كان من المستحيل أن أهرب من هذا المكان وحدي. لهذا، كنتُ أتمنّى أكثر فأكثر أن يأتي أحدهم من قصر سويينت للبحث عنّي.
لكن لماذا لا يُسمع لي أيّ خبر؟
هل يمكن أنّهم نسوا وجودي…؟
أسندتُ ظهري إلى الباب وضممتُ ركبتيّ، وانتابني شكّ منطقيّ.
ولم يظهر لايل حتّى الآن، رغم أنّ الليل قد أوشك أن ينقضي.
هل هذا الحبس حقًّا سيساعدك في جعلي أحبّك…؟
صحيح أنّني، كما أراد لايل، لم أعد أتوقّف عن التفكير فيه، لكنّ كلّ تلك الأفكار لم تكن إيجابيّة أبدًا.
“……”
في مثل هذا الوضع، من الطبيعي أن أشتاق إلى أحدٍ ما في الخارج، لكنني الآن لم أعد أجد شخصًا أشتاق إليه.
كنتُ أفتقد ديوليتا و سارة، لكن ليس بشعورٍ من التعلّق والضياع.
لو كان شخصٌ آخر هو من حبسني، ألن يكون سوى لايل هو هذا الشخص؟
أسندتُ ذقني على ركبتيّ وعبستُ بشفتيّ.
كلّما طالت فترة بقائي وحدي، كلّما ازدادت الأفكار التافهة في رأسي.
“آه!”
وبينما كنتُ أفكّر في ما إذا كان ينبغي أن أستسلم لأفكارٍ أكثر سوداويّة، فُتح الباب الذي كنتُ أتكئ عليه، فسقطتُ إلى الأمام تلقائيًّا.
“حان وقت العشاء.”
حين كنتُ ممدّدة على الأرض، سمعتُ صوت مَامُون الرتيب، صوتٌ لا يمكن مقارنته حتّى بساعةٍ جدارية.
عندما أدرتُ رأسي وحدّقتُ فيها، نظرتْ إليّ مَامُون من أعلى بوجهٍ خالٍ من التعبير وقالت:
“سمعتُ أنّ الأكل على الأرض هو من أفعال البهائم ذات الأرجل الأربع.”
ومن قال إنّني سأأكل على الأرض؟
ثمّ إنّ هذا من بديهيّات آداب الطعام التي يعرفها أيّ إنسان، ولا تحتاج لمن يُذكّرك بها.
“إن كنتِ ترغبين في الانحراف عن القواعد من شدّة الضيق، أيمكنني أن أتظاهر بعدم رؤيتكِ؟”
لا، لا داعي لذلك…
وبينما كنتُ أجادل كلام مَامُون في داخلي، كانت عيناي معلّقتين على الباب المفتوح خلفها.
إن كنتِ تنوين التظاهر بعدم الرؤية، فليتكِ…!
نهضتُ بسرعة عن الأرض، وكنتُ على وشك الانزلاق عبر الفتحة بين البابين.
تشششق-.
“……”
سقطت الأواني التي كانت مَامُون تحملها على الأرض مُحدثة صوتًا حادًّا. وبالطبع، تبعثرت الأطعمة التي فيها.
كانت مَامُون قد شعرت بمحاولتي للهرب، فاعترضت طريقي بالطبق المعدني الذي كانت تحمله.
نظرتُ إلى ذلك الطبق المسطّح الممتدّ حتّى أنفي، وضعتُ يديّ معًا باحترام نحو الأسفل.
قالت مَامُون بصوتٍ بارد:
“سأذهب لأحضّر الطعام من جديد.”
حسنًا، افعلي ما تشائين…
***
قالت مَامُون ذلك، ثمّ قامت بتنظيف الأرضيّة المتّسخة بسرعة مذهلة، واختفت بعدها.
وحين عادت بعد قليل ومعها العشاء الجديد، فكّرتُ:
‘يا لها من إنسانة سريعة اليدين’.
في الوقت نفسه، أدركتُ أيضًا أنّه من الآن فصاعدًا، لا يجب أن أتحرّك إن جلبت هي الطعام.
“ماذا تفعلين هناك؟”
خشية أن أسقط مجدّدًا، جلستُ قُرب الباب القريب، وعندها دخل لايل ورآني وسألت.
يبدو أنّه أتى أبكر من المعتاد اليوم.
“ما قصّة باب غرفتي؟ لماذا أنا وحدي لا أستطيع فتحه…؟”
تمتمتُ بتنهيدة، فأجاب هو بصوتٍ لا مبالٍ:
“حتى لو فهمتِ الآليّة، لن تستطيعي فتحه. في هذه الحال، ألا تفضّلين ألّا تعرفي أصلًا؟”
مهما كانت الحال، هذا يعني أنّني لا أستطيع فتح الباب إطلاقًا، ولا أستطيع الخروج من هنا.
نظرتُ إلى لايل بحدّة ممتلئة بالغيظ، لكنّه ابتسم بسخرية وجلس بجانبي.
“لماذا ترغبين بالخروج إلى هذه الدرجة؟ أنتِ تعيشين جيّدًا أكثر ممّا توقّعتُ.”
“……”
كلامه لم يكن خاطئًا. باستثناء الشعور بالضيق لكوني محصورة في مكان محدود، كانت الحياة هنا مريحة نوعًا ما.
لكنّ هذا لا يعني أنّني أريد أن أُحبَس هنا إلى الأبد.
“لايل، فكّر بالأمر بعقلانيّة.”
مال لايل برأسه قليلًا إلى الجانب، وكأنّه يقول ‘تفضّلي قولي’. كدتُ أغضب من تصرّفه الهادئ، لكنّي تماسكتُ وتابعتُ الحديث:
“ماذا ستفعل لاحقًا؟”
كنتُ أعلم جيّدًا في قرارة نفسي أنّ الهروب من هذا المكان بقواي الشخصيّة مستحيل. خصوصًا حين اعترضتني مَامُون، شعرتُ برغبةٍ حقيقيّة في البكاء.
ربّما أفضل حلٍّ هو، كما قلتُ سابقًا، أن أنتظر إلى أن يأتي أحدهم من قصر شويينت للبحث عنّي. لكن ماذا لو لم يأتِي أحد؟
لذلك قرّرت أن أغيّر الخطة.
“مرّت قرابة أسبوعين على اختفائي. أكيد في الخارج الجميع يفتّش عنّي بجنون، أليس كذلك؟”
“وماذا في ذلك؟”
سأل لايل وكأنّه لا يرى في ذلك مشكلة.
هو ذكيّ، لا يمكن أن لا يفهم كلامي.
بل إنّه فهمه، لكنه ببساطة لا يرى أنّ هناك داعيًا للقلق.
“أنتَ تعلم، من سيكون أوّل من يُشتبه به؟”
حدّقتُ فيه من مكاني، ويدي لا تزال مستندة إلى الأرض. بطبيعة الحال، وقعت عيناي على شعره الأبيض وتلك الحدقتين العموديّتين الشبيهة بعيون الأفعى.
لو كانت هذه النظرة قد وُجّهت إليّ سابقًا، لما استطعتُ حتّى النظر في عينيه من الخوف. لكن يبدو أنّني قد اعتدتُ عليه بحكم العيش بقربه طوال تلك المدّة.
من المدهش أنّي لم أعد أرتعب من وجه لايل الآن.
“من يدري.”
مسح ابتسامته وردّ بجفاء. جدّيّته المفاجئة أيقظت فيّ رعبًا كنتُ قد نسيته.
“حتى لو تظاهرتَ بعدم المعرفة…”
“أنا لا أتظاهر. أنا فعلًا لا أعرف، ولا أريد أن أعرف.”
‘ففي النهاية، أنا لستُ المتورّط.’
لا أعلم لماذا، لكن بدا أنّه واثق تمامًا من أنّه لن يُشتبه به أبدًا.
“أنا أكثر فضولًا لأعرف متى ستتخلّين عن المحاولة.”
“……”
“مع أنّه لا بأس إن لم تفعلي.”
هذا لا يُطاق. الحديث معه مثل التحدّث إلى جدار.
“لكن، مهما فكّرتُ، لا يوجد أحد سواك يُشتبه به…!”
“سيّدي لايل، هل أنت هنا؟”
كنتُ على وشك الاعتراض بصوتٍ عالٍ، حين انبعث صوتٌ مألوف من خلف الباب.
بمجرّد أن أدركتُ أنّ الصوت يخصّ سارة، أُغلق فمي تلقائيًّا.
في تلك اللحظة، نظرتُ أنا و لايل إلى بعضنا البعض بتعبيرات متناقضة.
شعرتُ لوهلة وكأنّ الزمن قد توقّف.
“قالت لي الخادمة في الأسفل إنّني سأتمكّن من لقائكم إن جئتُ إلى هنا…”
همست سارة بصوتٍ خافت وكأنّها لا تملك الشجاعة لفتح الباب. ومع ذلك، بدا صوتها واضحًا وضوحًا غريبًا.
حرّكتُ عينيّ عن لايل ونظرتُ إلى الباب المغلق، الباب البنيّ الذي بدا وكأنّه الحدّ الفاصل بيني وبينها.
ماذا لو صرختُ الآن؟
كان قلبي يصرخ: ‘أرجوكِ، أنقذيني!’، وأردتُ أن أطرق الباب بكلّ قوّتي.
لكنّي لم أجرؤ.
فعيون لايل التي كانت تحدّق بي بشدّة أمامي جعلتني أعجز عن الكلام.
أعدتُ نظري إليه. لا يزال يحدّق بي بتلك الابتسامة الهادئة على وجهه.
بينما كنتُ أفكّر إلى أين أوجّه حواسي، امتدّت يده نحو وجهي. ثمّ حرّك إبهامه ببطء على شفتيّ.
فهمتُ فورًا ما الذي يعنيه ذلك. إنّه تحذيرٌ واضح كي أظلّ صامتة.
لو لم أتحمّل وصحتُ طالبة النجدة، لو انكشف مكاني…
هل سيتسامح لايل مع سارة؟
السؤال الذي لم أستطع الإجابة عليه منذ أيّام، دار مجدّدًا في فكري بينما إصبعه لا يزال يمرّ فوق شفتيّ.
طقطق—
انطفأ الضوء فجأة.
ولم يكن الأمر المفاجئ هو الظلام، بل أنّ لايل نهض بهدوء وفتح الباب.
أنا بقيتُ متجمّدة في مكاني، حتّى لحظة خروجه وإغلاقه الباب خلفه.
“ما الأمر؟”
سأل لايل سارة فورًا بعد أن أُغلق الباب. فأجابته هي دون تردّد:
“سيّدي! سيّدي، ماذا سنفعل…!”
كان صوتها مفعمًا بالبكاء، وكأنّها فجّرت كلّ الدموع التي كانت تحبسها.
بالطبع، لم أكن أستطيع رؤية وجهيهما لأنّ الباب ما يزال يفصلنا.
حبستُ أنفاسي كي أتمكّن من الإصغاء إلى حديثهما بوضوح.
“الماركيزة… لم تظهر منذ عدّة أيّام، لا أحد يعلم أين ذهب…”
من نبرة ارتباكها، خمنتُ أنّها ترتجف وتركض في المكان بقلق.
“لوسي؟”
تساءل لايل بدهشةٍ مصطنعة، وكأنّه صُدم مثلها تمامًا.
مرةً أخرى، اندهشتُ من مهاراته التمثيليّة.
“نعم، لقد بحثنا في القصر وفي المناطق المجاورة، لكن لا أثر لها…”
كما توقّعت، وبعد طول غياب، بدأ القصر يبحث عنّي.
لكنّ ما لم أفهمه هو:
لماذا لا تشكّ سارة في لايل ولو قليلاً؟
“أعلم أنّك مريض يا سيّدي، لكنّي توسّلتُ إلى السائق كي يُحضِرني إلى هنا… لأطلب مساعدتك…”
يبدو أنّها كانت في غاية الارتباك، فهي تناديه “سيّدي” أيضًا. وهذا يعني أنّها لا تظنّ أبدًا أنّه هو من حبسني.
لكن لماذا؟
“سارة، اهدئي. متى بدأت لوسي تختفي؟”
سألها لايل وهو يواسيها، بنفس تمثيله المتقن.
“منذ ثلاثة أيّام… لا، أربعة…؟ أعتقد أنّها اختفت منذ أربعة أيّام تقريبًا…”
أربعة أيّام؟! هذا مستحيل. لقد مرّ قرابة أسبوعين منذ أن حُبستُ هنا!
اتّسعت عيناي من الصدمة.
“أربعة أيّام… فهمت. سأبحث عنها أيضًا. لقد تحسّنت حالتي كثيرًا، وكنتُ أنوي العودة إلى العمل ابتداءً من الغد.”
“أرجوك… سيّدي، أعلم أنّ سيّدتي الماركيزة فوضويّة قليلاً، لكنّها لا يمكن أن تختفي هكذا من دون أيّ كلمة. لا بدّ أنّها خُطفت أو… أو حدث لها شيء خطير…”
صحيح، لقد اقتربتِ من الحقيقة…
لكن حتّى وأنا أفكّر بذلك، كنتُ مشلولة من الخوف، عاجزة عن قول أيّ شيء.
“لا تقولي أرجوكِ، لأنني قائد الفرسان منذ البداية. من الطبيعي أن أحمي لوسي.”
مع ذلك، لم أتمالك نفسي من الغضب من جرأته الفاضحة.
“بل أشعر بالذنب لأنّي كنتُ أرتاح، بينما لوسي…”
هذا الأحمق المجنون…
“سيّدي…”
نادته سارة بنبرةٍ حزينة متعاطفة، وكأنّها تشفق عليه.
“سيّدي… انظر كم أصبح وجهك شاحبًا…”
الشاحب الحقيقي هو وجهي أنا، لا هو.
يمكنني الجزم بذلك حتّى دون النظر إليه.
ثمّ تبادلا بعض الكلمات الإضافيّة، ثمّ رحلت سارة. وحين تلاشت خطواتها، عاد رِيير إلى الغرفة.
“ألم أقل لكِ
؟”
“……”
“لن يُشتبه بي أبدًا.”
قال ذلك وهو يمدّ يده نحوي. لكنّي لم أتحرّك، بل نظرتُ إلى يده القادمة نحوي بصمت.
ثمّ ضغط علىّي:
“لوسي.”
“……”
“أمسكي يدي.”
أمسكتُ بها على مضض، ونهضتُ من مكاني.
ومن بعدها، لم يترك يدي للحظة.
وكأنّه لن يسمح لي بالفرار، أبدًا.
ترجمة:لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 84"