المقدمة :
“لدي ما أقوله!”
اندفعتُ لفتح الباب فجأة، رغم أنني كنت أعلم أن ذلك تصرف غير لائق، فقد كانت قلبي يسبقني.
لكنني توقفت حينما وقعت عيناي على المشهد أمامي.
ثلاثة أزواج من العيون كانت تحدق بي.
“مرحبًا، لوتشي، هاريسون، ديميان.”
حييتهم بشكل تلقائي أولًا.
“أهلًا بكِ، إسبين.”
رحّب بي لوتشيانو ببرود معتاد.
“لم أتوقع أن ألتقي بكِ هكذا، يبدو أن حظي جيد اليوم.”
ابتسم ديميان بلطف وهو يمازحني.
“لقد أتيتِ.”
قالها هاريسون وهو ينحني بتحية رسمية.
حتى في تحياتهم، أظهر كل واحد منهم شخصيته بوضوح.
“كيف اجتمعتم أنتم الثلاثة معًا؟”
كان من الطبيعي وجود صاحب المكان لوتشيانو.
وكذلك وجود فارسه الحارس هاريسون.
لم يكن الأمر غريبًا بوجود الاثنين،
لكن ذلك الشخص الثالث…
وجود ديميان هنا كان بالفعل أمرًا مثيرًا للاستغراب.
“هل هناك ما يمنعنا من الاجتماع أنتم الثلاثة معًا؟”
صوت لوتشيانو كان رقيقًا، لكن تحته برودة خفية.
هل حدث له شيء أزعجه؟
لم أتمالك نفسي من التحديق فيه للحظة.
كان لوتشيانو، الملقب بـ شمس الإمبراطورية، يليق به تمامًا هذا اللقب.
شعره الذهبي المتلألئ ينساب بشكل جميل،
ووجهه أشبه بمنحوتة فنية.
لا عجب أن يكون هو البطل، ملامحه غير واقعية فعلًا.
رغم أن ملامحه كانت جامدة، إلا أن شيئًا ما فيها بدا وكأنه حادّ،
فأدرت رأسي نافيًا بهدوء.
في الحقيقة، لم يكن هناك سبب يمنع اجتماعهم معًا.
لكن فقط…
“ولماذا تسألين هكذا؟”
“ولماذا برأيك؟ أنتم الثلاثة لا تربطكم علاقة جيدة.”
“…….”
“ليس الأمر كما تقولين بالضبط.”
أجاب هاريسون ببرود.
أما لوتشيانو فقد آثر الصمت بعد أسلوبي المباشر
أما ديميان فقد أنكر بابتسامة،
بينما بدا هاريسون متوترًا لا يعرف أين يضع نفسه.
“ديميان.”
“نعم، إسبين.”
حين التقت عيناي بعينيه، ابتسم كالعادة تلك الابتسامة الرقيقة.
ابتسامة جميلة لدرجة أنها تسلب النظر لوهلة.
إن كان لوتشيانو يتمتع بوسامة قوية وفاخرة،
فإن ديميان يملك جمالًا هادئًا رقيقًا، يحمل سحرًا غريبًا مبهمًا.
كنت دائمًا أفكر أن مثل ذلك الوجه مع مثل هذه الملامح الرقيقة،
لا يليق به أن يرسم ابتسامة عطوفة إلى هذا الحد… إنه غش صريح.
لا عجب أن يكون هو “الخلفية السوداء” في القصة.
في الحقيقة، هو يضمر أفكارًا قاسية وباردة، لكنه يتصنع اللطف والطيبة بلا نهاية.
لكن، ماذا؟ هل يحاول التهرب بالابتسامة؟
“قلتُ لك إن الكذب سيئ.”
واجهتُه بنظرة جادة.
فتصلبت الابتسامة الجميلة المرسومة على شفتي ديميان للحظة،
ثم سرعان ما أعاد رسمها مرة أخرى.
“لكني لا أكذب.”
حقًا، هذا لأنه “الخلفية السوداء”…
هو معتاد على خداع الناس بلا توقف.
“ها أنت تكذب مجددًا.”
وضعتُ يديّ على خصري، ونظرت بنظرة صارمة نسبيًا.
اعترف. اعترف فقط.
“…آسف.”
استسلم ديميان أخيرًا تحت وطأة نظراتي الحادة واعتذر.
حينها فقط أرخيت نظراتي.
فالجميع يعلم أن ولي العهد لوتشيانو ووريث دوقية كوايد ديميان أعداء لدودون.
السماء تعلم، الأرض تعلم، وجميع من في القصر يعلم ذلك.
ومع ذلك، يحاول أن يخدعني بشأنه!
“كفّ عن الكذب فعلًا.”
“أنا حقًا لا أكذب…”
“ما الأمر؟”
قاطع لوتشيانو همهمة ديميان الصغيرة.
كان من الواضح أن مزاجه لم يكن بخير.
“هل أنتِ مشغولة؟”
“ولمن هذا السؤال موجه بالضبط؟”
رددتُ بسؤال على سؤاله.
لكن ديميان هو من بادر بالإجابة:
“لمن غيري؟ من الطبيعي أن تكون قد جاءت من أجلي.”
غير أن صوت لوتشيانو البارد قطع كلام ديميان بلا رحمة:
“تظن نفسك محور الكون.”
حين التقت عيناي بعينيه مرة أخرى، كان بصره أكثر برودةً من ذي قبل،
وكأنه يقول لي بوضوح:
“أليس صحيحًا أنك جئتِ من أجلي؟”
أجبت أنا :
“أوه… صحيح أنني جئت لأجلك، لكن…”
“هنا يوجد ثلاثة أشخاص. من الممكن أن إسبين جاءت لتقابل شخصًا آخر غيرك. لا يوجد ضمان أنها قصدت ولي العهد بالتحديد، أليس كذلك؟”
قال ديميان كلامه بسرعة حتى لم يترك لي فرصة للرد.
ثم حين التقت عيناي بعينيه، وجدت نفسي أشعر بالارتباك أمام تلك النظرات الثابتة.
“ولماذا لا يكون هناك ضمان؟ لقد جاءت إلى جناحي في القصر، إذن جئت لأجلي.”
اعترض لوتشيانو بنبرة واثقة.
“ليس بالضرورة. ربما أرادت لقاء اللورد أوليندو، أو ربما سمعت أنني هنا وجاءت من أجلي.”
“إسبين، أليس لديك عمل عندي أنا؟”
صوته كان أكثر برودًا هذه المرة.
“ألا ترى أن كلامك هذا إكراه؟”
تدخل ديميان بلطف مصطنع: “إسبين، قولي ما تشائين بحرية، لا حاجة لأن تشعري بالضغط.”
ما الأمر مع هذين الاثنين…؟
صحيح أنهما يربكانني دائمًا بتصرفاتهما، لكن اليوم بديا أكثر ثِقلاً وإرباكًا من المعتاد.
لذا أدرت وجهي نحو هاريسون الهادئ،
وأرسلت إليه نظرات ترجوه أن ينقذني من هذا الموقف المزعج.
كان هاريسون رجلًا صلبًا، فارسًا تتجسد فيه الجدية والهدوء،
وقد كان دعمه الدائم مصدر قوة كبيرة لي .
“إن واصلتما هكذا، ستجعلان إسبين غير مرتاحة.”
…هاه؟
صحيح أن هاريسون بدا وكأنه يدافع عني بكلماته،
لكن نظراته لم تكن تختلف عن نظرات الاثنين الآخرين.
وكعادة “الذكر المساند” في الروايات، كان هاريسون بدوره وسيما جدًا،
لدرجة أنه حين يحدق مباشرة بي أشعر بحرارة تتسلل إلى وجهي بلا وعي.
ما هذا؟! لمَ أنت أيضًا تتصرف هكذا؟
بهذا الشكل سيبدو وكأنكم جميعًا… تريدون لفت انتباهي!
سرعان ما كبحت قلبي الذي كاد يخفق بخفة.
فهذا الغموض من جانبهم ليس جديدًا عليّ،
لكن بما أنهم الثلاثة معًا في وقت واحد، فقد ارتبكت للحظة.
إلا أنني سرعان ما أدركت أن الموقف ليس صعبًا جدًا كما بدا في البداية.
“جيد… في الحقيقة لدي ما أقوله لكم جميعًا.”
بمجرد أن نطقتُ بذلك، ارتجف الثلاثة في الوقت نفسه.
ثم تبادلوا النظرات فيما بينهم قبل أن يثبتوا أنظارهم عليّ،
بعضهم بوجه متجمد، وبعضهم بملامح متوهجة.
“ما هو ما تريدين قوله؟”
سأل لوتشيانو وعيناه الحمراوان تلمعان بغرابة.
خده كان محمرًا قليلًا، ونبرة صوته المتوترة فضحت انفعاله.
“سنصغي جيدًا. تفضلي وقولي ما تشائين.”
قالها هاريسون بنبرة رسمية جادة.
كانت عينا ديميان الزرقاوان هادئتين،
ابتسم ابتسامة رقيقة، لكن طرف شفتيه كان متصلبًا قليلًا…
بدا أنه متوتر على الرغم من هدوئه الظاهر.
“مهما كان ما تريدين قوله، سأستمع.”
قالها هو أيضًا، مثبتًا عينيه الخضراوين عليّ بتركيز كامل،
وكأنني الشخص الوحيد الموجود في المكان.
تحت وطأة نظراتهم الثلاثة، شعرت أن من الصعب أن أبقي عيني ثابتتين.
لكنني تماسكت.
لا يجب أن أتأثر…
عليّ أن أعيش بواقعية.
عليّ أن أستعيد حياتي قبل أن يفوت الأوان.
“سأنزل إلى مقاطعتنا!”
صرختُ بحزم.
فجأة، حلّ الصمت.
كان واضحًا أنهم جميعًا لم يتوقعوا هذه الكلمات مني.
بدت الصدمة على وجوههم الثلاثة.
“ماذا؟”
صرخ لوتشيانو غير مصدّق.
“لماذا فجأة؟”
سأل ديميان بلهجة حائرة.
“هل حدث شيء ما؟”
انضم هاريسون بدوره بقلق واضح.
أمام ردود أفعالهم المندهشة، تابعتُ شرحي بهدوء.
“حان الوقت… يجب أن أستعد لتسلّم إقطاعيتنا.
سأعود وأبحث لي عن زوج مناسب.”
شرحت لهم السبب بهدوء.
لكن في تلك اللحظة، تجمدت ملامحهم جميعًا دفعة واحدة.
“…ماذا؟ تبحثين عن زوج؟”
العيون التي كانت تلمع في وجه لوتشيانو قبل لحظة، تحولت فجأة إلى برودة قاتلة.
نظرته كانت حادة كالسيف، حتى شعرت أنها قد تخترقني وتقتلني.
“لم أتوقع هذا أبدًا.”
ارتسمت ابتسامة عصبية على طرف شفتي ديميان، ارتعاش طفيف يفضح توتره.
“هذا… هذا الكلام…”
تمتم هاريسون، لكنه لم يستطع إتمام الجملة،
واضح أن الحيرة أخرسته.
ردود أفعال الثلاثة كانت غريبة، حادة بشكل مبالغ فيه،
وكأنهم جميعًا غير راضين تمامًا عن قراري.
بصراحة… من يراهم الآن، يظن أن الثلاثة يكنّون لي مشاعر خفية.
لكن… الأمر ليس كذلك.
حتى وقت قريب فقط، كنت أنا المخدوعة.
ظننت أنهم يحبونني فعلًا.
لم أسمع منهم اعترافًا مباشرًا بكلمة “أحبك”،
لكني كنت أؤمن أن ذلك أمر مفروغ منه.
فقد كان سلوكهم دائمًا هكذا.
مع مرور هذه الأجواء الغامضة بيننا الأربعة.
بدأتُ أشعر وكأنني المخطئة هنا، وأن الأمر يحتاج إلى حسم واضح.
لذلك قررت أن أسأل بصراحة.
“لوتشي… هل تحبني؟”
“لماذا توهمتِ ذلك أصلًا؟”
رد لوتشيانو بدهشة، وكأنه لا يصدق ما سمعه.
…آه. إذن يبدو أنني كنت أتوهم وحدي.
“هاريسون، هل تحبني؟”
“لا يجوز إطلاقًا أن تتفوهِ بمثل هذا الكلام.”
قال هاريسون بجدية صارمة.
…همم. يبدو أنني كنت مخطئة هنا أيضًا.
“ديميان، هل تحبني؟”
“هل تودّين أن أحبك؟ أتحبين أن أفعل ذلك من أجلك؟”
أجاب ديميان بابتسامة ساخرة، يرفع زاوية شفتيه في استهزاء.
لم أكن أتوقع أن أتعرض حتى للسخرية.
ثلاثة ردود بالرفض على التوالي…
لقد كان الأمر صادمًا بحق.
كنت أظن أنهم جميعًا يكنّون لي مشاعر خاصة.
لكن… في النهاية، اتضح أنه مجرد وهم من طرفي أنا فقط.
حين أدركت الحقيقة، اجتاحتني فراغات مريرة.
كيف تاهت نفسي طويلًا في بحر من الأوهام وحدي؟
كنتُ أعيش في وهم أنني محبوبة جدًا،
أحتسي أوهام الشعبية كأسًا تلو الآخر كمن يشرب حساءً ساخنًا بلهفة!
الآن، حين أسترجع ذلك الماضي، أشعر بخزي شديد…
خزي يجعلني أرغب في أن تنشق الأرض وتبتلعني.
لكن… لم أكن أنا وحدي المذنبة.
هم أيضًا مذنبون.
فهم دائمًا ما كانوا يتصرفون وكأنهم يهتمون بي،
كيف كان من الممكن ألا أقع في سوء الفهم؟
وما إن استعدت تلك الذكريات، حتى اجتاحني من جديد ذلك الشعور القاسي.
حين حدّقتُ فيه بحدة،
فتح لوتشيانو عينيه بنظرة حادة وكأن لسان حاله يقول:
“أيعقل أن تفعلي هذا بي؟!”
“إسبين، اشرحي جيدًا. هل قلتِ إنك تبحثين عن زوج؟”
صوته بدا وكأنه يضيف: “وأنا موجود، ومع ذلك تفكرين بغيري؟”
فهو لطالما كان هكذا…
في كل مرة أقترب فيها من رجل آخر، كان يُبدي نفس رد الفعل.
“إسبين، لماذا تحتاجين إلى زوج… وأنا هنا؟”
كان ديميان بدوره دائمًا ما يتحدث بمهارة،
ليوهمني أن مكانه محفوظ بجانبي.
“إسبين… هل لا بد أن ترحلي؟”
أما هاريسون، فكلماته دائمًا ما كانت تبدو كرجاء صادق…
وكأنه يتوسل إليّ ألا أتركه ورائي.
بدا هاريسون هادئًا، لكنه كان يمسك بي دائمًا عندما أحاول أن أضع مسافة بيننا.
أليس طبيعيًا أن أُسيء الفهم بسبب تصرفاتهم هذه؟
تذكرت مجددًا حين تم رفضي، فاشتعل رأسي غضبًا.
“أنا الابنة الوحيدة، أليس كذلك؟ لكي أرث العائلة يجب أن أُدخل زوجًا إلى البيت. لهذا سأذهب، فلتأكلوا جيدًا وتعيشوا بخير. جئت فقط لأودعكم.”
“توقفي! إسبين صامويل!”
حتى لوتشيانو الذي صرخ بي بلهفة.
“إسبين، المزاح قد تجاوز حده.”
حتى دميان الذي حاول أن يضحكها.
“لا تذهبي.”
حتى كلمات هاريسون المتوسلة لم تصل إلى قلبي.
(هه، تظنون أنني سأُخدع مرة أخرى؟)
لن أسيء الفهم بسبب أفعالهم بعد الآن.
“أنا مشغولة. وداعًا!”
ولوحت ببرود لثلاثتهم الذين كانوا ينفجرون بالمشاعر.
كنت أظن أنني البطلة.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 0"