وكما يليق بسمعتها، فإنّ معظم أراضي المملكة كانت مكسوّة بالرمال الذهبية.
غير أنّ ذلك لا يعني أنّها كانت تعاني من ندرة في المياه.
ففي أنحاء كثيرة من تضاريسها، انتثرت الواحات الواسعة كأنّها لآلئ على صدر الصحراء، حتى بدا أنّها مملكة غنية لا فقيرة.
وكانت أشعّة الشمس تتلألأ فوقها على مدار النهار، حتى يُخيّل للناظر أنّ المملكة قد وُضعت تحت الشمس مباشرة.
وعلى النقيض من هذا السطوع، كانت بشرة أهلها قد اكتسبت لونًا داكنًا، وكأنّها احترقت تحت وهج الشمس.
وقد ألّف أحد العلماء ذات مرة كتابًا زعم فيه أنّ هذه السمات الغريبة لمملكة “مايتن” إنّما هي من صُنع الشياطين، فما كان من المملكة إلا أن رفعت عليه دعوى رسميّة.
وهذا وحده يبيّن كم كانت هذه البيئة المتميّزة تثير الجدل في الأوساط المختلفة.
“عند تلك النقطة، انعطفوا يمينًا!”
قالت موران وهي تُخرج رأسها من خلف كتف كاميلا، مشيرةً لهم بالاتجاه.
فما كان من لايل ورود السائرين في المقدّمة إلا أن انعطفا نحو اليمين كما قالت.
“الطريق مشيد أفضل مما توقّعت.”
همس “بن” بدهشة، وهو ينظر إلى الطريق الممهّدة التي تسمح بمرور الخيول والعربات بسهولة.
وهامون الذي كان إلى جانبه كان يومئ برأسه موافقًا.
لكن على جانبي الطريق، كانت الرمال هي الحاكمة، كما لو أنّها تنتظر فرصة للانقضاض على المعبد.
ورغم أنّ الأمطار كانت قد هطلت في الليلة السابقة، فإنّ الأرض قد جفّت بالكامل بفعل حرارة الشمس المتوهّجة.
“الحرارة… كما يُقال، لا تُطاق.”
كان من حسن الحظ أن الجميع قد جلبوا معهم عباءاتٍ تحجب عنهم الغبار وأشعّة الشمس الحارقة، لكن وجوههم المخفيّة تحت أغطية الرأس كانت مغطّاة بظلالٍ ثقيلة تُظهر كم كانوا يعانون من الحرّ.
“لقد وصلنا! هذا هو النزل الذي يديره والداي!”
قالت موران وهي تُشير بإصبعها نحو مبنى من طابقين بُني من الطوب البني.
كان الحنين والفرح يملآن وجهها وهي تعود إلى بيتها بعد طول غياب.
وعندما وصلوا إلى مدخل المبنى، ترجّلت كاميلا من على ظهر جوادها، وساعدت موران على النزول.
“وأين نضع الخيول؟”
سأل رود وهو ينظر حول المبنى باحثًا عن الإسطبل.
إذ لا يمكن ترك الخيول في منتصف الطريق، وإلا فقد تُصاب بضربة شمس أو جفاف.
ومن المؤكّد أنّ نُزُلاً كهذا لا بدّ أن يحتوي على إسطبل مخصّص للضيوف.
“إذا دخلتم قليلاً إلى الداخل، فستجدون إسطبلًا، يمكنكم وضع الخيول هناك.”
“أنا وهامون سنتكفّل بذلك.”
قال “بن” بفطنة، فسارع لايل إلى تسليمه لجام الحصان.
وبينما كان بن وهامون يتّجهان نحو الإسطبل، انطلقت موران من داخل المبنى وهي تفتح الباب على مصراعيه.
“تفضّلوا بالدخول جميعًا!”
كانت قد سبقتهم إلى الداخل دون أن يلاحظ أحد، وهي الآن تُلوّح لهم بدعوةٍ مُلحّة.
“لحسن الحظ، توقّف المطر اليوم، لذا ستجدون غرفًا شاغرة. بالأمس، امتلأ المكان تمامًا بسبب المطر.”
رغم أنّ أحدًا لم يُجبها، إلّا أنّ موران ظلّت تتحدّث بمفردها بحيوية، ثمّ اقتربت تدريجيًا من لايل وسارت بجانبه.
نظر إليها لايل بطرف عينه، ثمّ أعاد بصره للأمام، وكأنّه لا يُعيرها اهتمامًا يُذكَر.
‘مهما نظرتُ… يبدو أكثر تساهلًا من المعتاد…’
هل يُحاول الحفاظ على مظهره الرزين بعد أن أصبح شابًا بالغًا؟
لقد بدا لايل أكثر لطفًا معها بصورة غريبة.
وبالنسبة لمن لا يعرف لايا، فقد لا يلحظ شيئًا غريبًا في هذا السلوك، لكنّ رود الذي يعرفه جيّدًا، علم في الحال أنّ هذا لطفٌ نادر.
ففي الأحوال الطبيعيّة، كان يُفترض لايل أن يكون قد جعل موران تبكي منذ زمن!
وبينما كان رود يُمعن التفكير في هذا التصرّف الغريب، كانت المجموعة قد عبرت الممرّ ووصلت إلى بهو النُزل.
وهناك، ظهرت امرأة تجلس على كرسي وتتنفّس الصعداء بوضوح.
ويبدو أنّها أحسّت بوجودهم، فأنزلت يدها التي كانت تسند بها ذقنها ورفعت رأسها.
“هل أنتم… ضيوف؟ أهلًا وسه…”
“أمّاه!”
هتفت موران وهي تركض نحو المرأة التي نادتْها بـ”أمّي”، والبسمة تعلو وجهها.
وعلى وجه المرأة المرهق ظهرت علامات الدهشة.
“موران!”
كانت الأم قد قضت الليلة الماضية قلقةً على ابنتها التي لم تصل في موعدها.
لكن ها هي تعود اليوم، كما غادرت، بابتسامةٍ مشرقةٍ كأن شيئًا لم يكن.
ورغم أنّ إيفيريت شعرت بالارتياح في داخلها، إلا أنّها بادرت فورًا بصفع ابنتها على ظهرها بقوّة.
“آآخ!”
“يا لكِ من فتاة! أقلقتِني كثيرًا!”
دوّى صوت الأم الغاضبة في أرجاء البهو.
“آسفة! حدث حادث في الطريق…”
“حادث؟ أيّ حادث؟”
صرخت موران وهي تلوّي جسدها ألمًا من شدّة الضربة.
لكنّ إيفيريت لم تكتفِ، بل صفعَتها في نفس المكان مرةً أخرى!
“آآآه! أمّي، هذه كانت مؤلمة حقًّا!”
“هيا، أجيبي على الفور!”
كانت إيفيريت غاضبة إلى درجة أنّها لم تنتبه لوجود الضيوف أصلًا.
أما الضيوف الثلاثة فكانت ردود أفعالهم مختلفة:
رود بدا وكأنّه على وشك التدخّل،
بينما “كاميلا” تثاءبت بملل، أما لايل، فقد كان يُلقي نظراتٍ فاحصة في أرجاء المكان، كأنّه يبحث عن شخصٍ ما.
‘لا يبدو أنّه هنا…’
لكنه شعر بحركةٍ من الطابق السفلي، ما جعله يظنّ أنّ الشخص المطلوب قد يكون هناك.
“آه، تعرّضت لهجوم من وحشٍ في الطريق، لكنّ هؤلاء السادة أنقذوني، كما أنّ المطر جعلنا نتأخّر ليومٍ كامل.”
أنهت “موران” شرحها الموجز وسحبت يدها من قبضة والدتها، ثمّ ركضت نحو لايل وأمسكت بذراعه، مُعلنةً بفخر أنّه منقذها.
التعليقات لهذا الفصل " 99"