كان لايل يُدلّك شفتَيّ بأصابعه حتى تشقّقتا، ثمّ فجأة أعلن أنّ عليه الذهاب إلى العمل، ودخل الحمّام ليغتسل.
أيّ موظّف هذا الذي يَحبس مديره ثمّ يخرج إلى العمل وكأنّ شيئًا لم يكن؟
وإذا كنتَ مصرًّا على الاغتسال، فلتذهب إلى غرفةٍ أخرى على الأقل.
أنا راشدة وأفهم كلّ شيء، لذا كلّما دخلتَ لتغتسل، تبدأ أفكارٌ مريبة بالظهور في رأسي…
رمقتُ الحمّام بنظرة ضيق، ثمّ نزلتُ من السرير وتمتمتُ بصوتٍ متأفّف:
“…حقًّا، لم يحدث شيء… أليس كذلك؟”
رفعتُ جزءًا من ملابس النوم لأتأكّد، لكن لم يبدُو أنّ هناك ما يدعو للقلق.
شعرتُ بالاطمئنان، ثمّ بلا وعي لعقت شفتيّ أثَر ما مسحه رِيير قبل قليل، فتوقّفت فجأة.
كان هناك طَعمٌ معدنيّ غريب.
هل نزفتُ من أنفي وأنا نائمة؟
على كلّ حال، لا بأس ما دام لم يحدث شيء.
صرير الباب.
لم أرد أن أتعمّق في التفكير في أمرٍ كهذا، فقرّرتُ تجاهله، ولكن…
انفتح باب الحمّام على مصراعيه.
خرج لايل وكأنّه مستعدّ ليومٍ منعشٍ جديد.
شعرُه يلمع ببريقٍ خفيف، ولم يكن عليه أثر قطرة ماء واحدة.
…آه؟ لا أثر للماء عليه إطلاقًا؟
“ماذا؟”
حين رمقته بدهشة، ابتسم برفق وسأل كأنّه لا يعلم شيئًا.
“…هل اغتسلت حقًا؟”
عند سؤالي هذا، توقّفت يد لايل عن ترتيب ياقة ردائه التي كان يُسدّيها.
“ثمّ تحرّك بصره ببطءٍ نحو الأعلى، متفحّصًا إياي بنظرةٍ غامضةٍ متسلّطة.”
نظراته كانت غامضة.
“لماذا لا تبدو مبتلًّا أبدًا؟”
هل من الممكن أنّه لم يغسل شعره؟
لكن شعر لايل بدا أنيقًا وجافًّا تمامًا، بخلاف شعري الذي يُشبه شعر كلبٍ مبتلّ.
“جفّفتُه.”
أجاب بعد لحظة من الصمت، مبتسمًا كأنّه يقول شيئًا بسيطًا.
…لقد جفّفته فعلًا؟ ولم تمرّ حتّى دقيقة على خروجك من الحمّام؟
هممتُ أن أسأله:
” هل هذا ممكن؟”
لكن توقّفتُ حين رأيتُ وجهه وقد أصبح جادًّا.
“كما قلتِ، صرتُ وحشًا. فهل من الغريب أن لا أستطيع فعل شيءٍ كهذا؟”
كان في كلمته “وحش” نبرة ثقيلة. لا يبدو أنّها مجرّد صدفة.
“أنتِ فعلًا لا تعرفين شيئًا، أليس كذلك؟”
قالها وكأنّه يُعيّرني بجهلي.
لا أعرف شيئًا؟ بل أنا أعرف الكثير!
أعرف أنّه صار على هذا النحو. وأعرف أنّ السبب هو قوى الشيطان… وأعرف… ماذا أيضًا؟
كنتُ أحاول تذكّر ما جرى في الرواية الأصليّة، لكن لم يخطر ببالي شيء آخر يخصّ لايل.
هل لأنّ ديوليتا كانت البطلة؟ لكنّي حتى لا أذكر تفاصيل علاقتها بدايلر بدقّة.
لم أُكمل الرواية أصلًا…
‘إذًا، ما الذي حصل لـ لايل في الرواية الأصلية؟’
في النصف الثاني من الرواية، كان يُشبه الأشرار، أليس كذلك؟ وغالبًا ما تكون نهاية الأشرار… الموت.
“أأنتِ الآن تشفقين عليّ؟”
وسط ارتباكي، سمعتُ ضحكة رقيقة أمامي.
كانت أقرب إلى ضحكة طفلٍ سعيدٍ لا سخرية فيها.
أنا… أشفق عليه؟
الدهشة كانت من نصيبي.
“ولِمَا أشفق عليك…؟”
وكأنّه لا يوجد من يستحقّ الشفقة إلا هو!
أنا ما زلتُ غاضبة منه، لدرجة أنّي لا أريد قبول اعتذاره، مهما قاله الآن.
“مظهرك يقول ذلك.”
ردّه بدا كأنّه يقول:
‘وإن لم يكن صحيحًا، فلا بأس’.
لكن نظراته كانت مملوءة بالأسى.
فسألتُه بتردّد:
“هل كنتَ تتمنّى أن أُشفق عليك؟”
شعرتُ وكأنّه ينتظر هذا السؤال، فردّ بثقة وكأنّ الأمر بديهي:
“ليس شفقة بالضرورة، أيّ شيءٍ غير اللامبالاة يكفيني.”
“…”
من يسمعك يظنّني كنتُ لا أبالي بك.
لكنّي كنتُ دائمًا أبذل ما بوسعي من أجلك.
وليس فقط لأنّك شخصية في الرواية الأصلية.
حين فتحتُ عينيّ بحدّة لأُعرب عن إحساسي بالظلم، تغيّر بصر لايل فجأة.
“بالمناسبة، أحبّ حين تحدّقين بي بتلك الطريقة.”
“…؟”
ما هذا الكلام المجنون الآن…؟
“اللحظة الوحيدة التي تنظرين فيها إليّ وحدي هي حين تُحدّقين بي بتلك النظرات.”
ماذا……؟
كان لايل قد اقترب منّي دون أن أشعر، ولم أتمكّن حتّى من التراجع.
امتدّت يده ولمست وجنتي، ثمّ أخذ يُمرّر إبهامه بلطفٍ تحت عينيّ.
لم أستطع أن أقول له أن يتوقّف.
بناءً على ما اختبرته في الأيام الماضية، من الأفضل تركه وشأنه عندما يبدأ بالهذيان.
فلا أحد يعلم ما قد يفعله إن استفزّه أحد.
“خاصة حين تُحدّقين بي على السرير…”
أيها المجنون، لا تقل أشياءً قد تُفهم خطأً من قِبل من يسمعك!
وما إن فكّرتُ بذلك حتى شعرتُ بتمرّدٍ داخلي، فاشتدّت نظراتي نحوه مجددًا.
“هكذا تمامًا، جيد .”
ما إن نظرتُ إليه بنظرة غاضبة، حتى ضغط بإبهامه على خدي برفق.
لم يكن الأمر مؤلمًا، لكنّه جعلني أتوتر.
فـ لايل بدا وكأنّه يُكتم شيئًا في داخله.
“جيدٌ…؟ عن أيّ ‘جيد’ تتحدّث…”
فجأة، تغيّرت ملامحه وصار ينظر إليّ بنظرة أكثر قسوة ممّا كنتُ أفعل.
“حسنًا، لن أُحدّق بك بعد الآن…”
رغم أنّ قلبي ما زال يعارض، اضطررتُ للتراجع من أجل سلامتي.
لو بقيتُ على عنادي، فقد تنتقل يده من خدي إلى رقبتي.
“ما زلتِ لا تفهمين.”
قالها وهو يضيق عينيه تمامًا كما فعل فوق السرير.
ظننتُ أنّي كنتُ أتصرف بحذر، لكن يبدو أنّي أخطأت مجدّدًا.
***
ما إن خرج لايل من الغرفة، حتّى ظهرت مَامون عبر جدار الرواق وكأنّها تنتظره.
لكن بدلًا من صينية الطعام المعتادة، كانت تحمل مكنسة بكلتا يديها.
ابتسم لايل وهو يرى ذلك، ثمّ اقترب منها ببطء.
“هل أنهيتِ تنظيف الحديقة؟”
“بالطبع.”
“لقد طردتُ الغربان أيضًا، وأحرقتُ ريشها واحدًا واحدًا.”
رفعت مَامون ذقنها بفخر وكأنّها تؤدّي واجبها بإخلاص.
“لكن، لديّ شيءٌ أودّ التأكّد منه.”
تقلّصت حدقة عينيها الطوليّة، فازداد بياض عينيها بشكلٍ لافت.
قالت بصوت حادّ، وكأنّها على وشك مهاجمة عدوّ:
“هل ذلك الشخص… بشر؟”
هُدّد جوّ المكان بسُميّة كلماتها. الغضب الذي أطلقته مَامون بدأ يُشوّه الحيّز من حولها.
صوت الانفجارات الخافتة تسرّب شيئًا فشيئًا، وتمايل شعرها في الهواء بلا جاذبيّة.
لكنّ لايل لم يبقَى ساكنًا.
“ذلك الشخص؟ أنت قليلة الأدب.”
قالها بتحذير، ثمّ مدّ يده عبر الفراغ المشوّه وأطبق على رقبتها النحيلة بقوّة.
طقطق، تكسّر.
صدر صوت كسرٍ واضح لعظام مَامون. لكنّ رأسها لم ينكسر.
بل، لم تُبدِي أيّ تأثّر بالألم.
طقطق، طق.
عاد عنقها إلى طبيعته.
ثمّ قالت بصوتٍ بارد:
“بالنسبة لي، هذا أمرٌ مهمّ.”
فأنا محاطة بعداواتٍ كثيرة.
وخاصة من قِبل باول.
“…”
حينها فقط، خفّف لايل قبضته عن عنقها.
“مع ذلك، هذا لا يعني أنّني أقف في ضغط ايضا.”
هي اختارته فقط لأنّه الأفضل بين الخيارين.
فهو يحمل قوى الملك، وربّما الوحيد القادر حاليًا على مجابهة باول.
“في الحقيقة، فكّرتُ للحظة أنّها الملك بنفسه، من شدّة هوسكَ بها…”
دغدغ، دغدغ–
“لماذا لا يُفتح هذا الباب؟ ألم تقل إنّك ستفتحه!”
صرخت لُوسي من الداخل، فقاطعت كلام مَامون.
تنهّدت الأخيرة وكأنّها توقّعت هذا مسبقًا.
وحين هدأ الصوت، عادت للكلام:
“حتى لو طُلِب منّي التمثيل، لن أتمكّن من تصرّفٍ بهذا السخف.”
فالملك الذي أعرفه لم يكن أبدًا بتلك الهشاشة.
كان مخلوقًا مثاليًّا.
وكان واعيًا تمامًا بذلك، لذا لم يكن غروره يعرف للحدود اسمًا.
أن يُشبه مخلوقٌ مثل لوسي الملك؟ مستحيل.
لا أحد سيُصدّق هذا إن رآه.
حتى من حيث الطبع، هما على طرفَي نقيض.
بل، من وجهة نظر البشر، يمكن وصف شخصية الملك بكلمة واحدة:
‘نفاية’.
“لذا، توصّلتُ إلى أنّك لست سوى منحرف لا علاج له، حبس من يُحبّه فقط لأنّه يُحبّه.”
اتّسعت عينا لايل بوميضٍ باهر، لكنه لم يُنكر شيئًا.
“لكن، ما رأيتُه البارحة لم يكن بشريًّا–”
“إنّها بشر.”
قاطعها لايل أخيرًا وأعطاها الجواب.
“…”
راقبته مَامون بنظرة شكٍّ شديد.
“إلى ماذا تنظرين؟ نظراتك تُزعجني.”
قالها لايل بضحكة ساخرة، ثمّ صرف بنظره.
“تس،”
رمقت مَامون النافذة بضيق، مستذكرةً أنّها ما دامت تحت حمايته، فهي مُلزمة بالطاعة بموجب العقد.
“ما دامت بشرًا،
فلا بأس.”
هكذا انتهى فضولها، وبدأ جسدها يذوب تدريجيًّا حتى اختفى تمامًا.
ما إن اختفت، حتّى عاد المكان المشوّه إلى حالته الطبيعيّة.
وفي اللحظة نفسها، دوّى صوت ارتجاج الباب من جديد، إذ كانت لُوسي تهزّه بشدّة.
ومع هذا الصوت، اختفت الابتسامة عن وجه لايل.
ثمّ قال بصوتٍ خافت:
“ليس بعد.”
ترجمة:لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 92"