لا أعلم متى غفوتُ، أو لعلّي أغمي عليّ من جديد. لكنّني كنتُ مغمضة العينين. غير أنّ ذهني صافٍ تمامًا، ما يعني أنّ هذا لا شكّ…
“لوسي، صرتِ تزوريننا كثيرًا في الآونة الأخيرة، أليس كذلك؟”
ما إن أيقنتُ بأنّني سأحلم مجدّدًا بحلمٍ يخصّ لوسي من الرواية الأصليّة، حتّى سمعتُ صوتًا اشتقتُ إليه كثيرًا.
أُختي ديوليتا؟
وقبل أن أغرق في الحنين، فتحتُ عينيّ دفعة واحدة.
ولمّا رأيتُ مؤخرة رأسها المألوفة، كدتُ أنفجر بالبكاء.
أُختي! أُختي، اشتقتُ إليكِ! اسمعيني فقط!، أُختي…!
بما أنّني لم أرَى وجهًا بشريًّا طوال أسبوعين تقريبًا، عدا لايل البارد و وجه مَامون القاتم، فقد تضاعف شعوري بالشوق.
نسيتُ تمامًا أنّه حلم، فنهضتُ على عجل وركضتُ نحو أُختي التي كانت تُدير ظهرها لي.
أردتُ أن أحتضنها من الخلف بكلّ ما أوتيتُ من شوق، لكن وكما هو متوقّع من حلم، جسدي مرّ من خلال جسدها وسقطتُ أرضًا.
لحسن الحظ أنّه كان حلمًا، فلم أشعر بأيّ ألم.
وحين رفعتُ رأسي، وقعت عيناي على النسخة الصغيرة منّي، أي لوسي من الرواية الأصليّة، وهي تنظر إلى أُختي.
ويبدو أنّها قد وصلت لتوّها إلى قصر الدوق، إذ كانت عربة منزلنا لا تزال متوقّفة خلفها.
وحيث إنّ أُختي موجودة هنا، فلا بدّ أنّ لايل أيضًا قريب.
لكن، وعلى عكس ما توقّعت، لم أره في أيّ مكان مهما نظرتُ حولي.
حسنًا، لم أكن معه في كلّ الأوقات أصلًا. فجلستُ بهدوء وراقبتُ الاثنتين.
“مرحبًا، الآنسة مارسِين.”
بدلًا من الردّ على سؤال ديوليتا، بدأت لوسي الأصلية بالكلام الرسميّ.
كان مظهرها في غاية الرصانة والغرابة، حتى شعرتُ بالحرج من تصرّفها بهذا الوجه الذي هو وجهي!
“يمكنكِ مناداتي بأُختي.”
قالت ديوليتا والاحمرار يغمر وجنتيها.
والآن حين أتذكّر، يبدو أنّ أُختي كانت، في ذلك الوقت كما الآن، تتوق لسماع كلمة “أُختي” منّي.
“لا بأس، لا أرى سببًا لذلك.”
لوسي الصغيرة ردّت برفضٍ قاطع، مصحوبٍ بابتسامة لبقة.
كانت شخصيّتها مذهلة فعلًا.
‘هل تعيشين وحدك في هذا العالم أم ماذا؟ أنا، حين قالت لي أُختي هذا، شعرتُ أنّني حصلتُ على أُختٍ حقيقيّة، فصرتُ أناديها “أُختي” طوال الوقت.’
“أه… فعلًا؟”
لمّا رأيتُ ملامح الحزن على وجه أُختي، غمرني شعورٌ بالذنب.
‘لا تقلقي يا أُختي، سأظلّ أناديكِ أُختي دائمًا، فلا تحزني…’
“إذًا، على الأقل، هل يمكنكِ مناداتي بالآنسة ديوليتا بدلًا من الآنسة مارسِين؟”
اتّضح أنّ لأُختي بعض العناد أيضًا.
نظرتُ إلى لوسي الأصلية وكأنّي أقول: ‘كيف تجرئين على الرفض أمام هذا الرجاء؟!’
“قبل ذلك، أودّ أن أطرح سؤالًا، هل تسمحين؟”
إن كنتُ واثقة من شيء واحد، فهو أنّكِ لن تحصلي على أصدقاء غير لايل بهذه الطريقة.
وبينما كنتُ أراقبها بتأفّف، ابتسمت أُختي بلطافة وكأنّها تقول:
“اسألي ما شئتِ.”
“سمعتُ أنّكِ تساعدين لايل في دراسته.”
“أوه؟ نعم، صحيح.”
“هل كان هذا ما يُقلقك؟ لوسي، هل ترغبين في الانضمام إلينا؟”
ظهر ذلك بوضوح على وجه أُختي التي أشرقَت فجأة.
لكنّ قلبي انقبض فجأة حين فكّرتُ في أن دَايْلَر سيأخذها. مهما اختلف تصرّفه مع أُختي، فإنّ طباعه مريبة فعلًا.
“أقدّر لكِ العرض، لكن أعتذر. فأنا أعرف كلّ شيء بالفعل.”
“أه… حقًا؟”
من أين أتتكِ هذه الثقة العالية بالنفس؟
“ثمّ… الماركيزة منعتني من الدراسة لأكثر من ساعتين في اليوم.”
“الماركيزة؟”
“نعم، لا أعلم السبب تحديدًا.”
هزّت كتفيها الصغيرة وكأنّها تقول إنّها لا تفهم، وأنا صُدمتُ مجدّدًا.
‘أنتِ تدرسين ساعتين كاملتين في اليوم…؟’
أنا في طفولتي كنتُ لا أفعل شيئا سوى اللعب! فعلاً، لوسي الأصليّة تختلف عنّي في كلّ شيء.
“ربّما… لأنّها أرادتكِ أن تعيشي كطفلة في مثل سنّكِ.”
صحيح! وأنا أيضًا كنتُ ألبّي رغبة جدّتي في أن أكون طفلة مرحة، لا أنّني كنتُ أحبّ اللعب…
حاولتُ تبرير نفسي داخليًّا، لكن ضميري وخزني، فتوقّفتُ عن ذلك.
لأكون صادقة، أنا فقط كنتُ أحبّ اللعب، لا أكثر.
“همم…”
رغم إجابة أُختي الواضحة، لم تبدُو لوسي راضية. وبعد لحظة من الصمت، ابتسمت فجأة وقالت:
“هل كنتِ كذلك أيضًا، آنستي؟”
“…أنا؟”
“نعم، أتساءل إن كنتِ كذلك حين كنتِ في مثل سنّي.”
“…”
في تلك اللحظة، تجمّد وجه أُختي التي لطالما كانت تبتسم بلطف.
‘يا لكِ من…’
أنا نفسي شعرتُ بالارتباك، فكيف بها؟
“أنا أيضًا، في ذلك السنّ، كنتُ قليلا اد…”
‘لمَ تجيبينها؟! تجاهليها فحسب…!’
ربّما السبب أنّ الدوقة لم تكن تُجبرها على الدراسة كثيرًا قبل قدوم لايل.
كما أنّ أُختي الطيّبة حتمًا تحاول اختيار كلماتها بعناية، مراعاةً لـ لايل الغائب عن هذا اللقاء.
لستُ أدري إن كانت قلقة من أن تنقل لوسي الكلام إلى لايل، أو أنّها ببساطة لا ترغب في تحميله اللوم.
لكن ما هو مؤكّد، أنّ أُختي كانت غير مرتاحة بهذا الموضوع.
“في الحقيقة، سألتُ هذا السؤال لهذا السبب.”
“ها…؟”
“لأنّني، لو كنتُ مكانكِ، لما استطعتُ التصرّف مثلكِ.”
كان في كلمات لوسي الأصليّة معنى ضمنيّ عميق. وإن فُسّرت ببساطة، فإنّها تقول: ‘لو كنتُ مكانكِ، لما ساعدتُ لقيطا قد يهدّد موقعي.’
وما زاد الطين بلّة، أنّ لوسي حرصت على اختيار كلماتها مراعاةً للألقاب، ما أظهر دهاءها الكبير.
“ذاك… ليس صحيحًا، عندما تحصلين على أخ صغير، قد تتغيّرين أنتِ أيضًا…”
إن كنتُ أنا قد فهمتُ المعنى، فلا شكّ أنّ أُختي قد فهمته كذلك.
لكنّها، رغم ذلك، أصرّت على قول ما هو طيّب.
“ربّما… كلامكِ صحيح. قد لا أُدرك الأمر تمامًا لأنّه لم يحصل هذا لي بعد.”
لوسي أيّدت كلامها بشكل غير متوقّع، لكن الابتسامة المشاكسة ما زالت على وجهها.
أما أُختي، فلم تكن تملك الوقت للتفكير بتلك النظرة الماكرة، وبدت سعيدة لمغادرة هذا الموضوع أخيرًا.
‘لمَ تطرح لوسي مثل هذا السؤال على أُختي؟ لا أفهم!’
كنتُ أتوسّط الاثنتين، غارقة في التفكير، حين…
“لوسي!”
كان لايل يركض نحونا من بعيد.
فالتفتت كلّ من لوسي وأُختي نحوه لا إراديًّا.
“سأذهب الآن.”
انحنت لوسي برأسها قليلًا تجاه ديوليتا، ثم مرّت إلى جانب لايل الذي كان يركض نحوها، وتقدّمته.
توقّف لايل لحظة مذهولًا وهو يراها تمرّ، ثمّ أسرع خلفها وسأل:
“لوسي، عن ماذا كنتِ تتحدّثين مع أُختي؟”
اقتربتُ منهما وحدّقتُ بهدوء، حين ردّت لوسي ببرود:
“ولِمَ تهتمّ أنتَ بالأمر؟”
عادةً، كنتُ سأقول:
‘هل سيؤذيكِ لو أخبرتِه؟’، لكن بما أنّ الحديث كان حسّاسًا، بدا هذا الردّ الفظّ أفضل فعلًا.
وأتمنّى من كلّ قلبي ألّا تخبره بما دار بينهما.
“لأوّل مرة أراكِ مستمتعة هكذا…”
على ما يبدو، لم أكن الوحيدة التي لاحظت ذلك. حتى لاي الذي كان شقيا في صغره، قالها.
“ليس أمرًا مهمًّا.”
قالتها وهي ما زالت تبتسم.
وفجأة، تداخلت تلك الابتسامة مع ابتسامة لايل الشرّيرة، تلك التي يرسمها أحيانًا وهو يرمقني بنظرة غامضة تُجيد العبث بأعصابي.
“لن تخبريني…؟”
سأل لايل مجدّدًا.
“أنتَ اليوم عنيد فعلًا.”
ردّت وهي تنظر إليه بضيق، فارتجف جسده على الفور.
فقط لأنّه كرّر السؤال مرّتين، أزالت ابتسامتها وحدّقت به بجمود.
“لكنّكِ، وأنتِ معي، دائمًا ما تبدين ضجرة…”
قالها وهو يحرّك أصابعه، وفي عينيه الذهبيّتين بريقٌ من الحزن والخذلان.
رغم أنّه لا يجوز، شعرتُ تجاهه بقليلٍ من الشفقة.
‘صحيح، قد يكون تغيّر الآن، لكنّه في الطفولة لم يكن مذنبًا بشيء. لا بأس إن شعرتُ ببعض التعاطف مع لايل الطفل.’
“هاه…”
زفرت لوسي بتنهيدة متأفّفة، ثم أزاحت شعرها للخلف وقالت:
“كنّا نتحدّث عن الحياة، لا أكثر.”
لحسن الحظ، بدا أنّها لا تنوي إخبار لايل بتفاصيل ما دار بينهما.
“هاه…؟”
“على أيّ حال، لن تفهم إن شرحتُ لك.”
“لكنّني بدأتُ أدرس مؤخرًا…”
“وماذا في ذلك؟”
“إن درستُ أكثر، هل ستحدّثينني عن الحياة أيضًا؟”
‘أنت لا تعرف حتى ما معنى “الحياة”، أليس كذلك؟’
هذا واضح من وجهه البريء.
“وأنا أراك الآن، يبدو أنّ الأمر سيتطلّب وقتًا طويلًا.”
قالتها لوسي بجفاء، فأصاب الخيبة وجه لايل.
“أنا فقط… أردتُ أن أُسعدكِ أيضًا…”
“…”
أنا ولوسي كذلك، كلانا صمتنا لحظة أمام كلامه النقيّ.
لو كنتُ مكانها، لكنتُ بالغتُ في مدحه.
لكن، كيف ستردّ لوسي يا
ترى؟
نظرتُ إليها بطرف عيني، كانت تحدّق به بنفس الملامح الخالية من أيّ انفعال.
وساد الصمت بينهما، قبل أن تقول:
“حين أراك هكذا…”
“أه…؟”
“تبدو فعلًا كأنّك تحفة فنيّة…”
لكنّ هذه الجملة الغريبة التي خرجت من فمها، لم أفهمها لا أنا ولا لايل.
ترجمة:لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 87"