحشاءه:
“كانت الأرض وادعة، خصبة… كانت الأحلام تثمر في أحضانها.
أين ذهبت تلك الأيام؟”
لقد توالت المصائب على ساكني قلعة الأرواح كأنها لعنة مستعصية؛ كوارث طبيعية تنهش استقرارهم، وأمراض تفتك بأجسادهم، ولما ضاق بهم السُبل، شرعوا في البحث عن مذنبٍ يُعلّقون عليه خيبتهم.
“أليست كل هذه البلايا بسبب الابنة الكبرى؟ تلك التي أغضبت ملك الأرواح؟ لم تكن شرعية أصلًا!”
كانت سييلا صيدًا سهلًا لغضب العامة.
وللماركيز، كانت ستارًا يخفي عجزه، ووسيلة يصرف بها نقمة البارونات عن نفسه.
“لكن… حتى بعد نفيها، تفاقمت الكوارث.
ألا يُحتمل أن يكون هناك سبب آخر؟”
قالها شيخٌ عجوز بصوت هادئ لم يُجدِ في إخماد سخط الناس.
“لقد نُفيت ظلمًا، وربما…
ربما تحالفت مع سحرة الظلام في العالم السفلي…”
ثم طأطأ رأسه، وقال بأسى:
“الآنسة ماريسيلا كانت طيبة الخلق، محبّة للناس، وصافية القلب…”
كان شيخًا عمل بستانيًا في القصر قديمًا، فقال له الرجل السكير بازدراء:
“أتزال تؤمن بأكاذيب النبلاء؟”
لكن العجوز أصرّ:
“من عاش بينهم، أدرك معدنهم.
الأرواح كائنات خيّرة، لا يعنيها النسب ولا السلطة”
وتذكّر العجوز روح العشب الصغيرة التي كانت تلاعبه في الحديقة.
كانت روحًا مُشرقة، تعاقدت مع أسرة بيلمور، لا يُعقل أن تكون سببًا في خراب.
في تلك اللحظة، نهض رجل غاضب وصاح:
“أصابك الجنون؟ أنت من أتباع الظلام! سأبلغ عنك فورًا!”
تراجع الشيخ رافعًا كفيه:
“ما هذا الهراء؟ لم أقل سوى الحقيقة!”
كان أغلب الحاضرين غارقين في بؤسهم، لا يرون إلا ما يُرضي وجعهم.
ولم يكن من أحدٍ ليرأف بشيخٍ يدافع عن من اعتبروها نذير الشؤم.
“غدا، عندما ما تشرق الشمس، سأبلّغ عن هذا العجوز المجنون—”
لكن الرجل صمت فجأة، وتجمد في مكانه.
وجمد الجميع معه، يحدقون في نقطةٍ بعيدة.
هووو—
“روح العشب؟”
همس العجوز، وقد انفتحت عيناه بدهشة.
كانت الروح الصغيرة التي اختفت منذ وفاة المتعاقد معها، قد ظهرت للحظة قرب الشيخ، ثم ارتفعت إلى السماء واختفت في العتمة.
فلاش!
انفجر نور عظيم في السماء الخالية من القمر والنجوم، وغطّى ضياؤه مدينة الأرواح بأسرها.
—
في صباح اليوم التالي، استُدعي وجهاء عائلة بيلمور على وجه السرعة إلى قاعة المؤتمرات في القصر.
أولئك الذين يملكون مفاتيح النفوذ داخل الفصيل الإمبراطوري.
لقد اشتهرت أسرة بيلمور منذ قرون بقدراتها الروحية، ما جعلها عدوًا طبيعيًا للشياطين.
سبب الاستدعاء كان حدثًا جللًا: تمثال “صورة آرنِس” — إرث مقدّس وهبة من ملك الأرواح — قد أضاء ضوءًا عظيمًا لم يُشاهد مثله منذ مئة عام.
“سيدي، الليلة الماضية، أضاء تمثال آرنِس بنور سماوي، كأنه إشراق من عالمٍ آخر”
قالها الكونت بيورن، أصغر إخوة الماركيز، بعينين تشعّان أملاً.
فالنور الذي غمر المدينة كان علامة لا لبس فيها: ملك الأرواح قد اختار وريثًا جديدًا.
“لكن… لا أحد من أبناء العائلة أظهر قوة بمستوى ملك الأرواح”
قال أحدهم بتساؤل، فأجاب بيورن:
“قد تكون الروح اختارت أحد المستدعين الجدد… إليزابيث، ابنتي، استيقظت مؤخرًا كمستدعية أرواح متقدمة…”
لكن الأرشدوقة آرسيس، شقيقة الماركيز والآتية من دوقية أجنبية، قهقهت باستخفاف:
“قطعتُ كل تلك المسافة من الدوقية الكبرى… لأجل وهجٍ لتمثال؟”
فأجابها المرقسي بجمود: “الأمر أكبر مما تظنين يا أختي.
إن صحّ ما رأيناه، فقد لا يكون الوريث من دم بيلمور المباشر”
أردف: “منذ الحروب القديمة بين الشياطين والآلهة، كان من يتعاقد مع ملك الأرواح يُصبح رأس العائلة. ومنذ ذلك الحين، يُنقل الإرث لمن يوقظ قدرات الملك”
قاطعه بيورن بسؤال: “أليس جدك، الماركيظ الأكبر، هو آخر من نال هذا الشرف؟ ولم يُختر أحدٌ بعده؟”
سعل الكونت أليك، الأخ الأكبر، وقال:
“ولا وريث حقيقي لديك، أليس كذلك؟
ألا ترى أنه حان وقت استدعاء ماريسيلا؟”
أشار إلى الابنة الكبرى التي نفاها المرقسي قديمًا، والتي أنكر نسبها.
“لقد اعترفت بأمهم كماركيزة، فبالتالي فاسيليي وليراجي هما ولداي الشرعيان”
قال الماركيز بصرامة.
لكن أليك، الذي كان دائمًا محبًّا لماريسيلا، أبدى امتعاضًا واضحًا:
“كانت ذكية، ذات بريق خاص…
وربما تأخرت قدراتها في الظهور، كما حدث مع المرقسية السابقة…”
صرخ الماركيز بحدّة: “أنت لا تعرفها.
كانت مختلفة عني تمامًا”
ثم ضحك بسخرية: “كانت تشبه جدّتنا… شقراء بعينين زمرديتين، ساحرة الطلة”
ثم صاح بغضب: “أولادي الحقيقيون هما فاسيليي وليراجي.
انتهينا من هذا النقاش!”
نظر إلى أخيه شزرًا: “أكنت تحبّ الماركيزة السابقة؟ لماذا تعامل تلك المنبوذة كأنها ابنتك؟”
فأجابه أليك ببرود: “قطعًا لا”
لكن عينيه كانتا ترويان قصةً أخرى، وكان يعلم أن الماركيز لطالما شكّ فيه، ولهذا لم يستطع مناصرة ماريسيلا علنًا.
تدخّلت الأرشدوقة بازدراء: “أليست أم أولادك من السوقة؟ حتى وإن اعترفت بها كماركيزة، فلن يقبل النبلاء بها.
ولن يُعترف بأبنائها كورثة”
وأضافت بتهكم: “يُقال إن فاسيليي تعاقد مع روح عُليا…
لكن أصله يظل مشبوهًا”
“أما إذا لم تكن ماريسيلا ابنة شرعية، فإن العرش… بلا وريث”
توتر وجه الماريكز، وبدأت الهمسات تعلو بين الحاضرين.
قال أحدهم: “في حالات نادرة، يختار ملك الأرواح بنفسه، دون إعلان، ويخفي هويته حتى تنكشف في الوقت المناسب”
ابتسم بيورن بمكر:
“ومن الطبيعي أن تُستثنى ماريسيلا، ما دمت لا تعترف بها”
في تلك اللحظة، لمعت في عيني الماركيز لمعة غامضة…
كأن ذكرى ماريسيلا قد عادت تطوف في عقله.
___
حسابي بالواتباد:
starboow@
التعليقات لهذا الفصل " 17"