1
كان ذلك قبل أسبوعٍ واحدٍ فقط من موعد افتتاح الفرع الثاني للمقهى، ذاك المكان الذي بدأتُ فيه كعاملةٍ بدوامٍ جزئي، ثمّ مضيتُ أرتقي درجات السُّلَّم بجهدي حتى غدوتُ مديرةً له.
وبعد أن ودّعتُ زملائي الذين شاركوني تسعَ سنواتٍ من العمل الدؤوب في ذلك المقهى، كنتُ عائدةً من حفلةِ الوداع التي أُقيمت لنا.
كنتُ أمشي على الرصيف، حين انحرفت سيارةٌ رباعية الدفع فجأةً وانقضّت نحوي مباشرة.
ولم أكن قد تمكّنتُ بعد من تفاديها حين غمر بصري ضوءٌ أبيضُ ساطع، تبعه ألمٌ حارقٌ يمزّقُ عظامي كما لو أنّ سكاكينَ تُغرسُ في جسدي.
هكذا إذًا… ستكون هذه نهايتي؟ أموتُ بهذه البساطة؟ وماذا عن مقهاي العزيز؟
حتى وأنا مُلقاةٌ على الأرض الباردة، ووعيي يتلاشى شيئًا فشيئًا، لم يشغلني سوى المقهى.
ذاك المقهى الذي كافحتُ لأجله بكلِّ ما أملك، وشققتُ طريقي إليه من ظلمةِ الميتم، حتى صار في النهاية ملكي وحدي.
غمرني إحساسٌ عميق بالظلم والمرارة، لكن لم يكن أمامي إلّا أن أُغمض عينيّ وأتقبّل قدري.
غير أنّ ما حدث بعد ذلك لم يكن متوقَّعًا؛ فبمجرّد أن غبتُ عن الوعي، اختفى الألمُ تمامًا، وحلَّ محلّه دفءٌ غريب تسلّل إلى أعماقي، أشبهُ بطمأنينةٍ ناعمةٍ تلفُّني… بل خُيِّل إليّ أنّني مستلقيةٌ على سريرٍ وثيرٍ ومريح.
هَه؟ ما هذا الإحساس؟ لا يبدو مجرّد وهم… بل شعورٌ حقيقيٌّ بالسكينة…
دفعتني تلك الراحة الغامرة إلى أن أفتحَ عينيّ ببطء.
ما هذا؟ مَلَك؟!
لم أكن متأكّدة في البداية، لكنّ الرجل الذي أبصرته لحظةَ فتحتُ عينيَّ جعلني أتيقّن أنّني لا بدّ في السماء.
شَعرٌ ذهبيٌّ يتلألأ كأشعة الفجر، وعينان زرقاوان صافيتان كصفاء البحر، وأنفٌ مستقيم، وشفاهٌ منسوجةٌ بدقّة، وأكتافٌ عريضة كأنها نُحتت من النور.
في الواقع، بدا هذا المكانُ عالمًا لا يمتّ للبشر بصلة، إذ لا يمكن لمثل هذا الجمال أن يوجد في عالمنا.
“لماذا تحدّقين هكذا؟”
يا إلهي… حتى صوته عذبٌ يأسر السمع!
كان الملاك المزعوم يقطّب حاجبيه بتبرّم، كأنّ النظرَ إليّ كان أكثر ما يثيرُ ضيقه، غير أنّ نبرته العميقة كانت موسيقى آسرةً تجعلُ ازدراءه يبدو كنعمة.
إذًا… لقد متُّ فعلًا؟
لكنّ نشوة لقائي بهذا الملاك الساحر لم تدم طويلًا، إذ تسلّل إلى قلبي وعيٌ موجِع بأنّني متُّ حقًّا، وأنّ مقهاي الذي أفنيتُ فيه شبابي قد تُرك خلفي. كادت الدموعُ تفرّ من عينيّ، حين ضحك هو بسخريةٍ قائلاً:
“هاه! هل تبكين الآن؟”
تبًّا! إذًا، فكرةُ أنّ الملائكة لطفاءُ محضُ كذبةٍ جميلة.
أيّ ملاكٍ يسخر من شخصٍ باكٍ بهذه القسوة؟!
زادني ذلك إدراكًا للحزن، حتى غمرتُ وجهي بالغطاء هربًا من نظراته القاسية.
“كفّي عن هذا التمثيل البائس، يا إيميلي غارنيت.”
إيميلي غارنيت؟! اخترق الاسم الغريب أذنيَّ كالسهم.
لم يكن في الغرفة سوانا، فهل يُعقل أنّه يقصدني؟
“…أنا؟” تمتمتُ بخجلٍ وأنا أطلّ من تحت الغطاء.
“إنه أمرٌ مرهقٌ حقًّا.”
نقر بلسانه بغيظٍ ثم نهض فجأةً، وكأنّ الإصغاء إليّ عبءٌ لا يُطاق.
تبدّل لمعانُ عينيه من الضيق إلى نفورٍ خالص، كأنّ مجرّد وجودي يُثير اشمئزازه.
“إيّاكِ أن تستدعيني عبر رايسا مرّةً أخرى. هذه آخرُ تحذيرٍ لكِ، يا إيميلي غارنيت.”
رايسا؟ من تكون تلك؟
اختلطت أفكاري، لكنّه غادر الغرفة قبل أن أنطقَ بحرف، وأغلق البابَ خلفه بقوّةٍ جعلت صداها يتردّد طويلاً في المكان.
“ما الذي يجري بحقّ السماء؟”
رفعتُ جسدي بذهولٍ، والدهشة ما زالت تُكبّل تفكيري.
تطلّعتُ حولي، فوجدتُ نفسي في غرفةٍ فخمةٍ أشبه بغرفِ القصور الأرستقراطية، لا في سماءٍ ولا جحيم.
انتظر لحظة… آنسةٌ نبيلة؟
في الحال، قفز إلى ذهني مشهدٌ مألوفٌ شاهدتُه مئات المرّات، فقفزتُ من السرير وركضتُ نحو المرآة.
“مستحيل… هذا غير ممكن…”
لم يكن الوجه المنعكس في الزجاج وجهي!
بل وجهُ امرأةٍ فاتنةٍ ذات شعرٍ أشقر بلون العسل، وعينين بلونٍ عسليٍّ هادئٍ تحدّقان بي بثباتٍ من خلف المرآة.
مثلُ هذه الأمور لا تحدث إلّا في الروايات… فهل حدثت لي حقًّا؟!
لم أجد ما أفعله سوى أن ألمسَ وجهي الغريب بيديّ المرتجفتين.
بوووف!
“عزيزتي الزبونة! لا بدّ أنكِ في صدمة، أليس كذلك؟”
“مـ… ماذا بحقّ الجحيم؟!”
وكأنّ المفاجآت لا تنتهي!
وبينما كان الارتباك واليأس يتنازعان داخلي، ظهر أمامي فجأةً مخلوقٌ صغير.
رفع جناحًا واحدًا فوق بطنه المستدير، وانحنى لي بانحناءةٍ مهذّبة.
“تشرفتُ بلقائكِ! أنا أوموكي، مرشدكِ الخاصّ في خدمة التجسّد!”
“مرشدُ التجسّد؟ وماذا يفترض أن يعني ذلك؟”
“أأنتِ الآنسة هان يُونا؟”
“نعم، هان يُونا!”
ليس “إيميلي غارنيت” ولا أيّ اسمٍ سخيفٍ آخر — سماع اسمي الحقيقي على لسان هذا المخلوق منحني طمأنينةً غامرة، حتى نسيتُ غرابة الموقف.
لكن سرعان ما ارتدى أوموكي نظّارةً صغيرةً من العدم، وتبدّلت ملامحه إلى الجديّة الوقورة.
“لقد أُرسلتُ من شركة رومانس فانتسي لَف لأرشدكِ خلال تجربة التجسّد الخاصّة، يا آنسة هان يُونا!”
لم تترك كلماته مجالًا للشكّ: لقد حدث ما لم أظنّه ممكنًا… لقد تجسّدتُ فعلًا في عالمٍ آخر!
صحيح أنّ الذي دهسني لم يكن شاحنة-تشان الأسطورية، بل سيارةَ دفعٍ رباعيّ، لكنّ النتيجة واحدة.
“شركتنا، رومانس فانتازي لَوف، تختار أولئك الذين دخلوا في غيبوبة، وتمنحهم فرصةً للتجسّد في عالمٍ جديد.”
“إذًا… أنا الآن في غيبوبة؟”
“صحيح! ولكن الدخول في الغيبوبة وحده لا يكفي لتصبحي مؤهّلة. يجب أيضًا أن تكوني بلا مأوى في العالم الآخر، وأن تكوني قد قرأتِ ما لا يقلّ عن مئة روايةٍ مكتملة من نوع الرومانسية الخيالية.”
من كان يظنّ أنّ هوسي بتلك الروايات سيُثمر يومًا؟!
فمهما كانت الحبكة سخيفةً أو السردُ مملًّا، كنتُ أقرأ حتى الصفحة الأخيرة. وشعرتُ في تلك اللحظة بفخرٍ غير مألوف بنفسي.
وفي الأثناء، أخرج أوموكي شيئًا أشبه بجهاز تحكّمٍ للتلفاز وضغط زرًّا عليه، فظهرت أمامي شاشةٌ مضيئة.
[ خدمة التجسّد الخاصّة
مرحبًا بكِ في شركة رومانس فانتازي لَوف، يا زبونتنا العزيزة ]
يا إلهي… هل هذا عرضُ باوربوينت؟ بل أسوأ عرضٍ رأيته في حياتي!
كان عرضًا مزدحمًا بالنصوص والمؤثرات، أشبه بما يُصبح لاحقًا مادةً للسخرية على الإنترنت.
وبينما كان صدر أوموكي ينتفخُ فخرًا، بدا واضحًا أنّه هو من أعدّه بنفسه.
“هل وُضعتِ في غيبوبة ظلمًا؟ لا تقلقي — رومانس فانتازي لَوف هنا لأجلكِ!”
بوووم! كراش!
ظهرت شريحةٌ جديدة تُعلن بحماسٍ مفرط:
[ شركة رومانس فانتازي لَوف وُلدت من أجل الرومانسية الخيالية، ولأجلها، وباسمها. تأسّست شركتنا لحماية قداسة هذا الفنّ الأدبي… إلخ إلخ… ]
ازدحمت الشاشة بالكلمات حتى كدتُ أُغمض عينيّ من شدّة الإرهاق، فيما تابع أوموكي القراءة بحماسةٍ تفيض بولاءٍ غريب لشركته.
وبينما كنتُ أزداد عبوسًا من رتابة عرضه، تحوّل صوته فجأةً إلى نغمةٍ إيقاعيةٍ أشبه بأداءٍ غنائيّ:
“إذن! إن كنتم تتساءلون عمّا يجعل خدمة التجسّد الخاصّة مذهلةً إلى هذه الدرجة—”
تادااا!
“ابقي على قيد الحياة، تغلّبي على الأشرار، وواصلي حتى تبلغي النهاية! سنمنحكِ مكافأةً خاصّة لتغيير مصيركِ!”
حقًّا؟ من علّم هذا الكائن استخدام الباوربوينت؟!
في كلّ مرة يقلب فيها الشريحة، كانت تتبعها مؤثراتٌ مبالغٌ فيها، ما زادني فضولًا حول المدرّب العبقري الذي لقّنه ذلك.
“والسرّ يكمن في هذه المكافأة!”
“وما هي هذه المكافأة تحديدًا؟”
“هيهيهي… لا تندهشي كثيرًا.”
دن–دن!
[ مكافآت النهاية «اختر واحدة»
1. الاستيقاظ من الغيبوبة كـ«هان يُونا» في العالم الحقيقي، مع تحقيق أمنيةٍ واحدة
«تُستثنى الأمنيات التي تُخلّ بتوازن العالم».
2. الاستمرار في الحياة كـ«إيميلي غارنيت» داخل عالم الرواية، بعد الوصول إلى نهايةٍ سعيدة. ]
يا للعجب… حتى العرضُ الركيك لم يُضعفَ حماسي!
فلو عدتُ إلى العالم الواقعي، سأتمكّن أخيرًا من افتتاح المقهى الذي طالما حلمتُ به، بل وتحقيق أمنيةٍ إضافية! أيُعقل أن أرفض مثل هذا العرض؟
“أختار الخيار الأول.
مهما كان الثمن.”
“لا يمكن اختيار المكافأة إلّا عند بلوغ النهاية. استعجالكِ قد يجلب لكِ الندم.”
“لن أندم أبدًا. هذا الخيار كنزي الحقيقي.”
“لكن إن عشتِ هنا كإيميلي غارنيت، قد يتغيّر رأيكِ. على أيّ حال، لا يمكنكِ الحسم إلّا في النهاية، لذا فكّري جيّدًا.”
لكن لم يكن في قلبي شكٌّ واحد.
كيف لي أن أتخلّى طوعًا عن ذكرياتي الثمينة، عن المقهى الذي بنيته بعرق السنين، عن المكان الذي منحتني الحياةُ إيّاه بعد أن حرمتني كلَّ شيء؟
“وللتوضيح، إن لم تصلي إلى النهاية، ستعودين إلى الواقع دون أيّ تغيير.”
“هاه؟ دون تغيير؟ تقصد…؟”
“أي إنكِ ستعودين كـ«هان يُونا» في غيبوبة، لا يُعلم أتموتين أم تعيشين.”
تجمّدتُ للحظة، تتردّد كلماته في ذهني.
هان يُونا… في غيبوبة.
ذلك هو واقعي الفعليّ.
كنتُ ممتنّةً فقط لوجود طريقٍ للعودة، لكنّ شعورًا ثقيلاً بدأ يخنق صدري شيئًا فشيئًا.
“لا تقلقي كثيرًا. بما أنّ هذه رواية قرأتِها من قبل، وإيميلي غارنيت إحدى بطلاتها، فلن يكون الأمر صعبًا.”
“…رواية قرأتُها؟”
“بالطبع! خدمة التجسّد الخاصّة لا تُدخلكِ إلا إلى روايةٍ تعرفينها مسبقًا.”
“لكنّني لم أقرأ هذه الرواية إطلاقًا!”
“مستحيل. لعلّكِ قرأتِها منذ زمنٍ بعيدٍ ونسيتِ.”
هززتُ رأسي نافيةً، بينما أوموكي أطلق صوتًا متحيّرًا وهو يفتّش في فرائه، ثم أخرج هاتفًا صغيرًا يكاد يُغطّى بكفّه.
بيب… بيب… بيب…
تردّدت أصوات الأزرار، ثم انزلاقٌ ناعم وهو يقلب الشاشة.
وفجأة—
“…هاه؟”
ارتفع صوته المندهش في الغرفة الرحبة، كأنّ شيئًا غير متوقّع قد وقع حقًّا.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!

إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"