“لا، سيدي الماركيز!”
صحتُ وأنا أنظر إليه، لكن فجأة ظهر خلفه أيلٌ ضخم. أدار رأسه يمينًا و يسارًا ثم ثبت عينيه عليّ. كنتُ أرى الأعشاب والأشجار تتخلل جسده الشفاف. نعم، كان شبحًا بلا شك، روح حيوانٍ نادرة الظهور أمام عينيّ.
كان الأيل بحجم حصانٍ تقريبًا، لكن الرهبة المعتادة للأشباح لم تكن حاضرة. بل شعرتُ بجماله. عيناه السوداوان عميقتان كأنهما بلا قرار، وقرناه المرتفعان كتحفةٍ منحوتةٍ بدقة، وجسده يرسم منحنياتٍ أنيقةً كالموج.
هل هذا… كائنٌ لم يستطع الانفصال عن الماركيز…؟
حدقتُ فيه بهدوء، أسبح في لحظةٍ ساكنة، عندما فتح فمه فجأة كأنه سيبتلعني. تحولت صورته اللطيفة إلى شيءٍ مرعبٍ في لحظة.
“كياااك─”
دوّى صراخٌ غريبٌ في الغابة، حادٌ أثار القشعريرة في جسدي.
“كياااك─”
استمر الأيل في إطلاق عواءٍ مزعج، ثم اندفع نحوي فجأة. أمسكتُ اللجام بقوة وانكمشتُ. مرّ بجانبي مسرعًا، ورافقه صوت ريحٍ كالسكين في أذنيّ.
شعرتُ بشعري يتطاير مع النسيم. كان ريحًا حقيقيًا، يخلقه هذا الشبح بمجرد حركته.
“هيييينغ─”
رفع الحصان قدميه الأماميتين بسبب العاصفة المفاجئة، ومِلت أنا للخلف.
“آه!”
صرختُ مذعورةً، أرتجفت خوفًا من السقوط. لكن الحصان أعاد قدميه إلى الأرض سريعًا. لكن للحظةٍ فقط، ثم انطلق مسرعًا في طريق الغابة.
“لورا!”
ابتعد صوت الدوق المتلهف وهو يناديني. كان قد نزل من حصانه بالفعل، فلن يستطيع ملاحقتي بسرعة.
مشكلةٌ كبيرة. ماذا أفعل الآن…؟
نظرتُ حولي بقلق، فرأيتُ أرواحًا تركض بجانبي، من الثدييات الصغيرة إلى الضواري الضخمة مختلطةً معًا. بدأت تتجمع في كراتٍ صغيرة وتصعد إلى السماء كاليراعات، لكن الخوف منعني من الاستمتاع بذلك.
احتكت الأغصان الخشنة بجلدي مؤلمةً، والريح الباردة كالجليد. شعرتُ بدوارٍ ولم أعرف ماذا أفعل، فانكمشتُ وأغمضتُ عينيّ بقوة.
“لورا! افتحي عينيكِ! يجب أن تري الأمام!”
تبعني صوت الماركيز قريبًا. يبدو أنه يلاحقني.
“لكن…!”
صرختُ كأنني أفرغ خوفي. كان الموقف مرعبًا، حتى أنني خشيتُ الموت.
“لورا، لا بأس. انظري إليّ! سأجد حلاً!”
هدأني الماركيز بنبرةٍ مطمئنة. فتحتُ عينيّ بصعوبة ونظرتُ إليه. كان يمد يده نحوي من على حصانه، شعره الفاتح متطايرًا، وعيناه الخضراوان تحدقان بي بقوة. لم يمسك اللجام جيدًا، لكنه لم يبدُ قلقًا. لكن المشكلة كانت عندي.
“أمسك يدك؟”
“نعم، سأمسككِ بقوة. لن أترككِ، ثقي بي!”
لم أشك فيه، لكنني لم أستطع ترك اللجام. يدي متصلبةٌ من التوتر، لا تطاوعني.
“آسفة، آسفة! لا أستطيع التحكم! يدي لا تتحرك!”
“…حسنًا، سأنتقل إليكِ.”
“ماذا؟! هذا خطر!”
“لا بأس، لا تتحركي من هناك.”
استدار نحوي. أفاقني تصرفه فجأة. كان ذراعه معطلةً، وجسده لم يشفَ بعد. لا يمكن أن أدعه يخاطر بالانتقال بين الخيول الراكضة.
لم يكن هناك وقتٌ للتردد، وكان القرار سريعًا. الحصان يجرنا بلا هدفٍ إلى أعماق الغابة.
“لا! سأذهب أنا! أنا من سينتقل!”
هززتُ رأسي بعنفٍ وصرختُ. نظرتُ إلى يديّ الممسكتين باللجام، وزفرتُ بقوة.
من فضلكِ… أطلقي اللجام، لورا هاين!
فردتُ أصابعي المرتجفة واحدةً تلو الأخرى. العرق في كفي باردٌ مع الريح، والعضلات تؤلمني من الشدة. لكنني فتحتُ يدي أخيرًا ونظرتُ إليه بجهد.
“لكن لا تتركني! يجب أن تمسكني بقوة!”
مددتُ ذراعي نحوه. في تلك اللحظة، صاح الحصان “هيييينغ” ورفع قدميه، فملت للخلف وسقطتُ. تخيلتُ السقوط المؤلم بسهولة.
“لورا!”
أغمضتُ عينيّ بقوة مع صرخته القصيرة. دوى صوت “كوونغ” وهويتُ إلى الأرض، متدحرجةً عدة مراتٍ قبل التوقف. لكن شيئًا غريبًا حدث. لم أشعر بالتراب البارد، بل بدفءٍ خلف ظهري.
هل هذا…؟!
نهضتُ مسرعةً والتفتُ، فوجدتُ الماركيز. يبدو أنه أمسكني وسقط معي. نظر إليّ بعينيه ثم سعل “كوغ”.
“هل أنتَ بخير؟ استعد وعيكَ!”
أمسكته مذعورةً. لكنني شعرتُ بسائلٍ رطبٍ بين أصابعي. نظرتُ فزعةً، فرأيتُ الدم يتدفق من جنبه.
شوااا─
بدأ المطر ينهمر بغزارة. ابتعدتْ الخيول مسرعةً، والغابة غرقت في ظلامٍ كثيف. لم أعد أرى الطريق، وصوت المطر وحده يملأ المكان. أصبحنا معزولين تمامًا.
شعرتُ بدوارٍ. يجب أن أجد حلاً. نهضتُ وبحثتُ حولي، فعثرتُ على كهفٍ صغيرٍ قريب.
“سيدي الماركيز، انهض. لننتقل إلى هناك.”
ساندته ورفعته. أمسك جنبه وتأوه. كانت ملابسه مبللةً، ربما من كثرة الدم. المطر استمر، يتسرب بين شعري وملابسي.
شقّنا طريقنا عبر المطر إلى الكهف. أضجعته داخله، فأدركتُ خطورة حالته. كان شاحبًا جدًا، ورائحة الدم الحديدية تملأ الهواء.
“الدم… كثيرٌ جدًا. اخلع ملابسكَ، سيدي الماركيز.”
“ماذا؟ ماذا؟”
أمسك طرف ثوبه بارتباك.
“أنتَ مبللٌ بالمطر! ويجب أن أرى الجرح.”
جذبتُ ثوبه بعنف. لا يمكن أن أتركه يمرض أكثر في هذه الحالة. أنا مسؤولةٌ عن 80% مما حدث، فلا يمكنني التخلي عنه.
“آه.”
عض شفته من الألم. ابتعدتُ عنه سريعًا. رائحة الدم ازدادت، وكدتُ أفقد أعصابي.
“سأخلعه بنفسي.”
ابتعد قليلًا وصاح، ثم بدأ يفك أزرار قميصه بصعوبة، وألقى معطفه على الأرض. برز من جيبه شيءٌ أصفر: رباط شعري الذي أعطيته إياه. التقطته فورًا لأستخدمه في تضميد الجرح، إذ لم أجد قماشًا مناسبًا.
فك أزرار قميصه، فظهر جرحٌ عميقٌ بين طيات القماش.
“سيدي الماركيز، لا تتحرك.”
طويتُ الرباط بعناية ووضعته على الجرح، لكنه أمسك ذراعي فجأة.
“لورا.”
“نعم؟ ما الأمر؟”
“ستوقفين النزيف بهذا؟”
“آه، هل تخشى أن يكون متسخًا؟ لكن ليس لدي قماشٌ جافٌ آخر…”
“ليس ذلك، بل أشفق عليه…”
“هل هذا مهم الآن؟”
ضغطتُ على الجرح بعبثيةٍ. عبس بشدةٍ من الألم، وتسرب الدم إلى الرباط.
“أوه؟ آسفة، هل… يؤلمكَ كثيرًا؟”
“نعم، يؤلمني جدًا…”
قالها كأنه يبوح بضعف. ابتعدتُ مرتبكةً، فأمسكني مجددًا وجذبني. اقترب وجهه وحدق بي.
“أفزعتكِ؟ كنتُ أمزح. ليس مؤلمًا جدًا.”
“…”
“لا داعي لتلك النظرة. أنا أقل إصابةً مما يبدو.”
مد يده وعدّل شعري المتشابك. أدركتُ حينها أنني غارقةٌ في حزنٍ بدا على وجهي.
“…آسفة. لو أمسكتُ يدكَ سريعًا، لما حدث هذا. كنتُ جبانةً جدًا.”
واصلتُ التضميد وأنا أتحدث. شحوبه جعلني أشعر بالسوء، وبشرته الباردة أثارت قشعريرتي.
التعليقات لهذا الفصل " 82"