كانت الماركيزة جدة لوسي دومًا تضع عائلتها في المرتبة الأولى.
حتى وإن لم يتبقى لها من العائلة سوى حفيدتها، التي تركتها ابنتها المتوفاة خلفها.
ولذا، كان من الطبيعي أن تُغدق الجدة كلّ اهتمامها ومودّتها على لوسي.
ولم يكن ذلك فقط لتسدّ الفراغ الذي خلّفه غياب والديها.
“سيدتي الماركيزة… رغم أنّني لم أرد الاستسلام احترامًا لشخصك… إلا أنّني لم أعد قادرًا على مواصلة تعليم الآنسة لوسي.”
كان هذا هو أستاذ الجغرافيا الرابع الذي أوكلته الجدة إلى لوسي، قبل شهر.
“لقد انكسر عزمي…”
*صوت شهقة*
لم يكن ما قاله مبالغة، فقد بدا واضحًا على وجه الرجل، الذي بلغ الخمسين من عمره هذا العام، أنّه لم يخجل من ذرف الدموع أمام الجدة.
“كيف لي أن أُعلّم أحدًا وأنا لا أعرف حتى المساحة الكلية لسلسلة الجبال الإمبراطورية…”
أما الجدة، فلم تُبدِي ارتباكًا كبيرًا أمام بكاء رجل في شيخوخته، بل لم يكن منها سوى أن تنهدت بعمق.
وكان أقصى ما فعلته أن شكَرته على ما تحمّله وقدّمت له منديلًا بيديها.
وبعد أن صرفت المعلم بطريقة ما، ضغطت على جبينها الذي بدأ يؤلمها من جديد، ثم استدعت لوسي.
دخلت لوسي مكتبها بوجه هادئ، وكأنّها كانت تتوقّع هذا الاستدعاء سلفًا.
“لوسي، ما الذي قلتُه لكِ في المرة السابقة؟”
سألتها الجدة بوجه متجهم وهي تسند مرفقها إلى سطح المكتب.
“قلتِ لي ألا أنتقد المعلم حتى لو أخطأ.”
كعادتها، لم تخطئ لوسي في تذكّر كلمات الجدة، بل ردّدتها دون أن تُسقط منها حرفًا واحدًا.
وعلى الفور، تعمّقت التجاعيد بين حاجبي الجدة.
“أحسنتِ التذكّر. لكن لماذا لم تلتزمي بوعدك لي؟”
شبّكت الجدة أصابعها كشبكة، وأسندت ذقنها عليها وهي تسألها.
كانت هذه المرة الخامسة عشرة.
المرة الخامسة عشرة التي يبكي فيها معلموا لوسي ويطلبون الرحيل، قائلين إنّهم لم يعودوا قادرين على تحمّل الأمر.
وكانت الأسباب دائمًا متشابهة.
لقد كانوا يتحطمون أمام تلميذة تفوقهم ذكاءً، فيشعرون بالمهانة والانكسار.
وكما قالوا، كانت لوسي ذكيّة.
كانت تحفظ معارف العلماء وإن لم تدرسها، وأحيانًا، كانت تعرّف مفاهيم لم تُعرَّف بعد ببساطة مدهشة.
بل إنّ موهبتها تجاوزت العلوم إلى فنون السيف أيضًا.
ولو نظرنا إلى الأمر من هذه الزاوية، لوجدنا أنّها حفيدة لا غبار عليها.
لكن، بقدر ما كانت مميزاتها عظيمة، كانت عيوبها كذلك.
فكلّما اتّسعت دائرة مواهبها، ازدادت لوسي تكبرًا وغرورًا.
ولم تكن تسمع كلام أحد.
الجدة كانت الوحيدة التي تُظهر لها بعض الاحترام الظاهري، أما غيرها، فكانت تتجاهلهم تمامًا.
كانت الجدة تظن أنّ شخصية لوسي هذه تعود إلى نشأتها في بيئة غنية، وإلى مواهبها المتفوقة حدّ الإسراف.
لكنها كانت مخطئة.
فطبع لوسي المتعجرف كان فطريًّا، لا أكثر.
“سيدتي الماركيزة.”
“ناديني، جدّتي.”
“جدّتي، لقد حصل سوء فهم.”
لوسي لم تكن من النوع الذي يعترف بخطئه بسهولة. بل على الدوام كانت تدّعي أنّها بريئة وواثقة من نفسها.
ولم يكن اليوم استثناءً.
“أنا لم أنتقد، بل الأستاذ هو من لم يعرف الإجابة فقط.”
وكان ردّها وقحًا كالمعتاد.
شعرت الجدة بصداعها العائد مجددًا، فرفعت يدها تمسك بجبهتها مرة أخرى.
“قلتُ للماركيـ-“
“جدّتكِ.”
“……قلتُ لجدّتي إنني سأحاول الالتزام، ولهذا لم أسأله كيف لم يعرف شيئًا بهذه البساطة، بل أعطيته الإجابة مباشرة.”
“وهذا، يا صغيرتي، يُسمّى نقدًا عند الناس.”
“حقًا؟ لم أكن أعلم. سأنتبه في المستقبل.”
أومأت لوسي برأسها وكأنها فهمت لتوها، دون أن يعتري ملامحها أيّ أثر للندم.
الجدة ظلّت تحدّق في وجه حفيدتها طويلًا.
ففي هذه اللحظات، كانت ترى في لوسي صورتها في شبابها، عندما كانت متغطرسة ولا ترى أحدًا أهلًا لمقارنتها.
حين كانت تقول إنّ الأغبياء لا يستحقون الحياة.
وعندها، كانت الماركيزة لا إراديًّا تلوم نفسها.
لعلّ لوسي ورثت هذا الطبع البغيض منها.
“……لوسي، هذا يكفي.”
ولهذا السبب تحديدًا.
رغم أنّها عادة ما تغمر حفيدتها بحبها، فإنّها كانت تصير صارمة جدًّا عندما ترى منها ميلًا ولو بسيطًا للاستخفاف بالآخرين.
خشيةً أن تكبر حفيدتها وتصبح مثلها.
“اعتبارًا من اليوم، يُمنع عليك الدراسة لأكثر من ساعتين يوميًّا. وسأحاول أن أملأ هاتين الساعتين بدروس السلوكيات.”
بدت الصدمة على وجه لوسي، وانكمشت ملامحها على الفور.
لماذا؟!
قراءة ورقة علميّة واحدة في هذا الوقت سيكون أكثر نفعًا للعائلة!
ورغم كلّ ذلك، لم تستطيع أن تفهم قرار جدتها.
لكنّها لم تعارضه.
لأنها كانت تعلم أنّه لم يبقَى من يصلح لتعليمها أصلًا.
***
هكذا، بدت لوسي وكأنّ فيها انحرافًا غير مفهوم في نظر أيّ إنسان طبيعي.
ولم يكن السبب فقط غرورها المتعالي.
“أختك ليست هنا اليوم؟”
كانت تملّ من الحياة السلسة، فبحثت دومًا عن المتعة.
ولم تكن الأخلاق ضمن معايير تلك المتعة.
“أه؟ أ-أجل…”
شعر لايل بالضيق من لوسي التي ما إن وصل حتى سألت عن ديوليتا، لكنّه أجابها بإخلاص.
“قالت إنها كانت مشغولة طوال يوم أمس… لذا فهي تستريح الآن…”
قال ذلك بعد أن تذكّر ما سمعه من إحدى الخادمات.
“حقًا؟ إذًا، نادِها لنلعب سويًا.”
لوسي لم تكترث أبدًا لكون ديوليتا تستريح من إرهاقها.
فهي لم تكن تملك أبسط آداب الاهتمام بالغير.
بل تعلمت ذلك، لكنها لم تجد أيّ دافع لتطبيقه.
لأنها لم تشعر بأنّها بحاجة لفعل ذلك.
فأهمّ ما في حياتها هو كسر مللها القاتل بأمور مسليّة.
“……لكن، أختي متعبة…”
قال لايل بصوت خافت، كأنّه يحتجّ للمرة الأولى.
وما كان من لوسي إلا أن نظرت إليه بعيون باردة.
‘أنا لم أطلب رأيك أصلًا.’
شعر لايل وكأنّ صوتًا غير مسموع يخاطبه بذلك، فانخفض بنظره على الفور.
بينما رفعت لوسي ذقنها قليلًا وانحرفت ابتسامتها بسخرية، كما لو كانت تتهكّم عليه.
“ما هذا؟ تحاول حماية أختك الآن؟”
صوتها الساخط جعل كتفي لايل ينخفضان بثقل، لكنّه لم يندم على ما قاله.
فهو كان يكره اللعب مع لوسي وديوليتا معًا.
فعندما كانوا ثلاثتهم، كان يشعر دومًا بأنّه غير مرئي.
بسبب الطريقة الغريبة التي كانت لوسي تستمتع فيها بإحراج ديوليتا.
فحينما تعرض ديوليتا أن تُعلّمهما لغة أجنبية، تتقن لوسي تلك اللغة أمامها لتضعها في موقف محرج.
أو تتظاهر أمام الدوقة بأنّها تراجع دروسًا تعلمتها من ديوليتا.
لأنها تعرف أنّ الدوقة مارسين، كلّما أظهرت لوسي عبقريتها، زادت متطلبات الأم من ابنتها.
وديوليتا، كعادتها، كانت تلبي كلّ ذلك دون أيّ شكوى.
ولوسي، بالنسبة لها، كانت تلك اللحظات مجرّد متعة فاخرة.
لو كانت ديوليتا تردّ عليها بصرامة، لكانت توقّفت عن لعبتها فورًا، خشية أن تخبر الماركيزة.
لكنّ ديوليتا كانت طيبة جدًا.
ولوسي كانت أذكى من أن تتجاوز الحدّ.
فكانت تستغلّ حداثة سنّها كذريعة، وديوليتا تتفهّمها وتغفر لها دائمًا.
“لا، لا…”
فجأة، هزّ لايل رأسه نفيًا.
‘لا’ ماذا بالضبط؟
رفعت لوسي حاجبها الأيمن وهي تتابع رأسه الصغير يتمايل.
“أنا لا أحميها لأنها أختي…”
تمتم بخجل، قبل أن يواصل بصعوبة:
“لكن لأنّكِ تهتمّين بها دائمًا أكثر مني… وهذا يزعجني…”
وبينما يتحدث، اكتست وجنتاه الصغيرتان بحمرة خفيفة.
“لأنّ لوسي صديقتي…”
وفي تلك اللحظة، لم يكن انطباع لوسي كبيرًا.
فهي فقط فكّرت بأنّ لايل، رغم برودها الدائم، لا يزال يقترب منها بلا ملل… وهذا شيء مذهل.
أو ربّما… أمر طبيعي؟
فهي اعتادت أن تتلقّى مثل هذه المشاعر المهووسة.
ومع ذلك، كانت تشعر دومًا بشعور غريب لا يمكنها تحديده كلما فعل لايل ذلك.
شعور غامض لا يمكن وصفه بدقّة.
ربما، لأنّه كان بشريًا…
على الأقل، حتى الآن.
“……لا أذكر أنني أصبحت صديقتك.”
***
ما إن فتحتُ عيني من النوم، حتى طعنتني أشعة الشمس في وجهي. لقد ارتفعت الشمس عاليًا في السماء وكأنّها تقول آن لك أن تنهضي.
رمشتُ عدة مرّات، ومع كلّ رمشة بدأت غشاوة النوم تتلاشى وذهني يتّضح شيئًا فشيئًا.
لكنّ ما أزعجني حقًا هو هذا الحلم.
هذه المرة، لم أكن مجرّد مراقبة، بل كنت لوسي نفسها، وكنت أعيش أحاسيسها وأفكارها وكأنّها تنساب مباشرة إلى رأسي.
ظللتُ أسترجع الحلم لبعض الوقت، أشعر بالغضب لأنّ لوسي في الرواية الأصلية كانت تُشقي جدّتها.
أما بشأن ما فعلته بأختي ديوليتا، فذاك لا يحتاج إلى تعليق.
لكن ما علق في ذهني في النهاية هو آخر ما فكرت به لوسي.
ففي الرواية الأصلية، كانت لوسي الوحيدة التي تعرف بأمر الوشم الذي يحمله لايل.
حتى وقتٍ قريب، ظننتُ أنّ ذلك هو كلّ ما تعرفه.
‘ما زال بشريًا… حتى الآن؟’
لماذا بدا لي، لوهلة، أنّ لوسي كانت تعلم بتحوّل لايل إلى شيطان مستقبليًّا؟
هل هذا مجرد شعور؟ أم…
ترجمة:لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 98"