الفصل 3
بعد عودتي من حفلة الشاي، أطلق والدي تنهيدة بوجهٍ بدا وكأنه قد شاخ عشر سنوات.
“إسبين، ما الذي جعلكِ تقومين بتصرف متهوّر كهذا؟”
اللقاء المتأخر وجهاً لوجه مع والدي، بنجامين صاموئيل، أظهر أنه لم يكن يملك هيئة قوية كالفارس.
بما أنني تجسّدت داخل رواية رومانسية-فانتازيا، كنت أظن أنني سأحصل على أب “سيّد السيف”، لكن والد إسبين كان رجلاً عادياً.
الميزة الوحيدة كانت أنه وسيم قليلاً.
ربما أشبه بشاب أنيق لا يعرف سوى الدراسة.
لدرجة أنه لا يُصدّق أنه والد لابنة في الثامنة من العمر.
“ابنتي، لقد أدهشني تصرفك اليوم.”
كانت والدة إسبين، ليلي صاموئيل، شابة وجميلة إلى درجة يصعب تصديق أنها أم لطفلة.
عيناها البنيتان الغامقتان الممزوجتان بلمحة حمراء خفيفة، وشعرها الأزرق السماوي، أظهرا طبيعتها الرقيقة واللطيفة.
وكانت إسبين قد ورثت جمال والدتها بالكامل.
بمعنى آخر، هذا يعني أنني سأصبح جميلة في المستقبل أيضاً.
رغم أنني اعترفت بكوني قد تجسّدت هنا، إلا أن وجود والدين مفاجئين جعل الأمر غريباً عليّ.
“لا أعرف كيف يجب أن أتفاعل.”
في العادة، في روايات الرومانس فانتازيا، من النادر أن يكون والدا البطلة على قيد الحياة.
وإن كانا موجودين، فغالباً ما يكونان والدين عديمي المسؤولية أو قاسيين، مما يخلق بيئة صعبة.
لكن والدي إسبين كانا طبيعيين جداً.
علاقتهما ممتازة، وهما على استعداد لفعل أي شيء من أجل ابنتهما المحبوبة.
للحظة قصيرة، ساورتني الشكوك: هل يُعقل أنني لست البطلة؟
لكنني قررت أن أؤمن بقوانين عالم الرومانس فانتازيا.
إن لم أكن أنا، المتجسّدة، البطلة… فمن تكون غيري؟
“لابد أنه مجرد بداية موفّقة في بيئة جيدة.”
“إسبين، هل أنتِ حقاً أصبحتِ صديقةً للأمير لوتشيانو…؟”
“هل ترغبين حقاً في أن تصبحي كذلك؟”
سألني أبي بوجه شاحب.
“نعم. هذا ما أريده. أهو أمر خاطئ؟ هل ارتكبت خطأً ما؟”
لم أندم على وقوفي في وجه الإمبراطورة إيزابيل.
لكن بما أن ملامح والديّ كانت بهذا السوء، لم أستطع إلا أن أطرح السؤال.
أنا طفلة ويمكنني التذرع بجهلي، لكن الأمر يختلف معهما.
هما قد يتعرضان مباشرة لعواقب وخيمة من قِبل الإمبراطورة إيزابيل، وأدركت ذلك متأخرة فساورني القلق.
هل كنت متهورة جداً منذ لحظة تجسّدي؟
حتى وإن كان “حظ البطلة” سيجعل الأمور تنقلب لصالح النهاية، إلا أن المعاناة الفورية يصعب تجاهلها.
حين أظهرت انكساري، مدّ أبي يده ليلامس رأسي.
رفعت بصري إلى يده التي راحت تمسّد شعري برفق.
“كلا، لم ترتكبي أي خطأ. لكن… وضع الأمير لوتشيانو ليس جيداً يا صغيرتي.”
كنت على وشك أن أشعر بالارتياح لأنه لم يوبّخني دون سبب،
لكن الجملة الأخيرة جعلتني أشعر بخيبة أمل طفيفة.
“هل هذا يشكّل عائقاً أمام كوني صديقةً للأمير؟
هل معنى ذلك أنني لا يجب أن أقترب ممن يمرّ بظروف صعبة؟
أما لاحظتما أن الموقف آنذاك كان غريباً بالفعل؟”
خرج الكلام من فمي بنبرة احتجاجية دون أن أشعر،
ففتح أبي عينيه على اتساعهما كمن تلقّى ضربةً مباغتة.
لقد أدرك لتوّه أن اختياري لم يكن قرار طفلة بريئة لا تعلم شيئاً.
“أنا آسف يا صغيرتي. لقد أخطأت، لم أقصد ذلك.”
“وأمك أيضاً تعتذر، حبيبتي. نحن فقط خشينا أن تمرّي بأوقات صعبة.”
لم أكن أتوقع أن يعتذرا لي.
ولم يكن مألوفاً لدي أن يقلقا على سلامة إسبين أكثر من مصلحتهما الخاصة.
شعرت بشيء غريب في صدري.
“ما حدث قبل قليل كان قاسياً جداً ليُترك هكذا بلا اكتراث.”
“نحن نعلم.”
ظهر على وجهي والديّ تعبير يائس.
وكأنهما يندمان لأنهما، رغم علمهما، لم يفعلا شيئاً.
“أنا لا أستطيع أن أترك الأمير لوتشيانو وحده يتعرض لذلك.”
وهذا لم يكن لأنني البطلة،
بل لأن قلبي لم يحتمل أن أرى طفلاً يتعرض للتنمر أمام عينيّ.
ربما شعرا بعزيمتي الصلبة؟
تبادلا نظرات صامتة للحظة، ثم قال أبي بحزم:
“لقد كبرتِ حقاً يا إسبين. حسناً، ما دمتِ تريدينه فعلاً، فافعلي ما يحلو لك يا صغيرتي.”
“حبيبتي، أمك دائماً ستدعم اختيارك.”
لم توبخني أمي، بل شجعتني بكلمات دافئة.
لم أتوقع أن يمنحاني الإذن بهذه السهولة.
كانت ردة فعلهما مختلفة تماماً عن باقي النبلاء الذين رأيتهم هناك،
فبقيت أحدّق فيهما مذهولة.
وعندما لاحظا ارتباكي بعد أن نالا مني الإصرار ثم منَحاني القبول،
انفجرا ضاحكين.
“سوف أساعدك في كل ما تريدين. فهذا هو واجب الأب.”
“وأمك ستكون دائماً في صفك.”
كنت أذكر كيف شحب وجهاهما خوفاً أمام الإمبراطورة إيزابيل،
لكن، رغم القلق الكامن في أعماقهما من مواجهة أصحاب السلطة،
ظلا ثابتين في دعمهما لي.
ولذلك، طمأنتهما أنا بدوري:
“قد أتعرض لبعض الظلم الآن،
لكن لاحقاً سيصبح كل شيء بخير.”
لأنني البطلة!
اتسعت أعينهما بدهشة عند سماع كلماتي،
ثم أطلقا ضحكة أكبر،
ومدّا أذرعهما ليحتضناني بقوة.
“تلك أمور لا ينبغي لفتاة صغيرة مثلك أن تقلق بشأنها. إسبين، والدك يحبك.”
“حبيبتي، وأنا أيضاً. أمك تحبك كثيراً.”
وبين والديَّ، غمرتني مشاعر لم أستطع وصفها.
كان شعوري بالحب الأبوي للمرة الأولى داعماً جداً لدرجة أن أنفي وخدّي حرِقا بالحرارة.
ذلك الحب الخالص كان أكبر من أن أحتمله.
دفئه تجاوز مجرد الطمأنينة، حتى كاد يخنق صدري.
ثم اجتاحتني مشاعر الذنب.
كانا يظنان أنني إسبين ويحبانني هكذا،
لكن الحقيقة أنني لست هي.
أشعر بالأسى لأنني مضطرة لخداع هذين الإنسانين الطيبين.
لم يكن بوسعي سوى أن أعانقهما بشدّة،
وأكتم دموعي قدر المستطاع.
***
وبعد أن نلت دعماً راسخاً من والديّ،
ومرّت فترة مناسبة منذ حفل الشاي،
ذهبت لزيارة الأمير لوتشيانو.
“مرحباً، يا صاحب السمو الأمير لوتشيانو.”
ابتسمت بأقصى ما أستطيع وأنا أحييه.
“إنك تبدو رائعاً اليوم أيضاً.”
خرجت كلمات المديح بشكل طبيعي.
كما شعرت في اللقاء الأول، كان مظهره بالغ الجمال.
كان جميلاً لدرجة أن اللعب معه وكأنه دمية سيكون ممتعاً.
هكذا تكون هيبة البطل الذكري.
(لكن… بماذا سنلعب؟)
لقد فكرت فقط في أن أصبح صديقة الأمير لوتشيانو،
لكن لم أفكر أبداً فيما يجب أن أفعله بعد ذلك.
وأثناء شرودي القصير، كانت عيناه الحمراوان تحدقان بي بلا أي حركة.
وبعد صمت طويل، تحركت شفتا الأمير لوتشيانو:
“هل قلتُ إن أي شخص يمكنه أن يزورني؟”
كان صوته بارداً إلى أقصى الحدود.
…كنت قد نسيت أن الأمير لوتشيانو، قبل أن يلتقي البطلة،
كان يملك قدراً هائلاً من انعدام الثقة بالآخرين.
لو فكرت بالأمر، ففي رواية [جلالتك، لا تتمادى في التعلق!]
كانت علاقة البطلة والأمير لوتشيانو في البداية أقرب إلى العداء.
حتى البطلة نفسها كانت قد اقتربت منه أول الأمر فقط لتحقيق غاياتها.
أما الأمير لوتشيانو، فكلما كبر، ازدادت محاولات اغتياله بشكل علني،كان ذلك زمناً يشك فيه الأمير لوتشيانو في كل من يقترب منه.
وفي مثل هذا الوضع، لم يكن من الممكن أبداً أن تنشأ الثقة بينهما في أول لقاء.
لذلك، حتى اقتربا من بعضهما، دخلا في صراعات عنيفة للغاية.
لدرجة أنه لم يكن يشبه أبطال الروايات الرومانسية التقليدية أبداً؛
بل إنني، وأنا أقرأ، شككت: هل يمكن أن ينتهي بهما الأمر معاً حقاً؟ أليس البطل الذكري الحقيقي هو هاريسون؟
لكن كما جرت عادة الروايات الرومانسية، تسلل الاثنان إلى قلب بعضهما ببطء،
وبحلول نهاية القصة، تحولا إلى عاشقين مجنونين لدرجة بدت كأنها خيانة لشخصياتهما الأولى.
على أية حال، كنت قد نسيت تماماً مزاج الأمير لوتشيانو الحاد في بداياته.
لقد كنت ساذجة حين فكرت أن حتى البطل الذكري، ما دام طفلاً، فلا بد أن يكون نقياً وبسيطاً.
(نعم… لا يمكن أن تسير كل الأمور بسلاسة لمجرد أنني البطلة.)
يبدو أنني وثقت كثيراً في “بركة البطلة” وتهاونت.
أمام برود الأمير لوتشيانو غير المتوقع، ارتبكت للحظة.
لكنني تماسكت بسرعة.
فالقصة في بداياتها دائماً ما تكون شاقة.
وأنا البطلة، لذا يمكنني فعلها.
وفي النهاية، سيقع الأمير لوتشيانو في حبي.
وبينما كنت أستجمع عزيمتي، رسمت على وجهي ابتسامة مشرقة.
“لقد قلتَ بنفسك من قبل إننا سنتقارب ونتعامل كأصدقاء، أليس كذلك يا سمو الأمير لوتشيانو؟”
ذكَّرته بصوت صافٍ: في ذلك الوقت قلتَ إنك ستتقرّب مني وتكون صديقي.
ثم ابتسمت بوجهٍ نقي كأنني أقول: أنا لا أعرف شيئًا عن قذارة هذا العالم.
“…….”
لكنه لم يُجب.
بل ظل يحدّق بي بثبات.
شعرت بذلك من قبل أيضاً: الأمير لوتشيانو كان يملك عادة النظر إلى الناس مباشرةً،
وكأن نظراته الحمراء تمزق ستار قلبي لتتأكد: هل ابتسامتي هذه صادقة أم مجرد قناع؟
سحبتُ طرف شفتي إلى الأعلى أكثر، حتى شعرت أن وجنتي ستصابان بتشنج.
فاللطف والدفء هما أفضل علاج للبرود والجفاء!
لكن صوته البارد قطع محاولتي:
“لم أقصد أبداً أن يأتي أي شخص إليّ متى شاء.”
كان كلامه صلبًا كالصخر.
صحيح… لم يقل لي بالحرف إن بإمكاني زيارته متى شئت.
كلامه منطقي بطريقة ما، فذبلت مهارتي في الابتسام للحظة.
ومع ذلك، ألم نتفق أن نصبح أصدقاء؟
لم أطلب منه أن يفرح بزيارتي، لكن… هذا الرد بدا قاسياً جداً.
“إذا لم نلتقِ، فكيف سنصبح مقرَّبين؟”
اعترضت بحرارة، أُظهر احتجاجي بكل جدّية.
“مع ذلك، لا يحق لكي اقتحام المكان دون إذن. أنا مشغول، لذا عودي من حيث أتيتي.”
جدار الأمير لوتشيانو كان صلبًا كالفولاذ.
لم يقدّم لي حتى كوب شاي، بل استدار وغادرني بلا تردّد.
بقيتُ جالسة وحدي، عاجزة عن التصديق أنني تُركت هكذا.
أدركت عندها أن ابتسامة دافئة وحدها لا يمكنها أن تذيب شخصًا بفظاظته هذه.
ومع مرور التفكير، ازداد شعوري بالغبن.
لقد أرسلتُ إليه رسالة مسبقًا أخبرته فيها أنني سأزوره اليوم.
صحيح أنه لم يرد، لكنّه لم يكتب أيضًا كلمة رفض. فظننت أن ذلك يعني أن زيارتي مقبولة.
من كان يتوقّع أن ذلك مجرّد تجاهل!
شعرت بفراغ داخلي وغضب مكتوم يتصاعد في صدري.
ومع ذلك، لم يكن الخطأ كلّه عليه… لذا قررت أن أعود اليوم من دون جدال.
فلا يمكنني البقاء في قاعة الاستقبال المهجورة وأتصرّ
ف وكأنني ضيفة مرحَّب بها.
لا بأس… لا يجب أن أستعجل.
حتى في القصة الأصلية، اصطدم الأمير لوتشيانو والبطلة كثيرًا قبل أن تقترب قلوبهما.
إن واصلتُ المحاولة، فلا بدّ أن يأتي يوم نصبح فيه مقرّبين.
تعلّقتُ بذلك الأمل… وصدّقته.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 3"