بسبب نبرة لايل اللامبالية، كادت لوسي، ولو للحظة، أن تهزّ رأسها تلقائيًّا وتقول:
“آه، هكذا إذن”.
غير أنّها لم تحتج وقتًا طويلًا لتدرك ما يخفيه كلامه من نوايا.
“……يا لك من مجنون بحق…….”
وما الفرق بين هذا وبين السجن؟
سوى أنّ قدميها حرتان تجوبان الخارج، فلا شيء آخر اختلف.
بل، إن صدقت ما قاله لايل، فإنّ مجرّد عضة واحدة منه تكشف له كلّ أفكارها، ما يجعل الأمر في جوهرها أكثر تقييدًا.
أجهشت لوسي بالبكاء مجددًا، وقد لامت نفسها على أملٍ تافه كانت تعلّقه عليه، ثمّ نطقت بذلك بصراحة كاملة.
وبينما كانت تنتحب بصوتٍ متقطّع، نظر إليها لايل مطوّلًا وكأنّه لا يفهم سبب بكائها، ثمّ مال برأسه مستفسرًا.
“كلّما فكّرتُ بالأمر، يبدو لي أنّ العضّ أفضل، أليس كذلك؟”
فعلى الأقل، ستتمكّنين من الخروج من هنا.
كلّما تحرّكت لوسي، اصطدمت يدها عمدًا أو خطأً بالدمى الواقفة إلى جانبها.
لكنّها لم تُعر للأمر أدنى اهتمام، بل استمرّت في بكائها.
وفي النهاية، اقترب منها لايل وعانقها بحركة اعتادها، وبدأ يربّت على ظهرها.
“أعدكِ بفعل ما تريدين، فلمَا البكاء إذن؟”
ومع ذلك، بدا أنّه لا يزال يجهل تمامًا سبب دموعها.
“ما حاجتك أن تعرف… أين أكون… أو ماذا أفكّر…؟”
ثمّ تمتمت بانكسار:
“ولماذا تهتمّ أصلاً؟…”
بل كانت هي من سألت لايل بدلًا من العكس.
عندها، اشتدّ ضغط ذراعيه قليلًا وهو يعانقها.
شعرت لوسي بقوّة قبضته تحيط بخصرها النحيل، فارتجف جسدها من جديد.
“لأنّها راحة.”
“……؟”
“فإن ظهرت في حياتكِ مشاعر تجاه أحد، سأعلم مباشرة.”
“…….”
“وأتصرّف فورًا.”
تتصرّف… كيف؟
ظلّ السؤال يتردّد في ذهنها، لكنها قرّرت ألّا تسأله، لأنّها… كانت قد فهمت.
وبعد أن سمعت ذلك، تيقّنت لوسي من شيءٍ واحد:
أنّ الحلّ ليس في التفاوض معه واسترجاع حرّيّة مزيّفة، بل في الفرار من هذا القصر اللعين بقدميها، لأجل نفسها، ولأجل الجميع.
“عندما كنتُ بشريًّا، كان عليّ أن أضع في الحسبان أشياء كثيرة، وهذا كان مزعجًا.”
قال لايل ذلك وهو يدفن وجهه في كتف لوسي.
وبدأت لوسي ترتجف أكثر من ذي قبل.
“حسنًا، ماذا قرّرتِ؟”
لكن هذه المرّة، كانت يده التي كانت تربّت على ظهرها قد ارتفعت لتضغط برفق خلف عنقها.
ذلك البرود المتسلّل من لمساته كان كافيًا ليُخبرها أنّه جادّ في كلّ ما يقول.
ارتفع حلق لوسي بشكل واضح وهي تبتلع ريقها.
“……سأخرج… بطريقتي…”
ومع ذلك، كانت لوسي أكثر صدقًا من اللازم، كالعادة.
لكن لايل لم يُعر لذلك اهتمامًا كبيرًا.
“حقًّا؟ كم هذا مؤسف.”
قالها، لكن وجهه لم يحمل ذرّة من الأسف، بل بدا كمن يقلّد البشر في نطق عباراتهم ليس إلا.
في تلك اللحظة بالذات، كان لايا واثقًا تمامًا:
طالما أنّ لوسي لا تزال إنسانة، فلن تستطيع أبدًا الهرب من هذا المكان.
***
بعد مضيّ خمسة أيّام
خمسة أيّام مرّت منذ انضمّ رود إلى فرسان آل سويينت بأمرٍ من لايل.
وما إن خرج من الخيمة، حتى رفع رأسه نحو السماء وتنهّد بانزعاج.
الجوّ الغائم يوحي بأنّ المطر سيهطل في أيّة لحظة.
“إذا أمطرت، علينا أن نوقف التقدّم.”
قالها، ثمّ التفت إلى أحد الفرسان المتثائبين بجانبه:
“هيّا، اذهب وأيقِظ القائد.”
أومأ الفارس برأسه، وأسرع الخطى نحو خيمة لايل.
وقف رود يراقبه وهو يسير بتثاقل، ثمّ بدأ يُحرّك أطرافه لتخفيف التشنّج.
صوت طقطقة صدر من ظهره وعنقه معًا.
لم يمضِي وقت طويل على انضمامه، لكنّه شعر أنّه عانى ما يكفي.
ومع ذلك، لم ينبس ببنت شفة تذمّرًا،
فلوسي، رغم أنّها لم تكن سوى زميلة لم يتحدّث معها كثيرًا،
إلّا أنّه لم يستطع تجاهل شعوره بالأسى لما حدث معها.
وفي اللحظة التي رفع فيها ذراعيه للأعلى، سمع صوت الفارس ينادي من بعيد:
“القائد غير موجود!”
قالها دون أيّ توتّر، بل بوجه بدا وكأنّه اعتاد الأمر.
ورود كذلك.
“مرّة أخرى؟”
إلى أين يذهب هذا الرجل كلّ صباح؟
رغم اعتياده، لم يمنعه ذلك من الاستغراب.
فالفرقة غادرت الإمبراطورية قبل ثلاثة أيّام فقط، منذ أن انضمّ رود إليهم.
وقد قرّر لايل التوجّه مباشرة نحو أقرب مملكة مجاورة، بحثًا عن لوسي.
بينما كانت لوسي تبذل جهدها من الداخل، كان البحث عنها يجري على قدم وساق من الخارج.
فالقضيّة لم تكن بسيطة، إذ إنّ اختفاء ماركيزة من النبلاء أثار زوبعة في الإمبراطورية، حتى أنّ البلاط الإمبراطوري أرسل الدعم من الفرسان والجنود.
“سوف أمدّك بالعدد الذي تحتاجه، فلا تُثقِل كاهلك. فقط ركّز على مهمّتك في البحث عن الماركيزة سويينت.”
قالها الإمبراطور ليكسيون.
وبالطبع، كان في كلماته جانبٌ شخصيّ، لكنّه لم يكن غريبًا بما يكفي ليُثير الشكوك.
بفضل دعم الإمبراطورية، أوكل لايل مهمّة التفتيش داخل البلاد إلى الآخرين، وقرّر بنفسه البحث في الدول المجاورة.
وكانت وجهته الأولى مملكة “مايتِن”، التي تبعد ما يقارب ثلاثة أيّام ونصف على ظهور الخيل.
اجتياز الحدود لم يكن شاقًّا لهذا الحد، ولهذا قرّر التوجّه مباشرة.
“فلنجهّز أنفسنا للانطلاق. سيعود حين يحين الوقت.”
قالها رود بنبرة اعتادت على الغياب، فأومأ بقية الفرسان موافقين.
منذ بدء الرحلة، كان لايل ينام أبكر من الجميع، ويستيقظ قبلهم جميعًا، ثمّ يختفي، ويعود فقط عند ساعة الرحيل.
مرّة سأل رود:
“إلى أين تذهب كلّ صباح؟”
لكن لايل اكتفى بجوابٍ مجرّد: “استطلاع.”
كان الجواب غريبًا، لكنّه لا يحمل كذبًا واضحًا، ما جعل رود يعجز عن الإلحاح.
ثمّ ظهر مجددًا من بين الأشجار.
“وصلت، سيدي؟”
تمامًا ككلّ مرّة، لم يعد لايل إلا عندما حان موعد الرحيل.
ورغم الخيمة المشتركة، كان وجهه دائمًا نقيًّا بشكل مدهش.
وحين أزاح خيمته، تبيّن أنّها لا تحتوي حتّى على بطّانية للنوم.
“إذا بدأ المطر، سنتوقّف. وبعد توقّفه نتابع الطريق.”
“نعم، سيدي!”
صاح الفرسان الخمسة بصوتٍ واحد، وصل صداه إلى الغيوم الداكنة.
***
قرار لايل بتوسيع البحث إلى الدول المجاورة لم يكن عشوائيًّا.
فهو قادر على العودة إلى قصره في أيّ وقت وأيّ مكان،
ما لم تكن هناك طاقة شيطانيّة أخرى تعيق انتقاله.
بمعنى آخر، سواء داخل الإمبراطوريّة أو خارجها، الأمر سيّان بالنسبة له.
كما أنّ هذه الخطوة تخدم خططه المستقبليّة،
وفي نظر الآخرين، تجعله يبدو أكثر حماسة واستعجالًا للعثور على لوسي.
“سيدي.”
ما إن سمع رود صوت وحشٍ يزمجر من بعيد، حتّى بدأ يُراقب المكان بحذر.
الخروج من الإمبراطورية يعني مجابهة أراضي تسرح فيها الوحوش بحريّة.
رغم أنّه ليس أمرًا جديدًا، إلا أنّ الوضع هذه المرّة كان مختلفًا قليلًا.
“عشرة وحوش من النوع المتوسّط، وتبدو هناك……”
ضيّق عينيه ليُركّز على الأفق، ومدّ عنقه قليلًا.
“عربة! أرى عربة!”
تجمّدت ملامح الفرسان، على الأرجح، قافلة أو مسافرون، وقعوا في شرك الوحوش.
وبينما ساد التوتّر على ملامح الجميع، بقي وجه لايل هادئًا، يدرس الوضع.
وحشٌ على هيئة الذئب، واقف على قدمين، يمسك بجثّة مقطوعة الرأس.
ثمّ، رمى الجثّة في فمه، وبدأ يمضغها.
عندها فقط، عبس لايل باستياء.
وليس بسبب أكله البشر، بل لأنّ المشهد… لم يرق له.
‘أتُراني في نظرك مثل تلك الوحوش؟’
ثمّ، نقر أسنانه بضيق.
“سيدي، أوامرك!”
اقتربت الوحوش، وبدأت تُحدّق بـ لايل.
هتف رود بصوتٍ يعلوه التوتّر.
“سنُشتّت انتباههم، وأنتِ يا كاميلا، انطلقي مباشرة نحو العربة وابحثي عن ناجين.”
طالما أنّ الوحوش لا تزال تحوم حولها، فثمّة أمل أن يكون هناك أحياء.
ركض حصان لايل بأقصى سرعته، وتبعه باقي الفرسان الأربعة بقيادة رود.
غررررر…
أصدر زعيم الوحوش زمجرة منخفضة، وبدأ الآخرون يتأهّبون للانقضاض.
“إن لم تتمكّنوا من قتلهم بضربة، فاستهدفوا أعينهم أو اقطعوا أرجلهم.”
ثمّ، قفز طلايل من على حصانه مباشرة وسط الوحوش،
وانقضّ أولًا على القائد، وقَطع عينيه بقوّته الخارقة،
ما جعل الذئب الرمادي يترنّح.
لكنّه لم يُغمض عينيه، بل ظلّ يحدّق بـ لايل رغم الجرح الطولي.
ثمّ… تدحرج رأسه على الأرض.
وسرعان ما بدأ الجرح يتحوّل إلى رماد.
“هجوم!”
صرخ رود، وانطلق الفرسان بزيّهم الأبيض يقاتلون.
جلد الوحوش كان متينًا، لكنّهم قاوموا بشكلٍ رائع.
وأثناء المعركة…
“ه، هناك أحد! أرجوكم! أنقذونا!”
وسط التراب والغبار، صاحت امرأة من داخل العربة.
قفزت كاميلا على العربة المقلوبة، وأجبرت الباب المكسور على الانفتاح.
“ناجية واحدة!”
سحبتها من يدها وأخرجتها.
اقترب لايل بخطى بطيئة.
“شكرًا لكم… كدتُ أموت، آه…!”
لكن ما إن نظرت إلى الجثث حولها، حتى أطبقت يدها على فمها.
كانت أفواه الوحوش لا تزال تحتوي على أطراف بشريّة لم تُهضم بعد.
“أووووغ…”
وما إن لامست الأرض، حتى ارتمت
المرأة على ركبتيها وشرعت في التقيّؤ.
تدلّت خصلات شعرها الأبيض إلى الأمام مع ارتجافها.
“…….”
توقّف لايل أمامها.
“هاه… هاه…”
رفعت المرأة رأسها ببطء، والتقت عيناها الذهبيّتان بعيني لايل.
سرت نظرة منها على جسده بالكامل.
وفي تلك اللحظة، ارتسم تغيّرٌ ملحوظ على وجه لايل.
ترجمة:لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 94"