أطلقت ديوليتا تنهيدةً طويلة، وهي جالسة تستريح عند نافورة الساحة.
وقد كانت تنهيدتها مشبعةً بالقلق والتوتّر. وعلى بُعدٍ بسيطٍ منها، راقب أحد فرسان دوقيّة مارسِين ملامح وجهها بوجهٍ حائرٍ وقلق.
فهو الآخر كان مضطربًا من حال الآنسة، التي لم تهدأ لحظةً واحدة في بحثها المتواصل عن الآنسة لوسي.
‘ماذا لو سقطت أرضًا قبل أن تعثر على الآنسة لوسي حتى؟’
زفر الفارس تنهيدةً قصيرة وهو ينظر إليها، ثمّ ما لبث أن بدا وكأنّه قد اتّخذ قرارًا وتقدّم نحو ديوليتا، متحدّثًا بصوتٍ مراعٍ:
“سيّدتي، لمَ لا تَدَعين أمر البحث عن ماركيزة سويينت لفرسان الماركيزة والفرسان أمثالنا، وتعودين الآن إلى القصر؟”
في الواقع، ما كانت ديوليتا لتفيد كثيرًا في عملية البحث عن لوسي من الأساس. ولهذا، حرص الفارس على أن يُلطّف عباراته قدر الإمكان وهو يطلب منها العودة.
“لكن…….”
تردّدت ديوليتا، وقد تورّمت قدماها من فرط الوقوف، غير قادرةٍ على مغادرة المكان كما لو أنّ قدميها رُبطتا به.
كانت ديوليتا تدرك جيّدًا أنّه لا بدّ من العودة في وقتٍ ما.
فلو تأخّرت أكثر، فلا شكّ أنّ والدتها ستنفجر غضبًا. إذ كانت تكره بشدّة أن يُهدر وقت ابنتها دون فائدة.
“لو أنّه قد حصل شيءٌ للماركيزة فعلاً…….”
منذ أن وصلها خبر اختفاء لوسي، لم تنعم ديوليتا بليلةٍ واحدة من النوم الهادئ.
قد يرى البعض قلقها هذا مبالغًا فيه، خاصةً أنّ لوسي ليست أختها بالدم، لكن بالنسبة لها، كانت لوسي بمثابة أختٍ حقيقيّة.
وكان التوقيت أيضًا سببًا إضافيًا في شعورها بالذنب.
فلقد اختفت لوسي بعد لقائهما الأخير مباشرةً، ولم تسامح ديوليتا نفسها لعدم بقائها معها حينها.
وهي لا تعلم حتّى كيف ولماذا اختفت لوسي.
نظر الفارس إلى ديوليتا المغمورة بالقلق، وشعر لوهلة أنّه قد يكون قاسيًا عليها، لكنّه ما لبث أن تمالك نفسه وذكّرها بواجبه.
“لقد قيل إنّ الإمبراطوريّة سترسل تعزيزات عمّا قريب، لذا لا داعي لأن تُتْعِبِي نفسكِ بهذا الشكل يا سيّدتي…….”
ولمّا كان يُحاول إقناعها مرّةً أخرى، فجأةً، خيّم ظلّ ثقيل فوقهما معًا.
وحين ارتبكت ديوليتا من ظهور شخصٍ غريبٍ دون سابق إنذار، تقدّم الفارس سريعًا ليحميها.
فنظر صاحب الظلّ إلى الفارس، وبدا كمن أُعجب بوقوفه في وجهه بصفته حارسًا مخلصًا.
“هل أفزعتُكما بظهوري المفاجئ؟”
قالها دايلر وهو يهزّ كتفيه بابتسامةٍ خفيفة. وحين تحقّق الفارس من هويّته، تنفّس بعمق وتراجع إلى الخلف، وقد بدا عليه الانزعاج التام.
“ما زلتَ كالريح، لا يُمسك لك طريق.”
“غالبًا ما أسمع هذا الوصف.”
“مديحٌ مباشرٌ هكذا يُحرجني، بصراحة.”
قال دايلر ضاحكًا بحيويّة، لكنّ الفارس ازداد وجهه عبوسًا مع كلّ كلمة.
‘أوقعتُ نفسي مع شخصٍ مزعج.’
وقد ظهر كلّ ذلك جليًّا على ملامحه.
“السير دايلر؟”
نادته ديوليتا بصوتٍ مرتابٍ بعدما تعرّفت إليه وهي تقف خلف الفارس.
فأجابها بابتسامةٍ مشرقة، واضعًا يده اليمنى فوق صدره وهو ينحني بأدبٍ واحترام:
“يسعدني أنّكِ لا زلتِ تذكرينني، إنّه لشرفٌ كبير.”
حين أدرك الفارس أنّ بينهما معرفةً سابقة، ابتعد عنهما بخطوات، وقد بدا أنّه لم يُحبّ ذلك كثيرًا.
“اللقاء الأوّل كان… قويًّا للغاية.”
فدايلر، بالنسبة لديوليتا، كان ينتمي لنوعٍ من الناس لم تتعامل معه طوال حياتها.
ولهذا، علِق تصرّفه الغريب ذاك في ذهنها رغماً عنها.
“أنا… عادةً لا ألاحظ هذه الأمور كثيرًا، لكن… هل يمكن أنّكِ وقعتِ في حبّي من النظرة الأولى؟”
“أبدًا.”
“فهمت.”
صوت ديوليتا كان هادئًا لكنّ نبرته كانت حازمة، وقد ردّت عليه وكأنّها سئمت من سخافاته.
ورأى دايلر ملامح وجهها وقد تصلّبت، فهزّ رأسه بتفهّمٍ دون أن يُبدي انزعاجًا.
“لكن، هل هناك سبب لهذا اللقاء؟ هل هناك ما تودّ أن تقوله لي؟”
لم تكن ديوليتا في مزاج يسمح لها بسماع مزاحٍ كهذا. رغم أنّ دايلر نفسه لم يقصد المزاح.
“لا، كنتُ مارًّا من هنا، ولمّا رأيتكِ… فقط رغبتُ في إلقاء التحيّة.”
“…….”
كان جوابه أكثر بساطةً ممّا توقّعت. فوضعت ديوليتا يدها على جبينها تُحاول أن تَكتم صداعها.
قلة النوم، والحديث مع شخصٍ غير متوقّع، كانا كفيلَين بجعل رأسها ينفجر.
“أنا من النوع الذي لا يستطيع كبح رغبته في الحديث، كما تعلمين.”
وكان دايلر، كعادته، قد صفّف شعره الورديّ اللامع وجدله برفق، وألقاه فوق كتفه الأيمن.
ثمّ جلس إلى جانب ديوليتا واضعًا ساقًا فوق الأخرى. ومن هيأته، كان واضحًا أنّه لا ينوي الرحيل قريبًا.
سكن الصمت بينهما لبعض الوقت.
وما لبث دايلر أن قطعه، وقد شعر بنظراتها تُلاحقه، فسألها بفضول:
“هل هناك ما يشغل بالكِ؟”
“لماذا تسألني هذا……؟”
“لأنّ ملامحكِ توحي بذلك. ومن موقعي كمن نال فضلاً منكِ، لم أستطيع تجاهل وجهكِ الممتلئ بالهمّ.”
وفي المقابل، لم يكن على وجه دايلر أيّ أثرٍ للحزن أو القلق، بل بدت قسماته مشرقة، كمن لا يعرف معنى التوتّر.
ولهذا، شعرت ديوليتا أنّها لا تريد الحديث معه أكثر.
فهم لم يلتقيا سوى مرّتين، فلماذا تُشاركه شيئًا كهذا أصلًا؟
“يقولون إنّ الحزن، إن قُسِم على اثنين، يخفّ.”
“…….”
ء”ورغم أنّني أؤمن بالعكس تمامًا، ظننتُ أنّكِ من أولئك الذين يجدون عزاءهم في المشاركة… لذا قلتُ ما قلت.”
لكنّ ديوليتا شعرت بنفورٍ أكبر من مشاركته أيّ شيء.
فما هي إلا مسألة وقت، وسينتشر خبر اختفاء الملركيزة، ليس في الأوساط المخمليّة فحسب، بل في أرجاء الإمبراطوريّة كلّها.
“هاه…….”
تنفّست ديوليتا تنهيدةً ثانية. وكان دايلر ما زال يرمش وينظر إليها، بانتظار ردٍّ منها.
“أقدّر اهتمامك. لكن… ما من داعٍ لأحدٍ غيري أن يعرف بالأمر.”
كان صوتها حازمًا على غير عادتها. لكن دايلر، الذي لم يلتقِي بها سوى مرّتين، لم يُدرك هذا التغيّر.
بل في الأصل، لم يكن من النوع الذي يستشعر أحاسيس الآخرين.
وفي النهاية، وقفت ديوليتا من مكانها وتابعت:
“إن قُدّر لنا أن نلتقي مرّة أخرى، حينها…”
أنهت كلامها بذلك، ثمّ غادرت مع الفارس دون أن تلتفت إلى تحيّة دايلر.
وبقي دايلر وحده، يحكّ مؤخرة رأسه، ولا يبدو أنّه فهم شيئًا ممّا حدث.
“أنا لا أعرف كيف أقترب من الآخرين.”
كان دايلر معتادًا على أن يأتي الناس إليه، لا أن يذهب هو إليهم. فبالنسبة له، المبادرة سهلة، لكن ما بعد ذلك كان دائمًا مربكًا.
إذ كان يفتقر إلى واحدة من أهمّ الفضائل المطلوبة في التعامل مع البشر.
“كلّ من تحدّثتُ إليه مؤخرًا يُظهر نفس التعبير الغريب…؟”
ما ينقص دايلر… هو شيء من الرقة واللّطافة في الإحساس.
***
وبينما بدأتُ أشعر بالملل من مجرّد التفكير، وأيقنتُ أنّ الحديث مع أحدهم أفضل، فُتح الباب فجأةً.
“……؟”
كان الباب مفتوحًا بالكامل. لكن رغم أنّه المشهد الذي لطالما تمنّيتُه، شعرتُ كأنّني فأرٌ يوشك أن يقع في فخ.
نظرتُ إلى لايل بحذر، وكان يُزرّر أزرار كُمّه بابتسامةٍ عذبة.
“ألم تكوني تتمنّين الخروج؟”
هو كذلك، ولكن…
أن تفتح لي الباب فجأة؟ من المستحيل أن أصدّق ذلك ببساطة.
نزلتُ من السرير بهدوء، وأخذتُ بعض الخطوات للخلف. لايل كان واقفًا قرب الباب، وبدا مستعدًّا للسماح لي بالخروج في أيّ لحظة، دون حذر.
“ظننتُ أنّ هذا أفضل من أن تُعيدي تكرار محاولات الهروب الخطيرة.”
“…….”
أنتَ بنفسك الخطر الأكبر هنا.
لكنّه لم يكن يرى نفسه كذلك، بل كان يُبدي رحمةً مزيّفة، كأنّه يُعرب عن قلقه الحقيقي من محاولتي للهرب، فترك لي الباب مفتوحًا.
ما الذي يُخطّط له؟!
حدّقتُ فيه بعيونٍ مشبوهة. وما لبث أن أكمل زرّ كُمّه، حتّى اقترب منّي بخطى حازمة.
اِهتزّ جسدي لحظةً.
هل اقترب لأنّني رمقته بنظرة حادّة؟!
“لوسي، أعطيني يدكِ.”
هل يعتبرني كلبًا وفيًّا فحسب؟!
منذ أن أصبح مظلمًا من الداخل، صار يملك هوسًا غريبًا بيدي.
كما لو أنّه، إن لم يُمسك بها، فسيبدأ بالبكاء كطفلٍ صغير.
‘الآن وقد فكّرتُ في الأمر… لم أرَى لوسي الأصلية و لايل يمسكان ايدي بعضهم في أيّ حلم.’
من مظهرهما، لم يكن يبدو عليهما أنّهما مقرّبان في الأصل.
لايل كان يتبع لوسي بإخلاصٍ أعمى، لكنّها لم تكن تُقابله بحفاوة، بل كانت تأخذ طاعته كأمرٍ مسلّم به.
ومع ذلك، كانت تزور قصر مارسِين باستمرار.
حين بدأتُ أُفكّر في سلوك لوسي غير المفهوم، عبس وجهي قليلًا، لكن لايل التقط لحظة شرودي وسرعان ما وجّه لي السؤال مجددًا:
“قلتُ أعطيني يدك، ما الذي يُشغلكِ؟”
“آه؟ أ… حاضر.”
خشيتُ أن يتجهّم فجأة، فأمسكتُ بيده بسرعة. ومع ازدياد خنوعي، بدأتُ أشعر بالضيق من نفسي.
لكنّ ما شغلني لم يكن ذلك.
‘جسده… بارد جدًّا.’
ربّما لأنّ الجوّ كان سلميًّا على غير العادة، شعرتُ ببرودة جسده بكلّ وضوح.
كانت حرارته أبرد بكثير من حرارة البشر.
وكان هذا بحدّ ذاته غريبًا، ومع ذلك، شعرتُ أنّ هذا البرد يليق به.
لكن وكأنّ أفكاري تلك كانت مثار سخرية، إذ إنّ شيئًا له نفس حرارته بدأ يزحف من يده إلى يدي، ثمّ أخذ طريقه إليّ.
“إييييك…!”
صرختُ وسحبتُ يدي سريعًا، وهذه المرّة، تركها دون مقاومة.
لكنّ ما أرسله إليّ لم يكن عاديًّا.
فالثعبان استقرّ فوق ذراعي، وبدأت تلتفّ حولها.
“من الآن فصاعدًا، عندما أكون غائبًا، الزمي البقاء بجانبه.”
بمعنى آخر
، فتح لي الباب… ليُرسل حارسًا للمراقبة.
“آه… أُووف.”
جلستُ متأفّفة بوضوح، والثعبان لا يزال يلتفّ حول جسدي، ويُقحم رأسه في وجهي بوقاحةٍ لا تعرف الخجل.
كنتُ قد قلتُ إنّ الحديث أفضل من الانغماس في الأفكار، لكن لم أقصد التحدّث مع ثعبان!
ترجمة:لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 88"