رغم الفوضى التي اجتاحت المتجر بالأمس، استيقظت هذا الصباح على سكون غامر كأن المدينة قد احتضنت الصمت بامتنان.
لم يطرق بابي محقق ولا استوقفني حارس، ولم يُطرح عليّ سؤال واحد بشأن حالات الاختفاء.
فهذه “يوديس” المدينة التي يتآلف فيها الغياب مع الظلال، ويبتلع الصمت أولئك الذين لا يسيرون في الضوء.
كنت على وشك النهوض لتحضير الفطور، حين جلست على حافة سريري، ولاحظت شيئًا مريبًا عند قدميّ.
“هم؟ ما هذا؟”
إطار ضخم، مغطى بقماش أبيض، وُضع بعناية على الأرض، كأنه أُهدي لي من يدٍ تعرف ما تفعل.
هل يمكن أن يكون كايا قد أحضره؟
حجمه وحده ينفي أن يكون من بضاعة المتجر المعتادة.
سارعت إلى رفع الغطاء، يملؤني فضول ممزوج بشيء من الحذر.
“هاه…؟”
「الأم والطفلة، بريشة لانغ دو فوشتان」
اتسعت عيناي بذهول لحظة قرأت الاسم المحفور بعناية أسفل اللوحة: اسم الرسام وعنوان العمل.
كانت صورة لامرأة شابة، ترتدي فستانًا يليق برقة حضورها، تقف إلى جانب طفلتها ذات الأعوام الخمسة.
حدّقت في العمل مأخوذة، وكأن عقارب الزمن تعطلت عن الدوران.
لم أتخيل يومًا أنني سأراها من جديد.
لكن…
ما الذي جاء بها إلى هنا؟ أليست من مقتنيات متحف الفنون؟
بينما كنت غارقة في تساؤلاتي، انفتح الباب ببطء، ودخل إديل، نظيفًا ومعطرًا بعد استحمامه، يحمل في ملامحه برودًا خاليًا من التعابير.
اقترب بصمت، ثم قال:
“الطفلة هي سييلا، أليس كذلك؟ وهذه بجانبك… والدتك”
وأشار بإصبعه نحو المرأتين في اللوحة.
كلتاهما تملكان شعرًا ذهبيًا طويلًا وعيونًا خضراء.
“كيف عرفت؟”
“إنها تشبهك”
تبع إصبعه حتى استقر على الأم.
وكان محقًا تمامًا…
إنها والدتي، وأنا حين كنت في الخامسة.
مررت بأطراف أصابعي على ملامح والدتي في اللوحة، ثم أطرقت رأسي بصمت.
نعم…
كأننا نسختان من الحنين ذاته.
فجأة، انزاح الستار عن ذكرى قديمة…
فيليب كيلوسيكوس، ذاك الذي اقتحم المتجر ذات يوم وقال:
“ظننت أنني رأيتك من قبل…
أنتما متشابهتان كثيرًا”
“تشبهين المرأة التي طلب مني أحدهم رسمها في شبابي”
هل كان يعني والدتي؟ إيرليا بيلمور؟ أكان ذاك “طلبًا رسميًا”؟
إذًا…
أكانت نهايتها لأسباب أعقد من مرضٍ نفسي؟ نظرت إلى إديل وقد لاحظ شحوب وجهي، فسارعت إلى التماسك وقلت:
“ومن الذي جلب هذه اللوحة؟”
“أنا”
رفعت بصري إليه مذهولة.
هل تخطى حواجز المملكة السحرية؟ هل تجرأ على سرقتها؟
“هل سرقتها؟”
“بل أعدتها إلى صاحبتها الحقيقية”
“لكن… هذه…”
صمتُ، ثم مررت بكفيّ على وجهي.
إنها اللوحة الوحيدة المتبقية لي من والدتي.
سرقتها ذات منفى من قلعة الأرواح، ثم تبرعت بها للمتحف، فقط لأتمكن من رؤيتها كلما اشتقت.
أنا السارقة الأولى… فكيف ألومه؟
“إديل، أخبرني الحقيقة.
كيف فعلتها؟ لا بد أن وراء الأمر تسلسلًا”
عند لهجتي الجادة، تضايق قليلًا، ثم زفر تنهيدة طويلة وقال:
“اقتحمت المتحف”
“اعترافك دليل على ثقتك بي”
اتسعت عيناه قليلًا، ثم لان وجهه وقال بهدوء:
“اربتي على رأسي يا أخت سييلا”
أهكذا يطلب المديح؟ يحزنني أن يظن العنف هو الحل، أن يجعل من اقتحام وقسوة وتعدٍّ أسلوب حياة.
تذكرت حين التقيته أول مرة…
كان معلّقًا على غصن شجرة، فاقدًا للوعي.
أنقذته واعتنيت به، وعندما فتح عينيه قال:
“ما الذي تحدقين به؟ أترغبين بالموت؟”
“أنقذتني؟ لا تلمسيني إن لم ترغبي بالموت”
كان يتحدث بلهجة النبلاء المتغطرسين.
في ذلك الوقت، ظننته فاقدًا للذاكرة، شخصًا غريبًا يختبئ خلف قسوة لا تشبهه.
سعيت جهدًا لأتجاوز جدران قلبه.
كأنني أحاول ترويض قط بري، جافٍ، حتى يهدأ.
تعلقت به… آمنت به… احتضنته بروحي.
لكنني أشعر الآن…
وكأنني لم أفعل سوى تأصيل تطرفه.
رفعت رأسي إلى السقف المشبع بالضوء، بعينين حائرتين.
اقترب إديل، وجهه شاحب، ونظراته متوجسة.
“هل أنتِ غاضبة لأني خرجت خلسة ليلة البارحة؟”
“لا تفعل ذلك مجددًا.
الأمر خطير، وأنا أقلق عليك”
الخطر لا يأتي فقط من الخارج…
بل من أن يُكشف أمره.
إن عُرف أنه ساحر ظلال، ستكون العواقب وخيمة.
وكأنه قرأ أفكاري، قال بهدوء:
“لا تقلقي.
لن يخبر أحد، حتى ذلك الذي فرّ بالأمس…
فيليب”
“ولماذا؟”
“لأنه هو الآخر…
ساحر ظلال”
“وكيف علمت؟”
“السحر الأسود يُحس، كالهالة…
وخصوصًا بين أمثالنا”
تنهدت، وأخذت بيده.
“ربما كان من حسن حظنا”
“إديل…
هل ترغب بالانخراط في حياة الناس؟ الترفيه، الضحك، تكوين الصداقات؟”
“لا”
أطرقت رأسي بحزم.
“إن كنت ستعيش معي، فعليك أن تتعلّم ذلك. الإنسان لا يعيش وحده”
لم تظهر على وجهه رغبة، لكنني تابعت:
“لكي تكون جزءًا من العالم، عليك احترام قوانينه. وأبسطها احترام الآخرين.
بذلك، تُحترم.
لا تنسَ…
حين تقتل، قد يُقتل من تحب”
كانت أقصى ما أستطيع تقديمه له من نصح.
لكن الكلمات لا تكفي.
عليه أن يرى، أن يخوض التجربة.
“سنلتقي بالكثير من الناس معًا، في الأيام المقبلة”
ربما يجد بينهم من يستحق الثقة، حتى في يوديس.
“وإن شعرت أن القتل هو الخيار، تعال إليّ أولًا”
“حسنًا”
أومأ برأسه باستسلام. وارتحت.
لا أعلم ما الذي قد يحدث إن عاد ليكون “يوري سينكلير”، الشرير الذي يروون عنه القصص، لكن…
سأفكر في ذلك لاحقًا.
“سآخذك إلى النور”
لا أعلم متى… ولا كيف.
لكن ما أعلمه أن الغد لا يزال بعيدًا.
ما كنت لأتخيل أن نهاية زقاق، قد تخبئ قدري…
أن ألتقط شريرًا…
وأحاول إصلاحه.
احتضنته بين ذراعيّ.
دفء جسده، رائحة صابونه، كل ذلك جعل جفوني تُثقل وتغفو.
لكن فجأة…
شعرت بحرارة مريبة تتصاعد من صدري.
اتسعت عيناي، وارتجفت بقشعريرة.
“هاه؟”
ما هذا الشعور؟ لم أعهده من قبل.
مدّ إديل يده إلى جبيني، وهمس:
“حرارتك مرتفعة… أصابتك الحمى”
تضببت رؤيتي، ثم انسحبت إلى غيبوبة كأن النور قد انقطع عن روحي.
—
استيقظت على عبير الأزهار، ونسيم يراقص وجنتيّ.
هل أنا…
أحلم؟
تلفّتُ حولي، مذهولة. كانت الحقول مغمورة بضباب قمري، بلا قمر ولا نجوم.
بدأت بالسير، ألاحق ضوءًا خافتًا يتوهج في البعيد.
كرة مضيئة صغيرة، تطوف أمامي، تتحرك كأنها نجم يرشدني.
“مرحبًا”
تمايلت الكرة، وكأنها تردّ التحية.
وحولي، تراقصت أضواء صغيرة، كأنها عناصر أثيرية من كتب الأساطير.
انقشع الضباب تدريجيًا، لتظهر لي تلة مرتفعة، وعند الأفق…
كانت قلعة الأرواح، شامخة كما عهدتها.
مشاعر مختلطة اجتاحتني، رغم علمي أنني في حلم.
وفجأة، أضاءت السماء بزخات من الشهب الملونة.
“يا للجمال…”
حدّقت، مذهولة، ساكنة.
«إنها فتاة طيبة»
اقترب النجم المرشد.
«هل يمكنكِ أن تعتزّي بكل ما لديكِ…
وما فقدتِ؟»
أومأت.
«أنتِ لستِ وحدكِ»
داعبتني نسمة حانية.
كان النهر يتدفق بجانبي، والسماء تمطر نورًا.
تجمعت الأضواء، ثم اتّحدت لترسم رموزًا سحرية، كالرونيات.
جلست أرضًا، أسندت رأسي إلى ركبتي، وراقبت بصمت.
“إنه حلمٌ جميل…”
دافئ، ومطمئن.
ثم…
بنينغ!
توقفت الأضواء، ورسمت في السماء شكلين بديعين.
『الضوء والظل』
توهّجت السماء، وهبط مذنبان عظيمان.
كأن الشمس والقمر قررا الهبوط.
“هاه؟”
فلاش!
وغمرني نور ناصع… ساحق.
التعليقات لهذا الفصل " 16"