قال ملكي إنّ أوّل مَن أطلق على أولئك اسم “شياطين” لم يكن الحاكم، بل البشر.
البشر يدّعون أنّ الشيطان كيانٌ مناوئ للحاكم، غير أنّ ما يسمّونه “شيطانًا” ما هو إلّا مخلوقٌ من مخلوقات الحاكم أيضًا.
وقد أخبرني ملكي أنّ الشياطين يعرفون هذه الحقيقة، بينما يجهلها البشر.
وكان هذا مما يرغبه الحاكم؛ لذلك، كان على الشياطين أن يلتزموا الصمت التام حيال سبب وجودهم.
من أجل الحفاظ على النظام الذي أراده الحاكم.
وفي اليوم الذي قصّ عليّ فيه هذه القصّة، طلب منّي ملكي أن أحفظ ذلك النظام.
***
يا له من مشهدٍ اشتقتُ إليه كثيرًا.
تلك الابتسامة المرتسمة على وجه لايل وهو ينظر إلى لوسي، التي كانت تعلوه وتبحث بيديها عن بشرته العارية بلهفةٍ لا تهدأ، لم يكن من الممكن أن تكون أصدق من ذلك.
لو حاول وصف مشاعره في تلك اللحظة، فسيعجز، بل لم يتبقى له من العقل ما يتيح له التعبير أصلًا.
كان واقعًا تمامًا تحت سطوة الحرارة، عاجزًا عن اختيار أيّ تعبيرٍ مناسبٍ لها.
كلّ موضعٍ تلامسه فيه يد لوسي كان يشعره بدغدغةٍ ساخنة، تكاد تُحرق جلده.
“لا تستطيعين إيجاده؟”
يد لوسي كانت تتحسّس قميص لايل المغلق بإحكام حتى العنق، كما لو كانت كفّ شخصٍ كفيفٍ يتلمّس طريقه.
وبينما كان لايل يستمتع بمشاهدتها، بدا أنّه ما عاد يحتمل، ففكّ ياقة قميصه بيده.
ثمّ أمسك بمعصمها، وجذب يدها نحو عنقه. التقت بشرتها الباردة ببشرة لايل.
ومع أنّها وجدت ما كانت تبحث عنه، لم يتغيّر تعبير لوسي إطلاقًا.
بل كأنّها تحاول فقط أن تسدّ نقصًا ما بداخلها، فغرست وجهها في عنقه مباشرة.
وعندها، شد لايل على مؤخرة رأسها بيده الكبيرة، وكأنّه يطلب منها أن تغوص أكثر.
وما إن لامست شفاهها بشرته الباردة، حتّى رفع رأسه إلى الأعلى وزفر زفرةً مكبوتة.
“هل كان الأمر هكذا في السابق أيضًا؟”
لكنّه لم يختبر هذا الإحساس من قبل، إذ لم تكن الأيّام الماضية تعرفُ طعم الحرمان الطويل.
وقتها، لم يكن هناك أيّ احتكاكٍ حميميّ بهذا الشكل، بل إنّ من كان يتصرّف بجشعٍ دائمًا هو هو نفسه.
ومع ذلك، فإنّ هذا الشعور…
“يشبه وخزًا خافتًا… كأنّه عضٌّ صامت لا يترك أثرًا، لكنّه يُوقظ شيئًا دفينًا.”
ابتسامة لايل التي كانت تتّسع أثناء استغراقه في التفكير، تجمّدت فجأة عندما سمع صوتًا واضحًا لأسنانٍ تقضم اللحم عند أذنه.
لقد صارت شفاه لوسي، التي عبرت عنقه، مستقرةً الآن عند شحمة أذنه.
‘يبدو أنّ العنق لم يعجبها.’
امتزجت أصوات القضم الرقيقة مع صوتٍ رطبٍ بشكلٍ غير منتظم.
وبدأت وجنتا لايل تحمران شيئًا فشيئًا، بينما بقي رأسه ثابتًا وهو يقدّم أذنه لها طواعية.
وحين حاول السيطرة على انفعالاته، جذب جسد لوسي بقوّةٍ إلى صدره بذراعٍ واحدة.
ارتجف جسد لوسي إلى الأمام كأنّه سيتهاوى، ونتيجة لذلك، انفصلت شفاهها عن أذنه بعد أن كانت تعبث بها بشراسة.
“هاه…”
استغلّ لايل تلك الفسحة الصغيرة، وأطلق زفرةً حارّة امتزجت بالأنين.
ثمّ، بعدما أغلق عينيه ببطءٍ وفتحها، نظر إلى لوسي التي كانت تنهض عن صدره.
عيناه شبه المفتوحتين كانتا فارغتين إلى درجةٍ تجعلك تصدّق أنّ روحه قد غادرت جسده.
وحين ابتعدت لوسي، بدأت بقعةٌ من الدم تتكوّن في أذن لايل، وانزلقت عبر عنقه.
كانت لحظةً امتزجت فيها الدهشة بالحيرة في عينيه.
لكنّه لم يُدرك ما جرى، وظنّ أنّ لوسي قد شبعت أخيرًا منه، فنظر إليها بأسفٍ وهو يعضّ شفته السفلى.
وما لبث أن سحبته يدٌ جافّة من شعره، كما لو كانت تهدّئه، وتعيده إلى الواقع.
“……”
انثنى رأسه للخلف، وظهر عنقه مكشوفًا كما حدث سابقًا.
تأمّلت لوسي عنقه الأبيض المتورّد، ثمّ غطّته بشفتيها مجدّدًا.
وكما لو أنّها بدأت تُظهر أنيابها المستديرة، عَضّت.
“عضي أعمق.”
لوسي لم تكن مخلوقةً خُلقت لتنهش اللحم، لذلك اضطُرّت لبذل جهدٍ أكبر لتمزيق عنق لايل.
لكنه، كالسابق، سلّم جسده لها طوعًا.
‘كم ستصمد هذه المرّة بعد أن تشبع؟’
رجاؤه بأن تكون الفترة قصيرة، لم يكن سوى اعترافا ضمنيّ بأنّه لم يستفق بعد.
ومع ذلك، كان يرجو أن تعود لوسي إليه مجدّدًا.
‘لا ترتكب خطأً هذه المرّة. أنتَ لست من يأكل… بل من يُؤكَل.’
ظلّ يكرّر ذلك داخله، لعلّ في ذلك تبريدًا ولو قليلًا لرأسه المشتعل.
***
وحين شبعت تمامًا، ارتمت لوسي بخمولٍ فوق جسده.
أمّا لايل، فقد كان عليه أن يُغمض عينيه بقوّة كي يُهدّئ حرارة جسده التي لم تهدأ بعد.
ثمّ أنزل يده التي كانت تحتضن خصر لوسي، وأمسك بطرف الغطاء.
“كرك-“
وسط أنفاسه اللاهثة، سُمع صوت فتح الباب.
عندها فقط فتح لايل عينيه، ونظر نحو الباب.
“خفض بصره قليلًا، فرأى من خلال شقٍّ ضيّق ثعبانا بيضاء ينساب نحوهما بهدوء.
تقدّم برشاقةٍ فوق السرير، ثمّ اختبأ بين كاحليه، وكأنّه يهمس:
“لقد عدت، وانتهت مهمّتي.”
***
“أشعرُ بعدم راحة. الجوّ أبردُ من المعتاد أيضًا…”
“أوه…”
أصدرتُ صوتًا متأوّهًا، وفتحتُ عينيّ، لأجد وجهي مضغوطًا بشيءٍ صلب.
‘أها، كنتُ نائمة على بطني، لهذا شعرتُ بالانزعاج.’
ومع ذلك، كان جسدي يشعر بخفّةٍ غير معتادة.
‘لكن… ألم أكن أركضُ في الممرّ بحثًا عن الدرج؟ هل أغمي عليّ مجدّدًا؟’
‘إن كان كذلك، فلا شكّ أنّ هذا الشيء الصلب تحت خدي هو الأرضية.’
ولم أعد أتفاجأ بمثل هذه الأمور.
سريعًا ما استوعبتُ وضعي، وأسندتُ يدي إلى الأرض لأرفع جسدي فجأة.
“……هاه؟”
لكنّ الملمس لم يكن كالأرض تمامًا.
كان صلبًا، نعم، لكنّه بدا أيضًا طريًّا نوعًا ما.
ومع تلاشي الضباب عن بصري، رأيتُ يدي مستقرّةً على… صدرِ شخصٍ ما.
“آآآه!”
صرختُ بحدّة، وقفزتُ من فوقه متراجعة إلى أقصى طرف السرير.
ثمّ نظرتُ إليه بعيونٍ مرتجفة.
إنّه لايل.
تجمّدتْ الكلمات على شفتيّ.
‘ما هذا…؟ لماذا هو هنا؟’
‘هل يمكن أنّني ضللتُ الطريق في الممرّ ودخلتُ الغرفة الخطأ؟’
سارعتُ إلى تأمّل الغرفة. لكنّها بلا شكّ، غرفتي التي كنتُ محتجزةً فيها.
“……”
يعني، الشخص الذي دخل المكان الخطأ هو لايل، وليس أنا.
‘حسنًا، قد يكون قديم العهد بهذه الغرفة، وربّما أخطأ ودخلها من شدّة التعب.’
أو… ربّما وجدني فاقدة الوعي في الممرّ وأعادني إلى هنا بنفسه.
رغم أنّي لا أتذكّر شيئًا من ذلك.
لكن، كلّ هذا جانبًا، المسألة الأهمّ الآن هي:
‘لماذا كنتُ نائمة فوقه؟’
‘هل يعقل أنّني أنا من… انقضّ عليه؟’
كوني كنتُ في الأعلى، جعل تفكيري يسير في هذا الاتّجاه تلقائيًّا.
‘كنتُ قد حذّرته ألّا يتجاوز حدوده… والآن أنا التي تجاوزت؟!’
أمسكتُ بشعري المتناثر، وتفقّدتُ لايل من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه.
لحسن الحظ، باستثناء الأزرار المفتوحة عند عنقه، كانت ملابسه سليمة.
‘نعم، معقول. لماذا كنتُ لأهجم عليه أصلًا؟ وهل يمكن لشخصٍ مغمى عليه أن يهجم على أحد وهو بوعيه؟’
تنفّستُ الصعداء، وشعرتُ بقطرات العرق الباردة التي بلّلتْ غرّتي.
مسحتُ جبيني بظاهر كفّي، وأعدتُ النظر إلى لايل.
“……”
وإذا بعينيه مفتوحتين وهو يحدّق في وجهي دون أن أدري متى استيقظ.
تيبّسَت مؤخرة رقبتي فورًا.
حاولتُ أن أفركها لأخفّف التوتر، لكنّ ذلك لم يُجدِي نفعًا.
وبينما كنتُ أتلعثم بصمت، جلس لايل ببطء، وضاقت عيناه.
“لِ-لماذا…؟”
‘أنا… أنا لم أفعل شيئًا!’
‘أقسم أنّني لم أفعل أيّ شيء… لكنّ نظرته تلك تجعلني أشعر وكأنّي مذنبة.’
“لِمَاذا لَمْ تذهب إلى غرفتك؟ لِمَا… آه، صحيح… هذه غرفتك بالأصل…”
‘لماذا هذا الجوّ محرج هكذا؟’
حاولتُ التخفيف من التوتّر بكلماتٍ عشوائيّة، لكنّ شيئًا لم يتغيّر.
وبينما كنتُ أتفادى عينيه، انزلقتْ نظراتي إلى ياقة قميصه، التي لم تكن ظاهرةً حين كان نائمًا.
هناك، كانت بقع دمٍ خفيفة متناثرة، أبرزها واحدة في الداخل الأيسر، تبدو بوضوح أنّها من دمه هو، لا غيره.
“أأنتَ مصاب؟”
العادة القديمة لا تُمحى بسهولة، فسألتُه تلقائيًّا.
وعندها، ارتجفتْ حاجباه بانزعاج.
“آه… لا بأس. يبدو أنّ الجرح قد التأم أصلًا…”
ولم ألبث أن أدركتُ عبثيّة سؤالي، فهززتُ رأسي كأنّي فهمت، وهممتُ بالنزول من السرير.
لو لم يُمسك لايل بمعصمي فجأة ويجذبني إلى الخلف.
فلوف!
اصطدمتُ بالغطاء الناعم.
“……؟”
“انفرجَ فمي لا إراديًّا من فرط الدهشة.”
وحاولتُ تجاهل خفقان قلبي الذي يعترضُ على هذا المشهد، ونظرتُ إلى لايل الذي كان يحدّق بي كأنّه يسأل:
“ما الذي ستفعلينه الآن؟”
وتقاطعت نظراتنا للحظة، ثمّ بدأ فجأة يمسح فمي بيده مرارًا.
“مه، لمَ، ممه، ماذا تفعل؟!”
كان يمسح، لا يعبث، واضحٌ من حركة يده.
وبعد لحظاتٍ، سحب يده أخيرًا.
رمشتُ بعينَيّ وأنا أحدّق في شفاهي التي صارت تؤلم، ثمّ سألته بوجهٍ جاد:
“هل كانت هناك آثار لعاب؟”
‘كان يمكنك إخباري، لكنتُ مسحتها بنفسي.’
“كان هناك… شيءٌ يشبهه.”
أجاب لايل بصوتٍ غامضٍ ومراوغ.
‘شيء يشبهه…؟ مثل ماذا؟’
ترجمة:لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 91"