تمتم لايل في نفسه وهو يراقب ديوليتا التي كانت تجلس أمامه وتثرثر بلا توقّف.
ولم يكن هذا مستغرَبًا، فقد قضى برفقتها ما يقارب الساعة.
طوال تلك المدّة، كان يُقلّد لوسي ويبتسم ابتسامات مشرقة، حتّى كاد وجهه يُصاب بالتشنّج. وكان قد أنهكه الحديث الفارغ.
لكن لا مجال للاسترخاء.
فديوليتا، بخلاف خدم القصر، تعرف الكثير عن لوسي، بل وعن لايل نفسه. لذا، كان لا بدّ من الحذر في حضرة امرأة كهذه.
“لوسي، هل انتِ مريضة؟”
وحين كان لايل يرسم دون وعي ملامح التعب على وجهه، كانت ديوليتا تُبدي قلقها عليه.
أو بشكل أدق، كانت تُبدي قلقها على لوسي، التي بدت على غير عادتها هادئة.
وقد همّ لايل أن يردّ عليها ردّه المعتاد: “لا بأس”، لكن توقّف للحظة، ثم غيّر رأيه. وما لبث أن أومأ برأسه مجيبًا:
“منذ أيّامٍ أشعر أنّ حالتي الجسديّة ليست على ما يُرام…”
وما إن ترك عبارته معلّقة، حتّى تغيّر وجه ديوليتا فجأة. فبدت كأختٍ عطوفة قلقة على شقيقتها المقرّبة.
“نعم، لقد سمعتُ أنّه قد أغميَ عليكِ فجأة قبل مدّة.”
وكان هذا أحد أسباب زيارتها اليوم…
ثمّ توقّفت عن الكلام، وأطبقت شفتيها بتردّد، قبل أن تستأنف بصوتٍ هادئ:
“وسمعتُ أنّ لايل أيضًا مريض… أردتُ أن أطمئن عليه بنفسي، لكنّني لم أكن أملك عنوانه، ولم يخبرني أحد به، فتعذّر عليّ التواصل معه.”
‘كلاكما مريضان فجأة… وهذا يُقلقني كثيرًا.’
وبعد أن أنهت كلماتها الأخيرة، انخفض حاجبا ديوليتا في حزن. أمّا لايل، فقد راقبها بلا انفعال وهو يدفع خصلةً من شعره وراء أذنه.
شخصيّة عطوفة طيّبة.
ديوليتا كانت شخصًا يصعب وصفه حتّى بكلّ الصفات الجميلة. ولعلّ هذا السبب في أنّ لوسي كانت تتعلّق بها كثيرًا منذ الطفولة.
فحتّى عندما تكون لوسي برفقة لايل، ما إن تظهر ديوليتا في الجوار، حتّى تُسرع لوسي راكضة نحوها.
بل إنّ لوسي، التي كانت تبدو أحيانًا ضجرة من أحاديثها مع لايل، كانت تُظهر ملامح نادرة من الفرح والاهتمام حين تتحدّث مع ديوليتا.
ولهذا، كان لايل يشعر أحيانًا بكراهية خفيّة تجاه ديوليتا.
كلّما بدا أنّ لوسي تهتمّ بها أكثر منه، كان الحسد يتسرّب إلى أعماقه.
لكنّها كانت إنسانة طيّبة.
فكان يُقنع نفسه دائمًا بأن يُسكّن مشاعره الحادّة تجاهها.
“لوسي، أنتِ تعرفين عنوان منزل لايل، أليس كذلك؟”
كان سؤالها حذرًا أكثر من اللازم، لا سيّما لكونه موجّهًا إلى شقيقةٍ تسأل عن أخيها.
وكان من المحتمل أنّها تعرف السبب أصلًا.
فهي تعرف أنّ لايل قرّر الرحيل من المنزل بسبب الأجواء العائليّة التي لم يُطقها.
“أجل، لكن لايل قال إنّه سرّ.”
قالها لايل بابتسامةٍ محرجة وكأنّه يعتذر.
حينها، رمشت ديوليتا عدّة مرّات بعينيها الكبيرتين.
وسرعان ما تلاشت نظرتها القلقة، لتحلّ محلّها نظرة دافئة.
“أفهم. لا بأس إذًا.”
وقد كانت أكثر تساهلًا ممّا توقّع. بل بدت مسرورة بعض الشيء.
لم يفهم لايل السبب، فعبس قليلًا دون أن تلاحظ.
“هذا يُذكّرني بكِ حين كنتِ صغيرة.”
لم يعلّق لايل، لأنه لم يكن يعرف أيّ وقتٍ تقصد. ولحسن الحظ، لم تتوقّف ديوليتا عن الحديث.
“أظنّه كان في مثل هذا الوقت من السنة… حين سألتكِ عن تاريخ ميلادك، هل تذكُرين؟”
“…لا.”
أجاب لايل وهو يهزّ رأسه موجّهًا جوابه نحو ذكرياتٍ باهتة كانت ديوليتا تُحاول استحضارها.
وقد بدا أنّها، لشدّة قُربها من لوسي، كانت تُحبّ الحديث عن ماضيهما كثيرًا.
ولعلّه كان ماضيًا سعيدًا بالنسبة لها. ولهذا كانت تحكيه دومًا بابتسامةٍ مرحة.
“صحيح، لقد مرّت سنوات كثيرة. لا أتذكّر أنا أيضًا بوضوح، لكن أظنّكِ قلتِ إنّ ميلادكِ كان في الشتاء…؟”
“…”
لم يستطيع لايل الردّ.
فالحقيقة أنّه لا يعرف متى وُلدت لوسي.
ليس لأنّه لم يكن فضوليًّا، بل لأنّه كان يخشى أن تسأله لوسي بدورها عن يوم مولده إن هو سألها.
ولحسن حظّه، كانت لوسي نفسها غير مهتمّة بأعياد الميلاد، سواء أكان يوم ميلاده أو يوم ميلادها. ولهذا، لم يُفتح بينهما هذا الموضوع قطّ.
“ثمّ سألْتِيني ومتى ميلاد لايل؟ أليس كذلك؟”
استغرق لايل لحظة ليفهم مغزى كلمات ديوليتا، لأنّ ما قالته تلاه مباشرة.
“كنتُ قد سألتُه أنا أيضًا قبلكِ، و…”
كاد لايل أن يُومئ برأسه تلقائيًّا، لكنّه تدارك الأمر.
نعم، لقد كان يتذكّر تلك اللحظة.
حين سألته ديوليتا عن يوم ميلاده، أجاب بكلّ بساطة:
“ما هذا؟”
“لكنّه بدا وكأنّه لا يعرف معنى عيد الميلاد أصلًا. ولم أستغرب، لأنّه عاش طفولة صعبة.”
وكان ما قالته صحيحًا.
حين كان صغيرًا، لم يكن لايل يعرف شيئًا عن أعياد الميلاد.
فخلال حياته مع أرينيل، لم يسبق له أن سمع عنها.
وربّما كانت تتعمّد ذلك.
فقد أرادت إخفاء وجوده عن الشياطين وعن الناس، ولم تكن تريد أن يعرف متى وُلِد أو أن يحتفل به.
لم تكن ترغب بأن يُذكر اليوم الذي وُلِد فيه باستخدام قوى شيطانيّة.
وفي ذلك اليوم، حين أجابها بتلك الطريقة، شعرت ديوليتا بالدهشة، وشرحت له معنى عيد الميلاد لأوّل مرّة.
“لذا، حين سألتِني أنتِ عن يوم ميلاده، لم أستطيع أن أُعطيكِ جوابًا دقيقًا. لكنّكِ أدركتِ ذلك بسرعة. أذكر أنّها كانت أوّل مرّة نُخفي سرًّا عن أحد. تتذكّرين؟”
“نعم، أذكر.”
وقد كان يومًا لا يُنسى بالنسبة إلى لايل.
فقد رآهما يتبادلان وعدًا غامضًا دون أن يُشاركاه.
ولم تُخبره ديوليتا حينها بما دار بينهما، فظلّ يجهل الأمر حتّى اليوم.
“قلتِ لي ألّا أُخبر لايل بيوم ميلادكِ أبدًا. لأنّه ما دام لا يعرف يوم ميلاده، فلن تهتمّي أنتِ أيضًا بميلادك.”
وأخيرًا، أدرك لايل ما كانتا تُخفيانه عنه طوال تلك السنوات.
“كنتُ أظنّها مجرّد كلمات. لكن مع مرور السنوات، لاحظتُ أنّكِ فعلًا لا تُظهرين أيّ اهتمام بعيد ميلادك. وكنتُ أندهش في كلّ مرّة.”
فأطرق لايل رأسه قليلًا. وغابت نظراته خلف خصلات شعره المتدلّية.
“لكن هناك شيء لا تعرفينه، وهو أنّ لايل كان يستمع إلينا يومها. وبعدما غادرتِ، جاءني مرارًا يسألني ما هو السرّ الذي تُخفينه عنه.”
لكنّ ديوليتا لم تُفصح له بشيء.
وبعد محاولات عديدة، اضطرّ لايل للاستسلام. غير أنّ فكرة أن يكونا يحملان سرًّا يخفيانه عنه ظلّت تُزعجه.
ولهذا السبب…
بوح لايل للوسي بسرّه لم يكن صدفة.
لقد أراد، بأيّ طريقة، أن يصنع معها سرًّا خاصًّا، مثلما كانت لها أسرار مع ديوليتا.
وقد أراها حتّى الوشم الذي حذّرته أرينيل من إظهاره لأيّ أحد.
“ربّما كان الأمر مؤلمًا بالنسبة له، لكنّي أعتقد أنّه لو علم بأنّكِ فعلتِ كلّ هذا بدافع الاهتمام، لشعر بتأثّرٍ كبير. آه، صحيح…! قلتِ إنّكِ مريضة، أليس كذلك؟ آسفة، أطلتُ الحديث كثيرًا.”
قالت ديوليتا وهي تبتسم بأسفٍ وتنهض من مكانها. وحينها فقط رفع لايل رأسه.
“لا تعتذري. لقد استمتعتُ بالحديث.”
وابتسم هو الآخر وهو يُقلّد ابتسامتها.
ومنذ ذلك اليوم، تخلّى لايل عن التنكّر بهيئة لوسي.
وبطبيعة الحال، شاع في بيت سويينت أنّ ربّ المنزل قد اختفى، فعمّت الفوضى في أرجاء القصر بعد أيّام قليلة.
***
“حتى الباب صار يعاملني بطريقة تختلف عن معاملته لهم؟”
أحد الطقوس اليوميّة في حياتي كان التحديق في الباب الذي لا يُفتح، ومحاولة الانتصار عليه… لكن الخسارة كانت دومًا من نصيبي.
“عندما يدفعه لايل أو مامون، ينفتح بسهولة! لكن لمَا أنا فقط من تُعاملني بهذه القسوة؟!”
وبينما كنتُ أُطلق شتائمي، نظرتُ إلى الساعة. أردتُ معرفة الوقت الذي سيعود فيه لايل.
فهو غالبًا ما يأتي في وقتٍ متأخّر من الليل، وهاهو موعد قدومه قد اقترب.
“هوووه…”
أخذتُ نفسًا عميقًا، ثمّ عقدتُ العزم على تنفيذ الخطّة التي أعددتُها منذ أيّام.
نزعتُ يدي عن المقبض بلا تردّد، وركضتُ سريعًا لأختبئ داخل خزانة الملابس القريبة من الباب.
ثمّ حبستُ أنفاسي، منتظرةً عودة لايل.
كانت خطّتي كالتالي:
ما إن يدخل الغرفة ويتفاجأ باختفائي، سأخرج من الخزانة وأركض نحو الباب المفتوح وأفرّ هاربة.
مع أنّ احتمالات الفشل كانت تسعة من عشرة، إلّا أنّ التجربة تظلّ خيرًا من الاستسلام.
وبينما كنتُ أرتعد داخل الخزانة، إذا بصوت فتح الباب يصدح في المكان.
ثمّ تلا ذلك صمت قاتل. لعلّه كان يبحث عنّي داخل الغرفة وقد فوجئ باختفائي.
إذاً، الآن!
فتحتُ باب الخزانة، وانطلقتُ راكضةً نحو باب الخروج خلف لايل.
كدتُ أتعثّر في منتصف الطريق، لكن لحسن الحظ لم يحدث.
غير أنّ ثمّة مشكلة…
“هذه الخطّة تناسب من يملك ساقين سريعتين، لا مثلكِ.”
فقد أمسك بي لايل بسرعة، وهو يلفّ ذراعه حول كتفي.
نظرتُ إلى الباب المفتوح بنظرة يائسة.
لمَ لا أستطيع الخروج رغم أنّه مفتوح؟
“هل استحممتِي؟”
همس لايل وهو يغرز أنفه في أعلى رأسي.
هل أراد شمّ رائحتي ليتأكّد إن كنتُ قد استحممتُ فعلًا؟
أومأتُ برأسي بكآبة، وبلعتُ ريقي، ثمّ سألته:
“هل أنتَ غاضب؟”
فقد يكون غاضبًا لأنّني حاولتُ الهرب. فسألتُه خوفًا.
“لا، بل اعتبرتُها فرصة جيّدة لاحتضانك.”
كان جوابه صادمًا لدرجة جعلتني أتمنّى لو أنّه غضب بدلًا من هذا الهراء.
ترجمة:لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 83"