جلس لايل متنكرا بهيئة لوسي، في مكتبها في غرفة العمل، ممسكًا بالقلم.
بما أنّه جاء على كلّ حال، قرّر أن يُنجز بعض أعمالها بشكلٍ تقريبي. فلا شيء يشغله إلى أن يحين موعد العودة.
وما إن لامس رأس القلم الأوراق، حتّى بدأت حروف مائلة وعشوائيّة تُسجَّل على الورق.
لم يكن تشبه خطّ لايل الأنيق إطلاقًا، بل كان خطّ لوسي.
***
رغم الاضطراب الذي كان يعصف بقلبها، ابتلعت طعامها دون عناء. بل لم تستغرق أكثر من عشر دقائق لإنهائه.
وبعد قليل، حين خرجت مَامون حاملة الأواني، عادت للاستلقاء فورًا.
اغسل وجهي؟ إلى الجحيم.
فجأة، اجتاحتها موجة من الغضب.
“لماذا أجدُ نفسي في هذا الوضع؟”
حتى دموعها فاضت من شدّة الغيظ.
اشتدّ فكّها غضبًا واحتقانًا، ولم تجد وسيلة تُطفئ هذا الظلم المكبوت، فاكتفت بتوجيه اللكمات في الهواء.
لكن، وكما هو متوقّع، لم يزُل الغضب قيد أنملة.
“حسنًا، لا فائدة من هذا العبث. لنتصرّف بعقل.”
لكلّ شيء بداية وذروة ونهاية. هكذا كانت تقول جدّتي دائمًا.
صحيح أنّ جدّتي ما كانت لتتوقّع أنّ لايل سيصبح هكذا، لكن مجرّد تذكُّرها منحني بعض السكينة، وإن كانت سكينة ممزوجة بغصّة.
بدأتُ أسترجع أفكاري بصفاءٍ متجدّد.
لايل يقول إنّه يُحبّني. ولذلك، انحرف وسلك درب الظلام. والنتيجة: وجدتُ نفسي حبيسة بين يديه.
ولم يكتفِي بذلك، بل طلب منّي أيضًا أن أحاول أن أُحبّه.
“هل تظنّين أنّكِ قادرة على ذلك…؟”
هل يُمكن لشخصٍ سويّ أن يحبّ شخصًا مجنونًا؟ الجواب، بكلّ بساطة:
لا. لا أحد يمكنه أن يحبّ مجنونًا… سوى مجنونٍ آخر.
أو ربّما، حين قال لي “أحبّيني”، قصد أن أُجنّ تدريجيًّا حتّى أُحبّه.
مهما كانت الحكاية، فلا عجب إن تبخّرت مشاعري الطيّبة تجاهه بالكامل.
لا، من المؤكّد أنّها ستتبخّر…
“لو حصل شيء للوسي، فسأركض إليها فورًا.”
“بإمكانكِ أن تفعلي بي ما تشائين.”
كان لايل يحتلّ حيّزًا كبيرًا من ذاكرتي.
وكلّ تلك الذكريات… كانت جميلة فقط.
“همف…”
كنتُ قد قرّرت ألّا أبكي… لكن الدموع انهمرت رغمًا عنّي. مسحتُ عينيّ بقسوة بظاهر يدي.
وفي اللحظة نفسها، سُمِع صوت فتح الباب.
“كنتُ أنوي التظاهر بعدم رؤيتكِ، لكن لم أستطع. الأكل ثمّ الاستلقاء فورًا مضرٌّ بالصحة، كما تعلمين.”
“…….”
“آه، كنتِ تبكين؟ أأُحضِر لكِ منديلًا؟ في الوقت الراهن، امسحي دموعكِ بالبطّانية.”
دعوني وشأني… فقط، اتركوني وحدي…
***
بعد نوبة بكاء حادّة، انقشع الضباب عن عقلي. بدأتُ، بذهنٍ صافٍ، أفكّر بما أنا فيه وما الذي عليّ فعله لاحقًا.
في المقام الأول، لا أعلم إلى متى ينوي لايل أن يُبقيني محبوسة.
ربّما لو أظهرتُ له حبّي بصدق، كما يتمنّى، فقد يُطلق سراحي… لكن ذلك بدا بعيد المنال. لو كان ينوي أن يُخرجني بسهولة، لما حبسني أصلًا.
بل، حتى لو قلتُ له إنّي أحبّه، فلن يُصدّقني. سيظنّ أنّي أراوغ لأهرب.
لكن إن كان كذلك… لماذا حبسني أصلاً؟
ثمّ، حاولتُ أن أُخمّن حالته النفسيّة.
هل ما زال عاقلًا؟ بنظري، إطلاقًا.
ولكي أكون دقيقة، بدا كأنّ شخصًا آخر قد استحوذ على جسده. فهل يعني هذا أنّ لايل الحقيقي اختفى حين خضع للظلام، وبرزت شخصيّة جديدة مكانه؟
أم أنّ ذلك الثعبان اللعي•ن هو الذي سمّم أخلاقه وحوّله إلى طبيعة شيطانيّة؟
لا أعلم متى بدأتُ، لكنّي كنتُ أبحث عن أيّ ذريعة تُبرّر أفعال لايل.
رغم أنّ الواقع يُخبرني بأنّه، ببساطة، اختطفني وسجنني.
لكن، في النهاية، الحقيقة الواضحة هي: لايل قد تغير، وهو لن يُطلق سراحي بسهولة.
‘وماذا عن العمل؟ حتى لو فوّضتُ الإدارة للوكلاء، ماذا عن أجور العاملين في القصر؟’
لحسن الحظ، كنتُ قد رتّبتُ عقود العمل على أساسٍ سنوي، ما يعني أنّ رواتب الخدم والقيّمين ستُصرف تلقائيًّا على مدى عام.
لكن غير ذلك… فستكون الخسائر فادحة.
يمكنني الصمود لمدّة تتراوح بين ستة أشهر وسنة بالكاد…
لكن، ماذا لو انقضت السنة… وما زلتُ هنا؟
كلّما أمعنتُ التفكير، ازدادت الأمور ظلمة.
حتى راودتني فكرة.
“ماذا لو كنتُ قد لاحظتُ مشاعر لايل منذ البداية؟ هل كنتُ سأتجنّب كلّ هذا؟”
لكن سرعان ما نبذتُ تلك الفكرة.
لا، لم أكن لأعرف. لم أكن أعلم متى بدأ يحبّني، ولم أكن لأكتشف الأمر إلا بعد أن اعترف هو بنفسه.
مُحبط.
ما كنتُ أعلم أنّي بهذا القدر من الغباء العاطفي.
لكن لحظة… أأنا فعلاً غبية؟ أم أنّه هو من لم يُظهر شيئًا؟
وفيما كنتُ أفرك وجهي بيديّ كما لو كنتُ أغسله من عفن الأيام الماضية…
صرّ الباب من جديد.
لابدّ أنّها مَامون مجدّدًا.
منذ أن فتحتُ عينيّ، لم أرَى وجه لايل. لا أثر له. أنا حبيسة، بينما هو يتجوّل كما يشاء… أيّ مهزلة هذه؟
وحين اقترب صوت الخطوات من الباب، ناديتُ من الداخل:
“مَامون، سأطرح عليكِ سؤالًا. اختاري من بين الخيارات التالية مَن الذي أخطأ أكثر.”
“…….”
“الخيار الأول: لايل الذي يقول إنّه يُحبّني لكنّه حبسني. الثاني: أنا، التي لم تلحظ مشاعره فوجدتُ نفسي محبوسة. الثالث: أنتِ ، التي وقفتي متفرّجةً.”
بيني وبين نفسي، كنتُ أظنّ أنّ الجواب هو الأول. مع احتمال تحميل الثالث بعض اللوم أيضًا. المشاركة في الجريمة بالصمت، مثلًا.
“الثاني؟”
مرّت لحظات. ثمّ اخترق الصمت صوت رجل، ساخر ومليء باللعب.
كان صوت لايل.
ظننتُ أنّ مَامون هي من دخلت، لكن تبيّن أنّ صاحب الغرفة عاد.
فزعتُ ونهضتُ من مكاني، ناظرةً إلى لايل الذي اختار الجواب الثاني بكلّ ثقة.
وكان قد استعاد شعره الأسود وعينيه البشريّتين.
“…….”
أين ذهب ضميرك؟
لكني لم أعد أرتجف كما البارحة. لم يعد مرعبًا بنفس القدر.
وما إن ظهرت على وجهي علامات الذهول، حتى قال وهو ينزع قفّازه الأبيض:
“لماذا لم تضيفي الخيار الرابع؟ وهو: حبستك كي تفكّري بي وحدي، ثمّ خلطتِي بيني وبين شخصٍ آخر.”
يعني في النهاية… أنا المخطئة؟
لا أدري لماذا أضاف هذا الخيار، فكيف لي أن أعرف مَن دخل دون أن أراه؟
“أفكّر في منعكِ من الحديث مع مَامون أيضًا.”
بصراحة؟ أنا لا أرغب في الحديث معك أكثر من رغبتي في الحديث معها.
“أرجوك، لا تفعل ذلك.”
رغم أنّي لا أرغب في رؤية وجه كليهما، إن اضطررتُ للاختيار، فمَامون أهون الشرّين.
لو بقيتُ أُحدّق في وجه لايل وحده طوال فترة سجني، فقد أفقد صوابي فعلًا.
لذا، حفاظًا على صحّتي العقليّة، احتجتُ إلى شخصٍ آخر أتبادل الحديث معه.
“لوسي، في مثل هذه الحالات، عليكِ أن تقولي إنّك افتقدتِني.”
الآن بات يُلقّنني كيف أُجاريه في الحوار. كلّما تكلّم، تأكّدتُ أنّه لم يعُد هو لايل الذي كنتُ أعرفه.
مهما كانت ملامحه مطابقة… ومهما كانت نبرته تشبه ذاك اللطيف الذي عهدتُه…
“أعد إليّ صديقي، أيّها الوحش…”
وبعد أن قضيتُ يومًا بأكمله أُهيّئ نفسي، عاد عقلي لينهار مجدّدًا. تراكمت الأحزان في صدري فانكمشتُ من شدّتها.
عندها، قال بصوتٍ مؤسف، من فوق رأسي:
“صديقكِ هنا. لكنّي لم أعُد أرغب أن أكون صديقًا. سيكون من الأسرع لو غيّرتِ رأيكِ.”
ثم أضاف وكأنّها مزحة:
“بالمناسبة، هل لم تعودي تخافين منّي؟”
بدت نبرته وكأنّه سعيد.
لكنّي… لم أفهم مزاجه على الإطلاق.
ما الذي لا يُخيف؟ لو لم أكن خائفة، لما انكمش جسدي هكذا.
أنا أضعف من أن أكون قويّة أمام الأقوياء، وأضعف من أن أكون قاسية مع الضعفاء أيضًا.
“أطلق سراحي الآن. وسأتظاهر بأنّ شيئًا لم يحدث.”
قلتُ ذلك في محاولةٍ أخيرة، كمن يتشبّث بقشّة.
“وأعد إليّ صديقي أيضًا.”
ما دمتُ سأتظاهر قوّةً لا أملكها، فلأطلب كلّ ما أريده.
لكنّ رده… كان كافيًا ليمزّق قلبي.
“لوسي، هل تظنّين أنّني أصبحتُ شخصًا آخر؟”
نبرته كانت مزيجًا من الدهشة والإنكار.
“لا تقصدين أنّه بعد ما حدث لي… ظهرت فيّ شخصيّة ثانية، صح؟”
بلى… هذا بالضبط ما أقصده.
كُفّ عن هدم آمالي!
رفعتُ رأسي وحدّقتُ فيه بحنقٍ صامت.
فابتسم بسخرية وأكمل:
“ما كنتُ أعلم أنّك تملكين خيالًا واسعًا هكذا.”
سخرية. فقط.
“أنا بخير تمامًا.”
ولهذا السبب قلتُ إنّك لست بخير!
“لكن، حين نطقتِ باسمي وطلبتِ أن أعود، شعرتُ بنبضة في قلبي.”
قلبي؟ نبضة؟! كُفّ عن الكلام السخيف!
لكنّه بدا مُحرجًا… لا، بدا كمن يُغرم فعلًا.
“أتمنّى أن تُحبّيني قريبًا.”
“أنتَ مجنون، بحقّ السماء…”
“فحينها، سأشعرُ بسعادةٍ أكبر.”
اقترب منّي، حتى بلغ حافّة السرير، ونظر إليّ من علٍ وهمس:
“لوسي، أنا الآن… سعيد جدًّا.”
أن يقول ذلك وهو يسجنني، ثمّ يبتسم كأنّه ملاك… وجهه هذا… لم يتغيّر أبدًا.
وله
ذا السبب… لم أعرف بمَا أردّ.
“على الأقل، الآن، لن ترحلي وتتركيني خلفك.”
‘ولن أعيش في الخوف من ذلك بعد الآن.’
وكأنّه كان دائمًا يظنّ أنني قد أتركه في أيّ لحظة.
عندها، تساءلتُ في داخلي:
هل كان ذلك اليوم… حين تركتُه ورحلت… هو ما كسر قلبه إلى هذا الحدّ؟
ترجمة:لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 81"