الفصل 21
كنت أمسح العملات الذهبية اللامعة واحدة تلو الأخرى بقطعة قماش،ثم أضعها بعناية داخل الحقيبة اليدوية التي صنعتها لي المربية.
تلك الحقيبة الوردية الصغيرة،
مزينة بشريطة ووجه أرنبٍ لطيف —
اسمها “توسون”، حقيبة للأطفال بكل وضوح.
كانت تبدو طفولية جدًا بالنسبة لي،
لكنني أستخدمها بعناية احترامًا لنية المربية الطيبة.
“آنستي، ألن تودعيها في البنك على أي حال؟”
نظرت إليّ المربية بنظرةٍ تقول: لماذا تتعبين نفسك بمسحها إذًا؟
لكن الشعور مختلف تمامًا!
حين يلمع المال… يصبح المزاج رائعًا!
كم هو جميل ذلك البريق الذهبي المتلألئ!
ثم أضفت بخفة:
“على كل حال، اليوم لن أذهب إلى البنك.”
اتسعت عينا المربية بدهشة.
“ألا تخبرينني أنك تضعينها في الحقيبة لأنك ستأخذينها معك؟”
“بالضبط.”
“تحملين المال معك دون أن تودعيه في البنك؟ لا تقولي إنك… ستنفقينه؟”
“طبعًا، أحمله لأنوي إنفاقه، أليس هذا واضحًا؟”
هل أحمل المال لمجرد المشاهدة؟
“يا إلهي! ما الذي تفعلينه يا آنستي؟!”
“ولِمَ تبدين مصدومة هكذا؟”
“ألَا تعلمين ماذا يُسميك السيد؟”
“…….”
وكيف لي ألا أعلم؟
إنه لقب ليس لطيفًا أبدًا،
لكنه يعبّر تمامًا عن تصرفاتي مؤخرًا.
‘إسبين الجشعة.’
هكذا كان والدي يناديني في الآونة الأخيرة.
لكن لم يكن بيدي حيلة.
فالشخصية الرئيسية — أيًّا كانت قصتها —
عليها دومًا أن تستعد للمستقبل!
وما دام الجميع يكسب المال،
فمن الطبيعي أن أكسب أنا أيضًا!
الأهم من ذلك أنني لا أنوي أن أعمل بجهد كبير.
لا أريد تكرار حياة الكدّ والعناء في العالم الحديث مجددًا.
كنت بحاجة إلى شخصٍ يعمل كالثور بدلاً مني.
فبعد تفكير طويل، قررت أن أترك فكرة تأسيس مشروع،
وأتجه بدلًا من ذلك إلى الاستثمار.
واستفدت من امتيازي كمُنْتَقِلة من عالمٍ آخر لاختيار وجهة استثمارٍ مناسبة…
لكن كانت هناك مشكلة واحدة فقط.
كنت في التاسعة من عمري آنذاك،
لكن لم يكن لدي رأس مال أبدأ به الاستثمار.
وفي مثل ذلك العمر، لم يكن هناك سوى طريقة واحدة للحصول على المال —
وهي المصروف.
منذ تلك اللحظة، بدأت أستجمع كل ما أملك من حيلة وروح للحصول على مصروفي.
ولحسن الحظ، كان لديّ أبٌ ساذج طيب القلب…
بل لنقل “أحمق لطيف” يحبني إلى حدٍّ مبالغ فيه.
– أبي، لا بد أنك متعب، اسمح لي أن أدلّك كتفيك.
وقفت خلفه وبدأت أحرّك يديّ الصغيرتين بلطف فوق كتفيه.
– يا إسبين، كم أنتِ بنت طيبة.
– أبي، أنا طيبة حقًا؟
– طبعًا، بالتأكيد.
ضحك أبي بحنان وكأنه وجد تصرفي غاية في البراءة والظرف.
حسنٌ، يبدو أن الوقت قد حان للدخول في صلب الموضوع.
– إذن… أعطني مصروفًا يا أبي!
طلبت المكافأة بابتسامة مشرقة ومليئة بالأمل.
فوجئ والدي لوهلة، ثم بدت على وجهه ملامح من يفكر:
“هل هناك شيء جديد تودين شراءه يا صغيرتي؟”
– حسنًا، سأعطيك.
قالها مبتسمًا، وكأنه لم يستطع مقاومة لطافتي قط.
كنت أرسل له نظرات توسل مليئة بالبراءة.
_هاكِ، هذا مصروفك.
_واااه!
فورًا بدأت أعدّ عدد القطع الذهبية التي أعطاني إياها، ثم مددت يدي مجددًا.
_أبي، هذا قليل. أعطني المزيد!
تجمّد أبي للحظة وهو يواجه نظراتي اللامعة.
_…يبدو أن صغيرتي إسبين تريد أشياء كثيرة، أليس كذلك؟
_أنا أحب المال. أحبه كثيرًا!
أجبته بكل ثقة.
-……
بعد ذلك، صرت أستغل كل فرصة وكل عذر ممكن لأطلب من الآخرين مصروفًا.
“أعطني مصروفًا!”
“لا أحب الفضة! ولا الرمادية! أحب الذهب فقط!”
“العملات الذهبية اللامعة تقول إنها تريد أن تأتي إليَّ!”
“أوه، جيبي فارغ تمامًا. ألا يوجد من يملؤه لي؟”
“آه، توسو (اسم الأرنب) يقول إنه جائع، ألا يوجد من يعطيني عملة ذهبية؟”
كنت أتظاهر بالبراءة والدهاء في آن واحد، أجمع المصروف بكل الطرق الممكنة وبكل إصرار.
“إسبين، لقد بدأ ظهري يؤلمني من كثرة ما أعطيك مصروفًا هذه الأيام.”
قال أبي وهو يتنهد بعد أن لاحظ مدى جشعي المتزايد تجاه المال.
(همم، هكذا إذًا…) فكرت في نفسي بخبث.
“أبي!”
قبضت يدي الاثنتين بحزم أمامه.
“ماذا… ما الأمر؟”
سألني مترددًا وهو يلاحظ ملامحي الجادة.
ثم استحضرتُ في ذهني أغنية من حياتي السابقة وبدأت أرقص بحماس، أحرك كتفيّ في إيقاعٍ مرح.
“شدّ حيلك يا أبي! إسبين معك!”
تجمّد أبي تمامًا وهو غير قادر على فهم ما يجري.
واصلت الغناء والرقص بابتسامة مشرقة، أشجّعه بكل حماس طفولي.
“…….”
تغيّر وجه أبي تدريجيًا إلى مزيج غريب بين الضحك والبكاء.
في ذلك اليوم، ظللت أصرخ من قلبي:
“أبي، شدّ حيلك!”
وفي النهاية، لم يتمالك نفسه وقال متنهّدًا:
“على الأقل… لن تموتي جوعًا في هذا العالم.”
ومنذ ذلك اليوم، صار أبي يناديني بلقب «إسبين الجشعة».
وهكذا، مرّ عامان…
وخلالهما أصبحتُ “الغنية الصغيرة” المشهورة في قصر عائلتنا.
“آنستي، ما الذي تنوين فعله بكل هذا المال؟”
سألتني المربية بفضول، إذ لم أكن أنفق شيئًا من قبل، بل كنت فقط أدّخر.
“عندي ما أصرفه عليه.”
“ألن تخبريني؟”
ابتسمتُ بخفة وهززت رأسي.
“سرّ.”
ملأت حقيبتي الجلدية – التي أسميتها توسون – بالقطع الذهبية حتى امتلأت، ثم شددت رباطها بعناية حتى لا تسقط.
بعد أن علّقتها على كتفي، قلت:
“مربية، سأخرج قليلًا.”
“هل أنتِ واثقة أنكِ لا تحتاجين أن أرافقك؟”
يبدو أنها كانت قلقة جدًا، خصوصًا وأنا أحمل المال.
“لا بأس، بيلي سيذهب معي.”
بيلي كان سائق العربة الذي استُؤجر خصيصًا من أجلي — مغامر سابق، قوي البنية وذو خبرة.
رغم أن أمن العاصمة كان جيدًا، إلا أنني كنت أحب الخروج كثيرًا، مما جعل والديّ يقلقان باستمرار.
وفي النهاية، قررا توظيف سائق قادر على القتال بدلًا من فارس حراسة منفصل.
السبب هو أن الفرسان يُعتبرون من النخبة باهظة الثمن.
كما أن وجود فارس مرافق داخل العاصمة بدا مبالغًا فيه بعض الشيء.
على أي حال، كان والداي والمربية يثقون تمامًا ببيلي.
قالوا إنه الوحيد القادر على “ترويض المهر الجامح” مثلي.
(لكن في الحقيقة… أنا فقط من كانت ألعب معه كثيرًا).
“حقًا؟ إذًا عودي سالمة يا آنستي.”
بمجرد أن ذكرتُ اسم بيلي، اطمأنت المربية وسمحت لي بالمغادرة بسهولة.
لوّحتُ لها بيدي ثم اتجهت نحو الباب الرئيسي.
“صباح الخير يا آنسة.”
حيّاني بيلي بابتسامة مشرقة، وقد كان ينتظرني والعربة جاهزة أمام القصر.
“صباح الخير لك أيضًا يا بيلي!”
أجبته بابتسامة عريضة، فابتسم أكثر وفتح لي باب العربة بأدب.
صعدت بسرعة وجلست في مكاني المعتاد.
“هل نذهب إلى هناك؟”
سأل بيلي وهو ينظر إليّ من مقعده الأمامي.
“هناك” — كلمة قصيرة، لكنها اسمنا السري لمكانٍ خاص لا يعرفه أحد سوانا.
(حقًا، إنه يفهم ما في قلبي بدقة عجيبة.)
“نعم، إلى هناك.”
“حسنًا، مفهوم.”
ابتسم بيلي مجيبًا ثم أغلق الباب خلفي، وبعد لحظات بدأت العربة بالتحرك.
***
“لقد وصلنا.”
فتح بيلي الباب لي، فقفزت منه بخفة.
“شكرًا لك.”
“على الرحب والسعة، هل ندخل إلى الداخل الآن؟”
قالها بيلي بنبرة مفعمة بالحيوية وهو يمدّ يده نحوي.
(حقًا… أنا في الحادية عشرة من عمري الآن، ومع ذلك ما زال يعاملني كطفلة صغيرة.)
لكن، بخلاف ما يدور في صدري، أومأت بهدوء وأمسكت بيده.
ولذلك قصة مؤلمة بطريقتها الخاصة.
هذا العالم الذي أعيش فيه هو عالم رومانسي خيالي.
يشبه إلى حدٍّ ما أوروبا في العصور الوسطى، لكنه لا يحمل واقعية التاريخ بقدر ما يشبه مشهدًا من لعبة مرسومة بعناية.
كان كل شيء هنا فخمًا وبراقًا في آنٍ واحد،
مزيجًا غريبًا من العراقة واللمعان، كأنني أسير داخل لوحة مذهلة أو شاشة لعبة مضيئة.
لذا، من دون أن أشعر، كنتُ في كل مرة أخرج فيها من المنزل أفقد تركيزي وأندفع إلى التفرّج هنا وهناك،
تجذبني المناظر فتتوقف قدماي من تلقاء نفسي.
كنتُ أُحدّق مأخوذة بكل شيء لدرجة أني لم أعد أشعر بمرور الوقت.
وبسبب ذلك، كان والداي يُفزعان مرارًا حين يجدانني قد اختفيت فجأة وسط الزحام.
في المرة الأولى التي ضعت فيها، كانا قلقين عليّ بشدة، لكن بعد ذلك… صار الغضب يسبق القلق.
حتى لو كنتُ أعرف طريق العودة إلى المنزل، لم يكونا يثقان بي.
– إسبين، إن تحركتِ مجددًا من تلقاء نفسك أو ابتعدتِ عنّا مرة أخرى، فلن تحصلي على مصروفك بعد اليوم!
لن تري الذهب اللامع الذي تحبينه مجددًا!
وهكذا اتخذ أبي قرارًا صارمًا.
لكن…
– إسبين! اختفيتِ مجددًا، أليس كذلك!
لم أستطع التوقف.
حتى طمعي في المال لم يكن قادرًا على كبح فضولي الغريزي.
حين أرى شيئًا جديدًا، يتحرك جسدي وحده بلا إرادة مني.
– آسفة…
قلتها بصوت خافت.
– إسبين، حقًا… ماذا عساي أن أفعل بك؟
تنهد والدي بعمق وهو يمسك رأسه بتعب.
وبينما كان غارقًا في الإحباط، كانت أمي الجالسة إلى جانبه…
فتحت أمي فمها أخيرًا وقالت بهدوء:
– إسبين.
– نعم، أمي.
أجبت بخضوع، وأنا أدرك تمامًا أني مذنبة هذه المرة.
– من الآن فصاعدًا، عندما تخرجين، عليك أن تمسكي بيد شخصٍ بالغ دائمًا.
قالت ذلك بنبرة هادئة، لكنها كانت تحمل قوة لا يمكن معارضتها.
– أمي، لقد كبرت الآن. في مثل سني، كيف لي أن أتمشى وأنا أمسك يد أحد؟
قلت ممازحةً بخفة لأخفف الجو، لكن عيني أمي لمحتا بريقًا مخيفًا.
– إذن تفضلين أن أضع لك طوقًا حول عنقك؟
كان في نبرتها من الجدية ما جعلني أرتجف.
بل شعرت للحظة أنها قد تفعلها فعلًا!
–……
كنت أذكر جيدًا أنها حين تجسدت في هذا العالم كانت سيدة رقيقة ولطيفة،
امرأة يمكن أن يقال عنها إنها تجسيد النقاء والنعومة في قصص الرومانسية الفكتورية…
لكن الآن، أمامي تقف امرأة نبيلة بنظرة باردة، حازمة، ومخيفة بعض الشيء.
– اختاري بنفسك، إسبين. اليد أم الطوق؟
نظرتها كانت حادة بصدقٍ تام، فلم أجد بُدًّا من أن أومئ بخضوع.
«يا لحالي البائس… في مثل هذا العمر، وما زلت مضطرة للإمساك بيد أحد الكبار.»
أمسك بي “بيلي” بخفةٍ ودفءٍ في آن، ثم قادني إلى داخل المبنى.
قادني بيلي إلى الداخل.
تجاوزنا الردهة المزدحمة حتى وصلنا إلى الغرفة المتفق عليها.
طرقت الباب، طقطق.
فجاء صوت من الداخل يقول بلطف:
— تفضلا بالدخول.
وقبل أن أفتح الباب، سألني بيلي بصوت منخفض:
— هل تودين أن أنتظرك هنا؟ أم أدخل معك؟
حقًا، إنه يتمتع بذكاء فطري مدهش.
يعرف تمامًا متى يتدخل ومتى ينسحب دون أن أقول شيئًا.
— اليوم يمكنك الدخول معي.
قلت ذلك بخفة. فالموضوع ليس سرًا على أي حال.
وفوق ذلك… عليّ أن أجعله ينضم إليّ لاحقًا أيضاً.
نظر إليّ بيلي بنظرة متسائلة للحظة، لكنه سرعان ما أومأ بتفهم وقال:
— حسنًا، كما تشائين.
فتحت الباب ودخلنا، فنهضت من مقعدها شابة ذات شعرٍ أحمر طويل مربوطٍ على شكل ذيل حصان.
ابتسمت قائلة:
— مرحبًا، دِيليا.
فبادرتني بلطف وهي تشير إلى الأريكة أمامها بيدٍ مرحبة:
— أهلًا بقدومكِ، كنتُ بانتظاركِ.
بإشارة منها للجلوس، جلستُ على الأريكة، بينما وقف بيلي خلفي.
قالت: “بيلي، اجلس أنت أيضًا.”
ربتُّ على المقعد بجانبي ولكنه قال :
“أنا بخير.”
ابتسم بيلي ابتسامة خفيفة، ولم أُلح عليه مرة ثانية.
في تلك الأثناء، فتحت المرأة الدرج وأخرجت بعض الأوراق قبل أن تجلس مقابلي.
“مر وقت طويل يا السيد إسبين.”
أجبتها: “كنتم أسرع مما توقعت.”
ابتسمت ديلِيا بابتسامة مهنية، وقالت:
“كانت المهمة غامضة بعض الشيء، لذلك توقعنا أن نُضيّع وقتًا أطول، لكن يبدو أن الحظ كان معنا.”
سألتها بلهجة متوترة:
“إذن، هل وجدتموهما؟”
“نعم، هنا المعلومات التي طلبتموها عن الشخصين المذكورين. الأجر هو خمس قطع ذهبية.”
(خمس قطع ذهبية؟!)
لم يكن المبلغ كبيرًا جدًا، لكنه لم يكن زهيدًا أيضًا.
كنت أرغب في المساومة، لكنني تراجعت في اللحظة الأخيرة.
(اليوم، الثقة أهم من المال.)
فقلت بابتسامة حاولتُ أن أجعلها هادئة:
“السعر… أقل مما توقعت.”
بينما كنت في داخلي أذرف دموعًا على ما سأدفعه.
قالت بهدوء تام:
“الطرف الآخر شخص عادي فقط، وطلبتَ منا معرفة مكان إقامته الحالي فحسب. لو كنتَ قد طلبتَ تحقيقًا أعمق، لكان السعر أعلى بكثير.”
كان شرح دِيليا البسيط… مخيفًا بعض الشيء.
(كم كان سيكلّف لو طلبتُ معلومات “كاملة” إذًا؟)
فتحتُ ال
حقيبة الصغيرة الموضوعة على ركبتي، “توسوني”، التي كانت ممتلئة لدرجة أن فمها بالكاد أُغلق.
وحين فتحتها، انشقَّت فتحتها فجأة لتكشف عن بريق العملات الذهبية المتراصة بداخلها.
أخذتُ منها خمس قطع ذهبية وقدّمتها إلى دِيليا بثبات مصطنع.
“تفضّلي.”
كانت يدي ترتجف قليلًا، لكنني تظاهرت باللامبالاة.
(إنها ترتجف لأن العملات ثقيلة… بالتأكيد ليس لأن قلبي يتألم على فراقها.)
التعليقات لهذا الفصل " 21"