كانت لوسي تحاول مقاومة النعاس بأسنان مشدودة، ولكن في النهاية، أسدلت جفونها واستسلمت.
في تلك اللحظة، اختفى ذلك الابتسام الهادئ الذي كان يزيّن شفتي لايل. كأنّه لم يَعُد هناك داعٍ للتظاهر، فمَحا كلّ تعبير من وجهه.
عندها، كادت جثة لوسي المرتخية، التي كانت تستند إلى جذع شجرة، أن تنهار جانبًا. وبينما كان يُطيل النظر إلى وجهها الغائب عن الوعي، أسرع لايل إلى الإمساك بجسدها المتمايل.
“…….”
ظلّ على حاله، يتأمّلها بصمت. وكانت شفتاه المنغلقتان تمامًا توحي بأنّه غارق في التفكير.
لكنّ ذلك لم يدم طويلًا، فما لبث أن رسم على وجهه ملامح ارتياح، ثمّ حمل لوسي بخفّة بين ذراعيه.
نعم، لا شكّ أنّ هذا هو الجواب الصحيح.
كان على وجه لايل يقينٌ لا يتزعزع.
“كاااك! كاااك!”
راحت الطيور تصرخ بحدّة، وكأنّها تؤنّبه.
كانت صرخاتها العالية مصحوبة بخفق أجنحتها الصاخب.
[طلبنا منك أن تبحث عن الملك، فماذا تفعل الآن؟!]
[توقّف عن تضييع الوقت! عليك إيجاد الملك في الحال!]
تسابقَت الطيور في توبيخه.
عندها، ارتسمت من جديد ابتسامة على شفتي لايل، وكانت أعمق من ذي قبل.
‘أغبياء.’
لقد أسعده هذا الموقف، أن يُنتقَد من خَدَم الملك أنفسهم. فذلك، بحدّ ذاته، برهانٌ على أنّه أكثر المخلوقات كمالًا بينهم.
وأراد أن يستمتع بهذا الشعور بالتفوّق لفترة أطول، ولذلك لم يطرد الطيور هذه المرّة، على غير عادته.
حتى وصَلنا إلى القصر.
***
خادمة القصر الوحيدة، مَامون، كانت نشيطة على غير المتوقّع.
رغم أنّها لم تكن تعتبر نفسها كذلك، إلا أنّه كان من الواضح أنّ من يبدأ يومه مع أوّل خيوط الفجر يُعدّ من النشيطين.
وكالعادة، سبقت لايل في الاستيقاظ، وشرعت في تنظيف الحديقة.
“سَك… سَك… سَك…”
بنمط ثابت، كانت ترفع الغبار عن الأرض الترابية، بعناية بالغة.
ومع كلّ خطوة تخطوها، كانت الأرض الممتدّة من بوّابة القصر حتى الطريق الجانبي تصبح أكثر ترتيبًا. أحيانًا، كانت تلاحظ آثار أقدام بشرية، ولكنّها لم تُعرها أيّ اهتمام.
“كيييييك—”
حين كانت قد أوشكت على إنهاء جولة التنظيف حول القصر، فُتحت البوابة الأمامية بصوت صاخب.
فالتفتت مَامون إليها تلقائيًّا.
وهناك، كانت تقف امرأة بشَعر بنفسجيّ يتطاير في الهواء، وعينين فارغتين تمامًا من الحياة.
“آه، صحيح، مرحبا… أتمنّى لكِ صباحا طيّبا.”
تمتمت مَامون التي حدّقت فيها بشرود، قبل أن تُسرع إلى الانحناء بإجلال. عندها، رسمت المرأة الشبيهة بلوسي ابتسامة مُرضية على وجهها.
“لا داعي لتحضير الإفطار. ولكن الغداء والعشاء، أعدّيهما في الوقت المحدّد.”
أمرت بنبرة اعتيادية، كأنّها اعتادت هذا الدور.
هزّت مَامون رأسها علامة الفهم، ثمّ عادت إلى كنس الأرض.
أما لوسي، فمرّت من جانبها وتوغّلت بين الأشجار الكثيفة.
“سآآآخ—”
كان صوت الرياح يتلاعب بأوراق الأشجار.
وامتزجت ترنيمتها الهامسة بنسمات الصباح، متناثرةً في الهواء.
الطريق الجانبي الذي كان قد اختفى، كان لا يزال هناك، ساكنًا كما هو. وكانت خطوات لوسي فوقه خفيفة كريشة.
فوق رأسها، ظلّت الطيور تراقبها. ولكنّها اليوم أبدت اهتمامًا كبيرًا بها، على غير عادتها.
لا، في الحقيقة، لم يكن الأمر مختلفًا.
فهم دائمًا ما راقبوها في الخفاء.
“سيّدتي الماركيزة! ص-صباح الخير!”
ما إن خرجت من الغابة، حتى هرع إليها السائق، الذي كان قد أتى مبكّرًا ليُقلّها.
كان قد عاد بالأمس إلى قصر سويينت بناءً على أوامر لوسي التي قالت إنّها ستقضي الليل هنا. ثمّ عاد مع شروق الشمس ليصطحبها.
وكان القصر قد ضجّ بالأخبار، لا سخطًا، بل حفاوةً.
‘أخيرًا، أصبحا معًا…!’
كان سوء فهمٍ ناتجًا عن خيالٍ خصب.
لكن، بالنسبة للخدم، لم يكن غريبًا أن يظنّوا بذلك.
فمنذ أن كبرا قليلًا، لم تعد لوسي تقضي ليلتها في بيت لايل، حرصًا على تجنّب الشبهات.
ولكن لم يَعُد هناك داعٍ للحرص الآن.
“صباح الخير.”
أجابت لوسي بابتسامة ناعمة للسائق الذي خاطبها بـ”الماركيزة”، ففغرت عيناه من الدهشة.
وبالرغم من ذلك، بدا كأنّه لا يعرف سبب دهشته، فأمال رأسه مستغربًا.
“ما بك؟”
سألته لوسي بنبرة توحي بأنّ هناك أمرًا غريبًا. فأسرع السائق بنفي ذلك، وهو يومئ برأسه.
فما كان من لوسي إلا أن ركبت العربة بهدوء.
ولم يُحرّك السائق العربة حتى سمع صوت الباب يُغلق خلفها.
ثمّ انطلقت العربة.
ومع ذلك، كان السائق لا يزال عاجزًا عن تفسير ذلك الشعور الغريب الذي راوده.
في الداخل، كانت لوسي تجلس وركبتاها متشابكتان على المقعد، تضحك بخفّة وكأنّها توقّعت كلّ شيء.
ورغم ريب السائق، كانت واثقة أنّ أحدًا لن يكتشفها.
ثمّ أسندت ذقنها إلى إطار النافذة، وأخذت تلوّح بقدميها برفق. كان في أطرافها شيء من الهدوء والثقة.
***
“أفقتي؟”
آه!
فتحتُ عينيّ لأجد مَامون تحدّق فيّ من فوق رأسي، كأنّها دمية مسكونة بلعنة.
فأطلقتُ صرخة قصيرة من شدّة الذعر.
“أحضرتُ لك الغداء.”
كانت تمسك في يد صينية طعام، وفي الأخرى طاولة سرير صغيرة.
رغم أنّها كانت تحمل كلاهما، إلا أنّ وقفتها لم تهتزّ قيد أنملة.
وفي اللحظة التالية، فكّرت:
‘مرّة أخرى؟’
ها أنا ذا، أغيب عن الوعي مجدّدًا. وهذه المرة هي الثالثة بالفعل.
لا أفهم لماذا جسدي ينهار بهذا الشكل.
هل أصبتُ بصدمة نفسية حادّة؟
وبينما كنتُ أحاول التحليل، نظرتُ إلى النافذة.
كانت الشمس عالية في السماء، تُرسل أشعّتها بدلًا من القمر.
نهضتُ فجأة، وتفحّصتُ الغرفة التي أصبحت مألوفة. نعم، لم يكن حلمًا.
لا يمكن أن أكون قد عدتُ إلى هذه الغرفة بإرادتي، فلا شكّ أنّ لايل هو من نقلني إليها.
“أم أنّك تودّين غسل وجهكم أوّلًا؟”
قاطعتني مَامون بسؤال جديد بينما كنت شاردة.
“…أريد العودة إلى المنزل.”
خرجت الكلمات من فمي بنبرة رسميّة تلقائيّة.
كلّ شيء في هذا البيت، من لايل إلى مَامون التي تُقدّم لي الطعام بلا اكتراث، كان غريبًا حدّ الرعب.
لم تستغرق الرحلة من الخوف إلى التوسّل سوى لحظات.
“لم أتلقّى أي أمر بإعادتك. فقط أمرًا بإعداد الطعام.”
“من لايل…؟”
“نعم، من سيّدي الوقور.”
ما زالت تُصرّ على مناداته “سيّدي الوقور”. أومأتُ برأسي، نصف مستسلمة.
فأمالت رأسها بتعجّب، وسألت مجدّدًا:
“إذًا، ماذا تودّين أن تفعلي أوّلًا؟”
كانت عنيدة في الأمور التافهة.
وحين شعرت أنّها لن تتراجع، همستُ وأنا على وشك البكاء:
“الطعام… أولًا…”
حتى في هذه اللحظة، كان الجوع يزيد من ألمي.
“يبدو أنّك ستبكين قريبًا، هل أحضر لكم شيئًا لتجفيف الدموع؟ جهّزتُ منديلًا واحدًا فقط ظننتُ أنّك ستستخدمينه لأنفك.”
“…….”
“وإن كنت ستمسحين عينيك على أيّ حال، يمكنكم استخدامه.”
تجاهلتُ تعليقها، ويبدو أنّها لم تكن تنوي تكراره، فباشرت فورًا تجهيز الطعام.
وكان من الواضح أنّها تعلم أنّني محتجزة هنا، ومع ذلك، لم تُظهر أيّ تعاطف.
ما يدلّ على ولاءٍ نادر للايل، رغم أنّ علاقتها المهنية به لم تبدأ سوى منذ وقت قريب.
نظرتُ إلى الصينية على ركبتيّ، وسألتُها:
“هل كنتِ تعلمين أنّ الأمور ستؤول إلى هذا؟”
فوضعت مَامون الأواني برفق، ثمّ اعتدلت في وقفتها وقالت:
ما إن وصلت لوسي إلى قصر الماركيزة حتّى اندفعت سارة نحوها بسرعة.
“سيّدتي! هل السيّد لايل بخير؟!”
بعكس الخدم الآخرين الذين كانوا منشغلين في تحليل العلاقة بينهما، كانت سارة قلقة على حال لايل.
حدّقت بها لوسي للحظة، ثمّ سألت:
“سارة… هل ما زلتِ تقلقين عليه؟”
“نعم؟”
بدت سارة مصدومة من بساطة السؤال.
لكن لوسي ظلّت تنظر إليها بريبة.
“لا أفهم… ظننتُ أنّني كنتُ قاسية حينها…”
“كنتِ قاسية؟ آه!”
بدت سارة كأنّها تذكّرت فجأة.
أجل، لقد مرّ عام وأكثر على ذلك الموقف في القصر الإمبراطوري، حين أصرت سارة على البقاء بجوار لوسي المُغمى عليها، فقال لها لايل ببرود أن تعود فورًا، وكان ذلك أشبه بالمشادّة.
“ذاك موقف، وهذا موقف آخر. أنا أعرف السيّد لايل منذ الطفولة! ووقتها، أنا المخطئة لأنّني لم أُطع أوامره فورًا.”
قالت سارة بحزم.
“لكن… كيف عرفتِ بالأمر، سيّدتي؟ لم أُظهر أيّ تردّد بعد ذلك…”
“لايل أخبرني.”
‘حسنًا… على الأقل، الناس هنا لا يكرهونني.’
ثمّ ابتسمت لوسي ابتسامة ناعسة وساحرة، لم تكن لتظهر على وجهها سابقًا.
“حقًا؟ لكن… سيّدتي… أشعر أنّكِ تغيّرتِ قليلًا.”
بدت سارة متردّدة، ولكنّها قالتها.
“تغيّرتُ؟ بأيّ شكل؟”
لم ألحظ شيئًا…
وبينما كانت واقفة أمام العربة، تقدّمت لوسي خطوة، ولحقت بها سارة.
“أقصد… أصبحتِ أكثر نضجًا… أو أكثر هدوءًا…”
قالت ذلك ثمّ نظرت خلسة إلى لوسي.
لكنّ الأخيرة لم تجب.
بل اكتفت بأن أدارت رأسها قليلاً، وابتسمت لها.
فاحمرّ وجه سارة، ثمّ لم تتطرّق بعدها أبدًا إلى تغيّر لوسي.
وحين سكتت سارة، مرّت على شفتي لوسي ابتسامة ماكرة.
كان لايل يعرف جيّدًا خبايا النفس البشريّة. البشر، رغم إدراكهم بوجود الشياطين، إلا أنّهم لا يعرفونهم حين يقفون أمامهم.
يعرفون أنّ الشرّ يستطيع تغيير وجهه والتوغّل بينهم، ولكن لا يظنّون أبدًا أنّه قريب منهم.
تمامًا كما هو الحال الآن.
ترجمة:لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 80"