الفصل 6
“مرحبًا! صاحب السمو الأمير لوتشيانو!”
كنت في قمة الثقة، حتى إن صوتي بدا أكثر حيوية من أي وقت مضى.
ابتسمت تلقائيًا من شدة حماسي.
لكن يبدو أن حيويتي الزائدة لم تعجبه،
إذ نظر إليّ الأمير لوتشيانو بنظرة أكثر برودًا من المعتاد.
“هل هناك أمر ما؟”
“لقد جئت ومعي هدية!”
أجبت بابتسامة مشرقة، لكنه لم يُبدِ أي رد فعل.
ملامحه بقيت جامدة، خالية تمامًا من أي أثرٍ للتوقّع أو الاهتمام.
كنت أعلم أنني لو انتظرت تفاعله فسأُرهق نفسي،
لذا سارعت وقدّمت له السلة التي أحضرتها.
“ها، تفضل.”
الأمير لوتشيانو بقي مكتوف الذراعين، يحدّق بي بصمت،
ولم يبدُ أنه ينوي حتى أن يمد يده لاستلامها.
لكن… لم يكن ذلك مهمًا بالنسبة لي.
لكن سرعان ما ستتحول تلك الملامح الخالية من التعبير إلى ملامح مبهورة!
“تـادا!”
أزحت القماش الذي كان يغطي السلة،
فانكشف بداخلها صفٌّ من الكعك البرتقالي المنتفخ والناعم — مفن البرتقال والجبن!
الأمير لوتشيانو نظر إليها بوجهٍ جامد،
ثم رفع عينيه نحوي وهو يعبس قليلاً بين حاجبيه،
وكأنه يقول: “ما هذا؟”
لكنني لم أفقد ابتسامتي، بل اتسعت أكثر.
صحيح أنه ينظر إليها الآن ببرود،
لكنني كنت واثقة تمامًا أن هذا “الإهداء البسيط” سيلمس قلبه عاجلًا أم آجلًا.
في الرواية الأصلية، لم يكن لوتشيانو من النوع الذي يحب شيئًا بعينه.
كان دائم التوتر، يرى كل شيء من منظورٍ سلبي،
رجل يرفض اللذة والراحة كأنهما ضعف.
لكن الشيء الوحيد الذي عبّر عن إعجابه به —
هو هذا الـ مفن بالجبن.
“لوتشيانو، جرب هذا.”
قالت بريانا وهي تقدم له قطعة مفن.
“لا بأس، لست جائعًا.”
أجاب بسرعة، رافضًا من غير تردد.
فهو لم يكن يحب الأشياء الحلوة،
وكان يظن أن مثل هذه التفاصيل الصغيرة تجعله ضعيفًا…」
منذ صغره وهو يعيش تحت تهديدٍ دائم بالاغتيال،
ولكي ينجو، لم يكن مسموحًا له بأن يُظهر ولو لحظة ضعفٍ واحدة.
كان عليه أن يبدو دائمًا باردًا، صارمًا، خاليًا من أي ثغرة.
لذلك، كان يتجنب أي شيء قد يُضعف توتره أو يُرخيه،
فعاش حياةً مليئة بالانضباط، حتى في طعامه كان حذرًا للغاية.
خصوصًا الحلويات والمشروبات السكرية…
فالحلاوة، بالنسبة له، أفضل مكان يختبئ فيه السم.
وأحد الدروس التي تعلمها وهو طفلٌ صغير كانت:
> “احذر ممن يمدّ لك يدًا تحمل شيئًا حلوًا.”
كان أولئك الناس دائمًا يستخفون به،
ويظنون أن بإمكانهم ترويض “الأمير الصغير” ببضع قطع من الحلوى.
لهذا السبب، كان يبتعد عن كل من يقدم له شيئًا حلوًا.
ولو أن الشخص الذي قدم له المافن الآن كان غيرها،
لكان قال ببرود: “جئتِ بشيء لا فائدة منه.”
لكن هذه المرة، حين قالت له:
> “لا تقل هكذا، لقد صنعتُ هذه المافن بالجبن بنفسي، خصيصًا من أجلك.”
لم يستطع أن ينطق بتلك الكلمات القاسية.
غريبٌ…
كلما وقف أمام بريانا، سكنت حواسه التي اعتادت التوتر،
وهدأت مشاعره التي طالما كانت مشدودة.
ظل يحدق في المافن بصمت،
بينما كانت بريانا تُلوّح بها بخفةٍ أمامه،
في حركاتٍ لطيفةٍ تشبه نسمةً تُداعب قلبًا لم يعرف الدفء منذ زمن.
“لقد أعددته دون أن يكون حلوًا جدًا، لذا يمكنك تناوله أيضًا. ألا يعجبك؟”
لم يستطع لوتشيانو رفض عرض بريانا المتكرر.
وليس لأنّها أمالت رأسها بلُطفٍ وبطريقةٍ لطيفة جعلت قلبه يلين — لا، لم يكن هذا السبب أبدًا.
تسلّم لوتشيانو كعكة الجبن الصغيرة منها.
كانت لا تزال دافئة، كما لو أنها خرجت من الفرن قبل وقتٍ قصير.
دافئة وطرية… تمامًا مثل بريانا نفسها.
كانت مجرد قطعة حلوى لا تُشكّل أي تهديد، ومع ذلك، تردّد في رفعها إلى فمه.
لسببٍ ما، شعر بالعجز عن الحركة، وكأنّ ما ينتظره تجربة مجهولة تُثير الخوف داخله.
“هل ستظلّ تكتفي بالمشاهدة فقط؟ هيا، تذوّقها!”
حين ظلّ ممسكًا بها دون أن يجرؤ على تناولها، عاجلته بريانا بصوتٍ متحمّس.
لم يعد قادرًا على تجاهل نظراتها المليئة بالتوق والانتظار،
فتناول قطعة صغيرة من المافن ببطءٍ شديد.
في اللحظة التي تذوّق فيها الكعكة، امتزجت نكهة الجبن الغنية المالحة قليلًا مع حلاوةٍ خفيفة.
امتلأ فمه بحرارةٍ لطيفة وملمسٍ طري يذوب ببطء، تاركًا أثرًا ناعمًا يختفي تدريجيًا.
وما إن ابتلعها حتى سمع صوت بريانا المفعم بالحماس يرتفع على الفور:
“كيف هي؟”
كانت الكعكة التي تناولها بعد وقتٍ طويل تحمل طعمًا لاذعًا على طرف لسانه —
ليس طعم السم، بل إحساسًا مختلفًا… لذيذًا، غريبًا، يصعب وصفه.
طعمٌ لم يختبره من قبل.
ولم يستطع تجاهل عيني بريانا المتلألئتين بالتوق لمعرفة رأيه،
فأجاب أخيرًا بصوتٍ هادئ:
“إنها لذيذة.”
“كنت أعلم أنك ستقول ذلك!”
وفي تلك اللحظة، أزهرت على وجهها ابتسامة مشرقة صافية.
كان في ملامحها سعادة خالصة —
سعادة بدت حلوة إلى درجةٍ أذابت صدره دفئًا وارتباكًا.
نعم، ذلك كان الطعم الحقيقي للحلاوة.
حلاوةٌ دافئة، مريحة، وسعيدة…
طعمٌ لم يرغب أبدًا في فقدانه مرةً أخرى.
كنت أتذكّر هذا المقطع بوضوحٍ تام.
ومن بعد ذلك، أصبح المافن بالجبن هو الحلوى الوحيدة التي يتناولها الأمير لوتشيانو.
صحيح أنّ من أعدّها لم تكن البطلة،
وربما لم يكن الطعم ذاته،
لكنها كانت من صنع أحد أفضل الخبازين في العاصمة.
فهو طعمٌ لا يُراد فقدانه أبدًا —
ولا بدّ أنّ الأمير لوتشيانو سيُعجَب به أيضًا.
“إنها كعكة جبن صغيرة… أحضرتها لأتشاركها معك.”
قالت:
“تفضلوا.”
نظر الأمير لوتشيانو إلى المافن ثم إلى وجهي،
كانت نظرته هادئة على نحوٍ غير متناسب مع عمره،
لكن في عمق تلك الهدوء، لمحْتُ شيئًا يشبه الاستياء الخفيف.
(هل… هل غضب لأنني جلبت حلوى وهو لا يأكل الحلويات؟)
بادرت بسرعة لألتقط واحدة من الكعكات وقدّمتها نحوه قائلة بابتسامةٍ متحمسة:
“تفضل، جرب واحدة فقط. ستعجبك بالتأكيد.”
كنت قد خبزت المافن بالجبن قبل المجيء مباشرة،
حتى تبقى دافئة مثلما ورد في الأصل تمامًا.
وها هو عبير الجبن المحمّص ينتشر في غرفة الاستقبال،
نغمة مالحة وعطرة تملأ المكان وتغري حتى أكثر الناس برودًا.
لم أستطع سوى التفكير: لا بد أنه سيحبها، كما في القصة تمامًا.
كل ما عليه هو أن يأخذ قضمة واحدة فقط…
وحينها، ستنقلب الأجواء كليًا!
رغم برودة نظرته التي تخترقني،
واصلت الابتسام بوعيٍ شديد وأنا أمدّ له المافن قائلة:
“ليست حلوة جدًا، جلالتكم يمكنكم تناولها براحة.”
واستعرت جملة البطلة من الرواية الأصلية،
ألوّح بيدي برفق، محاوِلةً إقناعه أن يتذوقها،
بينما أبتسم بملامح تبدي الثقة والتفاؤل —
كأن مصيري كله متوقف على تلك اللقمة.
(لم أستطع تقليد المشهد الأصلي تمامًا، لكن بما أن الموقف مشابه، فالأمير لوتشيانو سيتظاهر بعدم الممانعة ويأكل… أليس كذلك؟)
لكن، وكأن أفكاري سُحقت تحت قدميه،
بدأ تعبير وجه الأمير يزداد برودة شيئًا فشيئًا.
تجمّدت ابتسامتي في مكانها،
فالبرود الذي كان في عينيه بدأ يتحول إلى نظرة احتقار صريحة.
في تلك اللحظة أدركت فورًا أن شيئًا ما سار على نحو خاطئ تمامًا.
“أوه، إذا لم ترغب… يمكنك ألا تأكلها.”
قلت بسرعة وأنا أحاول أن أبدو طبيعية،
فحتى الجرأة تحتاج إلى بعض الذكاء في توقيتها.
غير أن الوقت كان قد فات.
صوته خرج منخفضًا وباردًا حتى كاد يجرح الهواء بيننا:
“على أي أساس ظننتِ أنني سأقبل طعامًا منكِ؟”
كان في كلماته عداءٌ واضح،
أشد قسوة من أي مرة واجهني فيها من قبل.
صحيح أنه لطالما عاملني بجفاء عندما أقتحم عليه الزيارة،
لكن لم يكن بهذا القدر من الحدة والاشمئزاز.
(لماذا اليوم تحديدًا؟ لماذا ينظر إليّ وكأني خطر؟)
تحت ذلك البريق الحاد في عينيه شعرت بالاختناق،
واضطررت لأن أنبس بشيء، أي شيء:
“أ-أعني… فقط فكرت أنه سيكون لطيفًا أن نتشاركها معًا…”
ارتجف صوتي، واهتزت يداي مع الكلمات.
كانت نظرته الحادة كالسيف،
حتى أنني لم أجرؤ على رفع رأسي لمقابلتها.
لا أستطيع فعل هذا.
“من الذي سمح لكِ بإحضار مثل هذا الشيء؟”
تجمدت مكاني، لا أفهم لماذا كان الأمير لوتشيانو منزعجًا إلى هذا الحد.
“إنه فقط… مجرد هدية.”
لكن صوته انخفض فجأة، حادًّا كالسكين:
“وكيف لي أن أعرف أن هذا لا يحتوي على سُم؟”
تسمرت عيناي، وارتجف قلبي في صدري.
“سُم…؟”
هل اتهمني حقًا الآن بوضع السم في الكعك؟
بالطبع، لم تتح لنا الفرصة لبناء أي نوع من الثقة بعد.
لكن… ألم أكن أظهر له دائمًا وجهي المشرق، وأزوره بابتسامة كل مرة؟
كيف يمكنه أن يفسر كل ذلك اللطف بهذه الطريقة؟
“لا يوجد فيه سم!”
صرخت غاضبة، يغلب على صوتي الظلم والدهشة.
غير أن تعبيره لم يتغير أدنى تغيير.
بل على العكس، ازداد بروده حدة حتى شعرت بالهواء يتجمد بيننا.
قال بلهجة باردة قاطعة:
“أنا لا آكل طعامًا يقدمه لي الغرباء.
كل من قدّم لي طعامًا يومًا… كان ممن لا يُوثق بهم.”
كانت كلماته كصفعة أيقظتني على قسوة حقيقية.
وفجأة، فهمت لماذا كان، طوال عامٍ كامل من زياراتي له،
ينظر إليّ بتلك المسافة الحذرة في عينيه…
لأنها كانت نهاية القصة فقط.
خصوصًا في روايات “الرومانسية الخيالية” — دائمًا ما تسير الأحداث فيها بسهولة مبالغٍ فيها، بلا منطق أو واقعية.
لكنني نسيت أن هذا لم يكن رواية… بل واقع الأمير لوتشيانو الحقيقي.
كنت أتعامل مع عالمه بخفة، وكأنه مجرد نص أعرف نهايته.
“لا تأتي إلى هنا مجددًا.”
نهض من مكانه ببرود، وكأنه يضجر حتى من الوقوف في نفس الغرفة معي.
ارتجف قلبي وسقط في صدري.
لا، لا يمكن أن ينتهي الأمر هكذا.
إن خرج من هنا الآن، فلن أحصل على أي فرصة ثانية.
لم أعد أفكر في التقرب منه بدافع مصلحتي أو الخطة التي رسمتها لنفسي.
كل ما شعرت به تلك اللحظة كان الندم.
الندم لأنني جرحته من دون قصد، ولأنني حولت مشاعري الصادقة إلى سوء فهم.
“سأُثبت لك!”
صرخت من دون أن أفكر، بصوتٍ أعلى مما توقعت.
توقف الأمير عند الباب، وأدار رأسه نحوي ببطء.
“ماذا قلتِ؟”
رفعت سلة المافن أمام صدري بإصرار.
“سآكلها كلها بنفسي! إن لم يحدث لي شيء، فستعرف أن لا سُم فيها.
حينها… أرجوك، صدّقني.”
حدّق بي لوتشيانو طويلاً، بعينين باردتين، كأنه لا يرى فيَّ سوى تهورٍ سخيف لا يستحق الرد.
وأنا كنت أعلم أيضًا — أن ما قلته لم يكن تصرفًا حكيمًا أبدًا.
لكن لم يكن في ذهني أي طريقةٍ أخرى غير هذه.
في تلك اللحظة، هذا فقط ما استطعت التفكير به.
تناولت قطعة المافن على عجل، ودفعتها إلى فمي دون تردد.
كانت من المفترض أن تكون لذيذة — صنعتها أشهر مخبزة في العاصمة —
لكنها بدت جافة، تخنقني مع كل قضمة.
ومع ذلك، لم أتوقف.
شعرت أن هذه هي فرصتي الأخيرة، إن تركتها الآن فلن أحصل على أخرى.
ظل لوت
شيانو يراقبني بصمت بينما ألتهم القطعة الأولى كاملة.
وبمجرد أن أمسكت بالثانية، فتح فمه أخيرًا وسأل ببرود:
“ما الذي تفعلينه بالضبط؟”
كانت نظرته المائلة كافية لأفهم أنه يرى تصرفي سخيفًا لا يُطاق.
ابتلعت بصعوبة المافن الذي التصق بحلقي، ثم أجبت بصوتٍ متقطع:
“أُثبت… لك.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"