‘يبدوان ثنائيًا رائعًا…’
كنتُ أقطّع فطيرة الفراولة وأتناولها بينما أتأمل ولي العهد وعشيقته. كانا ينظران إلى بعضهما البعض ويتبادلان الضحكات بسعادةٍ غامرة.
وفي تلك اللحظة، اقترب شخصٌ ما بخطواتٍ متثاقلة، ثم جلس بجانبي مباشرةً. كانت امرأة، راحت تتطلع إلى ثنائي ولي العهد وتطلق تنهيداتٍ عميقة متتالية. بدا وكأن القلق يغمرها، وهو شعورٌ انعكس بوضوح على تعابير وجهها.
تجاهلتُها بقدرٍ معقول ووضعتُ قطعة فراولة في فمي أمضغها بهدوء. لكن تنهيداتها المستمرة بدأت تجذب انتباهي رغمًا عني، وتبعتها عيناي لا إراديًا. شعرتُ أنني أتدخل فيما لا يعنيني، لكنني لم أستطع إلا أن أخاطبها في النهاية.
“عذرًا… هل هناك أمرٌ يزعجكِ؟”
“آه، لا… آسفة، سأبقى هادئة.”
ردت وهي تلوح بكلتا يديها، وكأنها ظنت أنني ألمح إلى إزعاجها لي.
“لا، لم أقصد أنكِ مزعجة. فقط بدا لي أن شيئًا يقلقكِ.”
“…آه… نعم.”
“…حسنًا… لا تهتمي بي…”
لاحظتُ أن ردودها أصبحت أكثر كآبة، فأسرعتُ بطمس نهاية جملتي محرجةً. ثم أدرتُ وجهي لأنظر أمامي مباشرةً. عاد ثنائي ولي العهد إلى نطاق رؤيتي، يبتسمان ببهجةٍ وكأنهما يعيشان في عالمٍ من السعادة المنفصلة.
“…هل ترين تلك الفتاة التي ترقص مع سمو ولي العهد؟”
بعد لحظة، فتحت فمها ببطء. أومأتُ برأسي دون أن أرفع عيني عنهما.
“تقصدين تلك الفتاة ذات الشعر الفضي الجميل؟”
“نعم، إنها أختي.”
“ماذا؟”
“لا نشبه بعضنا كثيرًا، أليس كذلك؟ لكنها أختي بالفعل.”
كان ذلك صحيحًا تمامًا. المرأة التي بجانبي كانت ذات شعرٍ بني داكن وملامح لطيفة، بينما أختها تمتاز بألوانٍ زاهية ومظهرٍ متألق. لم أكن لأتخيل أبدًا أنهما شقيقتان.
“وهذا بالضبط مصدر قلقي.”
واصلت حديثها بهدوء.
“أعمل في القصر الإمبراطوري. وفي إحدى المرات، أحضرتُ أختي معي إلى القصر عن طريق الصدفة. يبدو أنها لفتت انتباه سمو ولي العهد في تلك الزيارة.”
“أفهم…”
“…لكن عائلتنا ليست من الطبقة الرفيعة. الإمبراطورية لن تقبلها أبدًا. وهكذا، ستصبح مجرد فتاة تحمل لقب ’عشيقة ولي العهد‘. وربما، في أسوأ الأحوال، تتحول إلى خليلته الرسمية.”
“آه…”
“أختي الساذجة تقول إنها لا تمانع. إنها معجبة بولي العهد لدرجة أنها ترى الأمر مقبولًا. لكنني لا أستطيع أن أتقبل ذلك بأي شكل.”
“أتفهم شعوركِ.”
لو أعلن أحد إخوتي أنه سيكون خليلًا لشخصٍ ما، لشعرتُ بحرقةٍ شديدة في قلبي، بغض النظر عن هوية ذلك الشخص.
يا لهم من أغبياء! كيف ربيتهم ليصلوا إلى هذا؟
“شكرًا لتفهمكِ. كنتُ أخشى أن يقال لي إن كونها خليلة ولي العهد أمرٌ يُحسد عليه. سمعتُ مثل هذا الكلام من أماكن أخرى بالفعل، بل وقيل لي إنني أقلق عبثًا.”
“هذا أمرٌ مختلف! لدي أخت أيضًا، ومجرد تخيل أن تصبح خليلة لأحدهم يجعلني… أشعر بالضيق.”
“أليس كذلك؟ أليس كذلك؟”
التفتت إليّ بعينين متألقتين، ثم أطلقت ضحكةً خافتة كأنها تفريغٌ للتوتر.
“بالمناسبة، لم أعرفكِ بنفسي بعد. أنا هيريس دالين، أعمل خادمةً في القصر الإمبراطوري كما ذكرتُ.”
“أنا لورا هاين، أعمل سكرتيرة في قصر دوق كيرفرشالدن.”
“إذن، أنتِ تلك الشخصية التي جاءت كمرافقة للدوق؟”
“أوه… هل انتشرت شائعاتٍ عني؟”
شعرتُ ببعض الحيرة من لهجتها التي بدت وكأنها تعرفني، فسألتها مباشرةً.
“حسنًا… قليلاً.”
نظرت هيريس بعيدًا بنوعٍ من الحرج. يبدو أن تلك الشائعات لم تكن إيجابية تمامًا.
“…ليس شائعات سيئة، بل مجرد تعليقات مليئة بالغيرة سمعتها هنا وهناك.”
واصلت وهي تحك خدها بأصابعها.
“غيرة؟”
“ألا تعلمين؟ الدوق شابٌ يحمل لقب دوق، ووسيمٌ أيضًا. بالنسبة للفتيات في سن الزواج، هو بمثابة العريس المثالي. فلما ظهر فجأة برفقتكِ كشريكة، انفجرت غيرة الفتيات النبيلات.”
“الآن فهمتُ. اليوم، تعرضتُ لمضايقات من ثلاث فتيات هنا.”
إذن هذا هو السبب. كنتُ أتساءل لماذا يتعمد أشخاص لا أعرفهم إزعاجي. لكن مضايقتي لن تجعل الدوق ملكًا لهن، فجهودهن كانت بلا جدوى.
“لا تعيريهن انتباهًا. هؤلاء النوع من الناس موجودون في كل مكان.”
لوحت هيريس بيدها وهي تتحدث. أجبتها بـ”حسنًا”، وإن كنتُ لم أتجاهل الأمر تمامًا، لكنني لم أرد أن أهتم به قسرًا.
“على أي حال، لنغير الموضوع. ما الذي تفعلينه في القصر الإمبراطوري؟”
“أنا…”
حولتُ دفة الحديث بلباقة، واستمررنا في الدردشة. كانت شخصيتها متوافقةً معي بشكلٍ غير متوقع، وتدفق الحديث بسلاسة. مر الوقت الذي كاد أن يكون مملًا وأنا وحيدة في قاعة الحفل بسرعةٍ بفضلها.
وفجأة، شعرتُ ببرودةٍ تخترق المكان. يبدو أن الوقت قد تأخر بما يكفي لظهور الأشباح. تذكرتُ حينها أنني سمعتُ أن القصور الإمبراطورية في كل بلد تعج بالأرواح، وأن الأشباح عادةً ما تحب الموسيقى والرقص، فربما تتجمع كلها في قاعة الحفل.
“هيريس، كم الساعة الآن تقريبًا؟”
كانت القاعة مضاءةً بإضاءةٍ ساطعة تجعلها كالنهار، مما جعل تقدير الوقت صعبًا.
“لا أعلم. لكن الشمس غالبًا قد غربت الآن.”
“غربت الشمس…” إذن، ربما تظهر الأشباح قريبًا. نعم، بدءًا من ذلك الرجل العجوز الذي يرتدي زيًا قديمًا أراه أمامي الآن.
آه… يا للهول… بدأت الأشباح تظهر…
كان العجوز يقف وحيدًا بين الراقصين، بمظهرٍ غريب لدرجة أنني تساءلتُ: “هل هذا إنسان؟” مهما نظرتُ، بدا شبحًا لا محالة.
بدأت المرأة ذات الشعر الطويل المنسدل تتحرك بجسدها المتهالك، ثم رفعت رأسها لتنظر إليّ. انتفضتُ مفزوعةً، لكنني تظاهرتُ باللامبالاة لأخفي أنني أراها.
“لورا، ما بكِ؟”
لكن يبدو أن توتري ظهر بوضوح. خاطبتني هيريس بنبرةٍ قلقة.
“لا شيء، لا شيء.”
أجبتها وأنا أثبت عيني على الشبح. كنتُ أود أن أحول نظري، لكنني لم أستطع، خوفًا من أن تفعل شيئًا في غفلةٍ مني.
فجأة، ابتسمت الشبحة نحوي ابتسامةً عريضة. لقد أدركت وجودي. شعرتُ بالخوف يجتاحني وكأن قلبي سيتوقف.
آه، ما العمل؟ لقد اكتشفت أنني أراها…
“بالمناسبة، أين ذهب الدوق؟”
سألتني هيريس. تمسكتُ بأعصابي وفتحتُ فمي المرتجف بصعوبة.
“آه… أم… لديه عملٌ ما، فغادر للحظات.”
في تلك الأثناء، كانت الشبحة تقترب مني ببطء. حركاتها المتعثرة كانت مرعبةً حقًا. أردتُ أن أصرخ وأهرب من القاعة دون اكتراثٍ لشيء.
“يا إلهي، ماذا تفعلين هنا؟”
فجأة، ظهر وجه الآنسة “الطائر” في مجال رؤيتي، محجبًا مظهر الشبح المخيف خلفها.
يا للعجب، شكرًا لكِ!
نظرتُ إليها بإعجابٍ صامت. بدت مرتبكةً للحظة، لكنها سرعان ما استعادت رباطة جأشها وبدأت تستعد لمضايقتي مجددًا.
“لم تكوني مع الدوق منذ قليل. همم، يبدو أنكِ استغللتِ منصبكِ كسكرتيرة لترجيه أن يجعلكِ شريكته، أليس كذلك؟”
“بالفعل، يبدو أن الدوق كريم القلب. من يصدق أنه وافق على طلبٍ سخيف كهذا؟”
تمتمت الآنسة “الطائر” وصديقتها ذات الشعر البني بصوتٍ مسموعٍ عمدًا. لكن كلماتهما لم تغضبني حقًا. كنتُ أشعر براحةٍ أكبر لاختفاء الشبح من أمام عيني.
“آنسة هاين، هذا نصيحة لأجلكِ. لا تحاولي تسلق السلم الاجتماعي بهذه الطريقة. الدوق يجب أن يتزوج من فتاة تناسب طبقته. أم أنكِ تفكرين في أن تصبحي خليلته؟”
لكن هذه الكلمة هزتني قليلاً.
“خليلة؟”
نظرتُ إلى الآنسة “الطائر” مباشرةً وسألتها.
“أم أنكِ تعتقدين أنكِ ستكونين زوجته الشرعية؟”
لا، لا، ليس ذلك. لماذا تتسرعين دائمًا؟ أنا والدوق لسنا حتى في علاقة بعد!
“…”
لكنني لم أجد ما أرد به. كان واضحًا حتى لصبيٍ في الخامسة أن عائلتي أدنى بكثير من عائلة الدوق.
بقيتُ صامتةً، أعض على شفتي بقوة. ضحكت الفتاة ذات الشعر البني من خلف مروحتها، في سخريةٍ واضحة.
“أم… أنا…”
كانت هيريس إلى جانبنا تدير عينيها في ارتباك، وكأنها تريد التدخل لكنها لا تعرف كيف. لو كان هذا معركة، لكان هزيمةً ساحقة بلا شك.
“لورا.”
في تلك اللحظة، ظهر شخصٌ أمامي فجأة. رفعتُ عيني لأرى وجه الدوق يملأ مجال رؤيتي. أمسك بمعصمي بسرعة.
نظرتُ إليه بعينين متسعتين. الجميع حولنا بدوا مصدومين، أعينهم ترتجف من المفاجأة.
“هل كوّنتِ صداقاتٍ جديدة؟”
سألني الدوق وهو ينظر إلى الثلاثي الذي كان يزعجني.
“لا… لا…”
“إذن، هيا بنا.”
سحب ذراعي دون تردد. لم يكن لدي وقتٌ لأسأل شيئًا، فتبعته مسرعةً.
“لقد حان وقت ظهور الأرواح.”
همس الدوق بعد خطواتٍ قليلة. نعم، لقد جاء لينقذني ويهرب بي بمجرد أن بدأت الأشباح بالظهور.
حسنًا، لقد كنتُ خائفةً بالفعل.
تبعته بسرعة، ثم التفتُ للحظة لأنظر إلى الثلاثي. كانوا يحدقون بنا بوجوهٍ مذهولة ونحن نبتعد.
التعليقات لهذا الفصل " 62"