الفصل 19
هذه المرة كنت واثقًا أنها ستتراجع حقًا.
لكن على نحوٍ مدهش، أرسلت إسبين رسالة أخرى.
تطلب فيها زيارتي من جديد — فتعمدت ألا أجيب على رسالتها.
عندها جاءت إسبين بنفسها.
لم تلقِ حتى تحية ودودة واحدة،
ولم نجرِ حديثًا طويلًا.
كانت تلتقيني وجهًا لوجه ثم تستدير راحلة في الحال.
وإن حدث أن تبادلنا أكثر من بضع كلمات،
فقد كانت كلماتي دائمًا باردة قاسية،
بل وحتى مهينة أحيانًا.
ومع ذلك… كانت إسبين تظل مشرقة دائمًا.
تبتسم بلطفٍ وببراءةٍ لا تتغيّر.
ظننت أنها ستملّ سريعًا،
لكنها واصلت اقترابها العنيد لأكثر من عام.
في القصر الكئيب الذي كنت أعيش فيه وحيدًا،
كانت نبرتها المرِحة تُدوّي أحيانًا فتُنعش الصمت من حولي،
وكأن ضوءها يبقى حتى بعد رحيلها.
ذلك الإحساس بالخطر الذي شعرت به في البداية
راح يزداد يومًا بعد يوم.
هذه الفتاة لا يجب أن تكون بقربي.
هي مختلفة عني تمامًا —
نشأت في حضن المحبة، دون أي انكسار أو ظلال.
كنت أستشعر ذلك بوضوح من بضع كلماتٍ نتبادلها،
ولهذا تمنّيت ألا تقترب أكثر،
كي لا تنجرف هي أيضًا إلى الخطر الذي يحيطني.
ومع مرور الوقت…
– صاحب السمو الأمير لوتشيانو، اخبر إسبين أنني أرغب أن تشاركني في جلسة الشاي القادمة.
– سمعت أن إسبين زارتك البارحة أيضًا، أتوق كثيرًا للقائها أنا أيضًا.
منذ ذلك الحين، صارت الإمبراطورة إيزابيل تسأل عن حال إسبين في كل مرة نصادف فيها بعضنا،
حينها أدركت تمامًا أن الوقت قد حان لإنهاء هذا الوضع.
***
“لقد أحضرت لك هدية!”
قالت إسبين بصوت أكثر حيوية من المعتاد وهي تدخل بخفةٍ وتحمل سلّة صغيرة.
“تادا!”
رفعت الغطاء عن السلّة، فإذا بها مليئة بكعكات المافن البرتقالية اللون.
طعام.
كنت قد شممت رائحته الزكية حين دخلت،
لكن رؤيته بعيني جعلت وجهي يتجمّد تلقائيًا.
“إنها مافن الجبن! أحضرتها لأتناولها معك.”
بمجرد أن رأيت الطعام،
تدفّقت إلى ذهني ذكريات الماضي التي حاولت نسيانها.
“تفضل، جرّب واحدة. ستعجبك بالتأكيد!”
– جلالتكم، ألا تشعرون بالعطش؟
تلك اللحظة عادت إليّ بوضوح—
اللحظة التي ناولني فيها خالي السّم.
“إنها ليست حلوة كثيرًا، جلالتكم أيضًا يمكنكم تناولها بسهولة.”
– لقد أعددتها بنفسي، يا مولاي.
تلك الجملة نفسها…
الكلمات ذاتها التي سبقت خيانتي آنذاك.
تجمّد كل شيء في ذهني،
تحوّل العالم إلى فراغ أبيض بارد.
كنت أعلم أن الموقف مختلف،
لكن عقلي لم يحتمل.
خرجت الكلمات من فمي بلا وعي، قاسيةً وباردة:
“كيف تعرفين أن هذه الكعكات ليست مسمومة؟”
“سأُثبت لك!”
رغم كل ما قالته، لم أستطع أن أصدقها.
لكنها، دون تردد، فعلت شيئًا لا يُصدق.
“إن أكلتها كلها وبقيت بخير، فستثق بي، أليس كذلك؟”
ثم أمسكت كعكةً، وبدأت تأكل بعنادٍ غريب،
وكأنها تريد أن تُرغمني على تصديقها.
ظننت أنها ستأخذ قضمة أو اثنتين لتُظهر نيتها فحسب—
لكن سرعان ما تحطّم ذلك الظن.
كانت تأكل بعنفٍ رغم تعابير وجهها التي صارت تتلوى ألمًا،
تمضغ بصعوبة، تدفع القطع إلى فمها وكأنها تعاقب نفسها.
“توقّفي عن الأكل.”
“لا. سأكمل كلها.”
إسبين بدأت تأكل وهي قد شحب وجهها حتى صار شاحبًا كالأرض.
“أخبرتك أن تتوقّف عن الأكل.”
“تبقّى ثلاث قطع فقط.”
“الآن، هاا…”
كلمات الاستنكار كانت على حافة لساني.
“لا تقلق، تبقّى قطعتان فقط.”
“أكلتِها كلّها؟ هل أنتِ بخير الآن؟ إذًا لم تُسممي!”
حين أنهت إسبين آخر مافن وهي تكاد تذرف الدموع، أحسست بأن شيئًا ما في صدري انغلق أكثر.
“أوووئِك!”
وكما توقعت، لم تستطع إسبين التحمل فاستفرغت كل ما في بطنها.
لم يكن أمامي سوى أن أحدّق إليها بوجهٍ شاحب.
“أوووئِك… لا، لا، ليس بسبب السم… أيوووه… ليس كذلك!”
بينما كانت تتقيأ بجهد وتعاني، ظلت تصرّح بأنها لم تُسمّم.
حتى أنها كادت تختنق من الإجهاد ثم أغمي عليها.
حين أُغمي عليها أخيرًا، عدتُ إلى وعيي.
لم أستطع تركها هكذا أمام الناس، فتولّيت تنظيف الفوضى بنفسي.
لم أستطع أن أنزع ثيابها، فاكتفيت بمسح ما عَلِق على ملابسها الخارجية بشكلٍ سريع، ثم استدعيتُ إحدى الخادمات لتبديل ملابسها.
بعدها وضعتُها على السرير واستدعيت الطبيب الملكي.
كنت أعلم أن الطبيب والخادمة سيُبلغان الإمبراطورة إيزابيل بما جرى،
لكن لم يكن بوسعي ترك إسبين على حالها.
بعد فحصٍ قصير، قال الطبيب إنها تعاني من تخمة حادة بسبب الإفراط في الأكل.
ناولني الدواء ثم غادر.
أرسلتُ بعدها من يُخبر بيتَ عائلة سامويل بما حدث.
لقد فعلتُ كل ما أستطيع فعله.
حتى وهي بين الوعي واللاوعي، كانت إسبين تتلوّى بألم.
“آسفة… آسفة حقًا…”
“ههه… آسفة… آسفة…”
“حقًا، ل-ليس هناك سم… كُخ… لم أضع سمًا…”
“إني مظلومة… لِمَ أنا فقط… أواه…”
“أوووه… ماذا أفعل الآن… أمي…”
“هاه… آسفة… لم أضع سمًا… أواه…”
الفتاة التي كانت دائمًا مشرقةً ومليئة بالحيوية،
كانت الآن تبكي بحرقةٍ وتشكو ظلمها،
وأنا لم أستطع قول شيء سوى النظر إليها بصمتٍ ثقيل.
كانت تواصل الاعتذار مرارًا وتكرارًا،
لكنّي أنا من كان عليه أن يعتذر.
لم أقصد أن يحدث هذا.
لم أرد أن تصل الأمور إلى هذا الحد.
كنتُ فقط… خائفًا.
لكن الآن فقط فهمت.
حين قدمت لي إسبين الطعام، وتذكّرتُ خالي في تلك اللحظة،
كان ذلك لأنني كنت أصدقها.
على مدى عامٍ كامل، صدّقتُ صدقها وإشراقها وثباتها دون أن أشعر،
ولأنني كنت أخشى أن أتعرض للخيانة مرة أخرى،
قابلتُ ثقتها بنفورٍ أشدّ.
لم أستطع تحمّل فكرة أنني أنا من دفعها إلى هذا الموقف البائس.
كانت عيناها المنتفختان من كثرة البكاء تبدوان على وشك الانهيار،
فمددتُ راحتي وغطّيتُ بهما عينيها.
“أنا من يجب أن يعتذر.”
كان ذلك الاعتذار كل ما أستطيع فعله.
“أنا آسف… حقًا آسف.”
بعد وقتٍ قصير، وصلت خادمة من منزل الكونت سامويل بعدما تلقت العائلة الخبر.
“آنستي! كيف حدث هذا؟ لماذا أغمي على آنستي؟ ما الذي جرى؟”
شرحتُ لمرضعتها ما حدث بهدوء،
وسلمتها الدواء الذي أعطاني إياه الطبيب الملكي.
قامت المربية بتقديم كلمات الشكر، وأخذت إسبين وغادرت على عجل.
وبعد أن رحلت، لم يهدأ قلبي لفترة طويلة.
لم أستطع الذهاب لرؤيتها، ولا حتى سؤالها عن حالها.
لأنني أنا من جعل الأمور تصل إلى هذا الحد.
ولأنني لا أملك الحق في ذلك.
وأثناء قضائي لوقتٍ مليء بالقلق، وصلت أخيرًا رسالة من إسبين.
[إلى سمو الأمير لوتشيانو العزيز،
لقد مر وقت طويل منذ آخر تواصل بيننا.
كان عليّ أن أرسل رسالة اعتذار وشكر مسبقًا، لكن حالتي الصحية لم تكن جيدة، لذا لم أتمكن من مراسلتكم إلا الآن، فأرجو أن تسامحوني.
أولًا، أود أن أعرب عن امتناني العميق.
شكرًا لأنكم أرسلتموني إلى القصر بعد أن فقدت وعيي.
وأعتذر إن تسببت لكم بضيق بسبب الهدية غير الضرورية التي أرسلتها، فلم تكن هناك أبدًا نية سيئة وراءها.
وأنا آسفة حقًا لأنني أريتكم جانبًا قبيحًا مني في ذلك اليوم.
أرجو منكم أن تمحوا من ذاكرتكم ذلك الحادث المروع، وأن تنعموا بأيام هادئة ومسالمة.
وأخيرًا، أعتذر حقًا على إزعاجكم طوال تلك الفترة.
لا أعلم كيف سيراني سموّ الأمير، لكنني كنت سعيدة، بطريقتي الخاصة، خلال الوقت الذي قضيناه معًا.
إن كنتُ قد تسببت لكم بأي انزعاج، أرجو أن تسامحوني بقلبٍ رحب.
لن أزعجكم بعد الآن.
مع خالص الأسف،
إسبين صامويل.]
كانت رسالة تُشير بوضوح إلى أنها لن تأتي مجددًا.
قرأت الرسالة مرارًا وتكرارًا، وأمسكت القلم أكثر من مرة لأكتب ردًا،
لكن في النهاية لم أستطع أن أدوّن ولو كلمة واحدة.
لأنني كنت أعلم أنني من منحتها ذكرى مؤلمة لا تُنسى.
ذلك الإنسان الطيب بلغ به الأمر إلى أن يدير وجهه عني… لا بد أنها جُرحت جرحًا عميقًا.
بقي الندم، وبقيت الأسف.
لكن…
“ربما هذا أفضل.”
كنتُ أنوي منذ البداية أن أضع مسافة بيني وبين إسبين.
كان خطأ أن أترك الأمور تستمر لمدة عام كامل.
ومن أجلها، كان لابد أن أفعل ذلك.
سيكون الأمر صعبًا لبعض الوقت، لكن طالما أنا وحدي من يتألم… فليكن.
كنت أظن أن الأمر انتهى عند هذا الحد.
لم أكن أعلم أنني قد ارتكبت خطأً آخر بحق إسبين.
***
“بعد أسبوع، ستُقام حفلة شاي ترحيبية بقدوم الربيع في حديقة قصر السيدة الإمبراطورة إيزابيل.
تلقّيتم دعوة للحضور.”
لم يكن هناك داعٍ لأن أسأل من المرسل.
فالخادمة التي نقلت الرسالة كانت نفس الخادمة التي اعتادت التسكع حول جناحي بين الحين والآخر، بأمرٍ من الإمبراطورة إيزابيل.
“إذن، سأعود الآن.”
غادرت دون أن تنتظر ردي،
وكأن حضوري أمر مفروغ منه لا يحتاج إلى قبول أو رفض.
كنتُ الأمير الذي لم يعد أحد يأبه به،
حتى خادمة الإمبراطورة كانت تتعامل معي بازدراء.
وهكذا كانت حالتي —
بائسة إلى درجة أن الإمبراطورة نفسها كانت تحرص على ألا أنسى وضعي المهين.
ومع الأسف، جاء الموعد الذي لم أرغب فيه بأسرع مما توقعت.
عندما وصلت إلى مكان حفلة الشاي، توقفت عند المدخل دون وعي.
(إسبين…؟)
لم أكن أعلم أنها ستكون هناك.
ظننت أنها لن تحضر بسبب سوء حالتها الصحية.
«حتى لو كانت بخير، كنت متأكدًا أنها لن تأتي فقط لتتجنبني…»
لكنها كانت هناك،
جالسة وحدها بخجلٍ على الطاولة — الطاولة المخصصة لي.
لم يكن ذلك صدفة،
بل بدا بوضوح أنه من تدبير الإمبراطورة إيزابيل.
ولأنني أدركت ذلك،
ترددت في الدخول أكثر إلى الداخل.
(هل ينبغي لي حقًا مقابلتها هكذا؟
لا بد أنها ستشعر بالضيق حين تراني…)
وبينما كنت متجمّدًا عند المدخل،
رأيت كل ما حدث أمام عينيّ.
“انتي… بيتي…”
صوتها الخافت حاول أن يسترعي الانتباه، لكن أحدًا لم يلتفت.
رأيت الناس يتجاهلونها ببرود،
ورأيت من تكلّمت معهم يتهربون منها، وكأنها لم تكن موجودة أصلًا.
وبعد لحظات، جلست وحدها، تحدّق في الفراغ بعينين شاردتين.
حينها فقط أدركت الموقف بالكامل،
وشعرت بجسدي كله يرتجف بعنف.
كان ذلك البرد الذي اجتاحني مختلفًا تمامًا عن أي خوف شعرت به من
قبل،
أبرد وأقسى من كل ما اختبرته حين كنت أنا من يُهان.
لقد كنت أنا من جعلها وحيدة في النهاية.
بأنانيتي، برغبتي الطفولية في أن أستأثر ولو بقدرٍ ضئيلٍ من دفئها،
انتزعتُ منها الناس من حولها واحدًا تلو الآخر.
أنا من دفعتها إلى هاوية الوحدة…
إلى يأسٍ مظلمٍ لا تستحقه أبدًا.
التعليقات لهذا الفصل " 19"