لم يكن في الغرفة المظلمة، التي لا تنفذ إليها ذرّة ضوء، سوى سكونٍ خانقٍ يفوق الاحتمال.
بين الحين والآخر، كانت تُسمَع همهمات لطيفة مترافقة مع أنفاسٍ واهنة، لكنّ ذلك كان كلّ ما في الأمر.
الأنفاس بدَت كأنّها على وشك أن تنقطع، وهمهماتها بلا لحنٍ واضح، مجرّد خيوطٍ هائمة في صمتٍ موحش.
لكنّ هذا السكون المعلّق على حدّ الانفجار، لم يلبث أن تبدّد حين ارتجفت جفونٌ أرجوانيّة وسط العتمة.
شيئًا فشيئًا، برزت من تحتها عيونٌ متوهّجة بلون العقيق.
“…….”
فتحت لوسي عينيها نصف فتحة، وأخذت تتأمّل أرجاء الغرفة الغارقة في السواد.
لم ترَى شيئًا، غير أنّها شعرت بوضوحٍ أنّ يدًا ما كانت تمسك بيدها.
وكان ملمس تلك اليد مألوفًا تمامًا لها.
وكأنّها منجذبة إلى ذاك الإحساس المألوف، أمسكت لوسي لا إراديًّا باليد الكبيرة التي كانت تمسك بها.
وما إن فعلت، حتّى انقطعت الهمهمات فجأة، كما لو أنّ لمستها كانت إشارةً خفيّة.
ثمّ، ومن بين الظلال المنصهرة في العتمة، انحرف جسدٌ ما قليلًا لينظر إليها.
“أفقتِ؟”
المَلمس المألوف.
الصوت المألوف.
كان من الطبيعي أن تخبو يقظة لوسي شيئًا فشيئًا.
“……لايل؟”
نادت لوسي باسم ريير بصوتٍ بالكاد خرج من حنجرتها المتشقّقة، لكنّه أجابها دون اكتراث.
“أجل.”
كلمةٌ قصيرة تمامًا كما كُتب في الرسالة.
“هل… هل أُغمي عليّ؟”
سألت وهي تنهض ببطء، تضع يدها على جبينها الذي يخفق بالألم.
كادت أن تترك يد لايل من شدّة الإرهاق.
“أجل.”
شدّ لايل قبضته وأعاد الجواب بهدوءٍ رقيق، رغم قصر كلماته.
صوته الدافئ أخذ يبدّد توتّر لوسي بالتدريج.
“كح، لماذا أنا هكذا مؤخرًا…؟”
أحسّت لوسي بنظراته التي كانت تفتّشها بلا مواربة، فحاولت أن تزيل البحة عن حنجرتها بسعالٍ خفيف.
بدت وكأنّها لا تفهم ما يحدث لها، وقد بدا عليها الحنق من ذاك الغموض.
لكنّها، فجأة، فتحت عينيها على اتّساعهما وسألت بصوتٍ مرتجف، كما لو أنّ إدراكًا صاعقًا ضربها:
“هذا المكان…؟”
هل هذه غرفتك؟
رغم أنّها لم تُكمل جملتها، إلا أنّ الرعب كان واضحًا في عينيها.
وبرغم السواد، لم يفُت لايل أن يلحظ ملامح الخوف المرتسمة على وجهها.
“أجل.”
ردّ بلا تردّد.
تقطّبت حاجبا لوسي وهي تعاود النظر في أرجاء الغرفة.
لكنّ بصرها لم يعتد العتمة بعد، لذا لم يكن بوسع عينيها كشف الحقيقة.
“كنتُ، فاقدةً للوعي أمام غرفتك…؟”
تمنّت من أعماقها ألّا يردّ بـأجل هذه المرّة.
لكنّ لايل حطّم أملها ببساطة.
“أجل.”
“لكنّ…”
هذا مستحيل.
ما رأته لم يكن لايل.
رغم أنّ لون العينين كان نفسه، لكنّ ذاك الشعر الأبيض… كان نقيض شعر لايل تمامًا.
كانت متأكّدة.
سحبت لوسي يدها عنه وضمّت ذراعيها المرتجفتين، وقد اجتاحها قشعريرة قاتلة.
ذاك البريق المضيء في عيني ذاك الوحش، بات جاثمًا في ذهنها بلا حراك.
وإن كانت هذه غرفة لايل، فمَن كان إذًا ذلك الكائن الذي رأته للتو؟
تفكير لوسي لم يكن بعدُ بالمرونة الكافية، فقد استيقظت توا.
حتى أمام ردود فعل لايل المثيرة للريبة، لم تستطيع أن تربط بينه وبين ذاك الوحش.
“لايل، هذا المكان غريب. قد لا تصدّقني، لكنّني رأيتُ في غرفتك وحشًا…”
“لوسي.”
قال اسمها فقط.
“هاه؟”
“أمسكي.”
“……؟”
“قلتُ أمسكي.”
كانت نبرته آمرة وحازمة، لا مجال للبس فيها.
لكنّها لم تكن قاسية بالكامل، فصوته لا يزال يحمل لطفًا ما.
“…….”
فتحت لوسي فمها، ثمّ أُسقط في يده شئ ماا.
في تلك اللحظة فقط، أدركت أنّ هذه الغرفة، وهذا الشخص… كلاهما غريب.
فتراجعت خطوةً إلى الوراء بدل أن تمسك يده.
“أنا…”
تنفّس لايل بتنهيدةٍ طويلة وكأنّه كان يتوقّع هذا منها.
ثم، شيئًا فشيئًا، وصلت يد لوسي المرتجفة إلى حافة السرير.
ما بقي إلّا أن تنزلق لتسقط.
“ليس خيارًا جيّدًا.”
ماذا؟
أرادت أن تسأله فورًا، لكنّ بصرها الذي بدأ يعتاد الظلام، قطع عليها السؤال.
خُيّل لها ظلٌّ باهت في حدقة عينها المرتعشة.
وفجأة، لمحت أن شعره بدا مختلفًا.
“لايل، شعرك… لماذا يبدو هكذا؟”
أخذت تشكّ في عينيها.
شعره، الذي لطالما كان أكثر سوادًا من الليل، بدا أبيض باهتًا.
تمامًا كذاك الوحش الذي رأته قبل أن يُغمى عليها.
وفجأة، انقشعت الغيوم وانبثق ضوء القمر من النافذة.
مرّر لايل يده في شعره وقال بهدوء:
“هذا؟”
على عكس لوسي التي كانت تبدو في ذروة الارتباك، كان لايل هادئًا بشكلٍ يثير القلق، بينما كان يسرّح شعره الثلجي.
ومع حركته تلك، انعكس ضوء القمر على جبينه وعينيه الذهبيّتين اللتين تلألأتا في الظلام.
ارتعشت عينا لوسي كأنّها شجرة صفصاف، فيما انعكس فيهما شعره الأبيض وتلك العينان الذهبيّتان الطوليّتان الشبيهة بعين الوحش.
وقبل أن تستوعب ما تراه، انزلقت يدها التي كانت تتشبّث بحافة السرير.
حتى وهي تسقط، لم تستطع أن تبعد عينيها عن عيني لايل المخيفتين.
ومع نظراتها تلك، أمسك لايل بمعصمها.
“اليوم، يبدو أنّك تفزعين بسهولة.”
قالها وكأنّه يتحدّث عن شخصٍ آخر، رغم أنّه السبب.
كانت قبضته باردة إلى حدٍّ يبعث على الرعب، أبعد ما يكون عن دفء البشر.
“لماذا، لماذا تفعل هذا؟”
سألت بصوتٍ مرتجف، و جسمها لا يزال في وضعٍ مائل للخلف.
مال لايل برأسه جانبًا وسأل:
“هل تسألين لأنّك لا تعرفين؟”
كان وجهه بريئًا على نحوٍ غريب، على عكس وجه لوسي المتجهّم الذي لم يفهم شيئًا.
عندها، ابتسم لايل، أصفى ابتسامةٍ له حتى الآن.
“هكذا إذًا؟ لا تعرفين؟”
جيّد إذًا.
لكنّ لوسي لم تستطع أن تفهم ما الذي يجده جيّدًا.
غير أنّها، في لحظةٍ مفزعة، أدركت أمرًا واحدًا فقط.
أنّها بلغت، في النهاية، ذاك المستقبل المرعب الذي ضحّت بكلّ طفولتها في سبيل منعه.
لماذا؟
هل يمكن… أنّه أحبّ أختي ديوليتا دون أن أعلم؟
لكنّه لم يُبدِي أيّ علامة على ذلك… أبدًا.
ارتجف جسد لوسي بالكامل، فقال ريير بنبرة مشفقة:
“لا تخافي كثيرًا. ستضطرّين لرؤية هذا الوجه إلى أن تسأمي منه، شئتِي أم أبيتِي.”
كان ذلك أشبه بوعدٍ ضمني بأنّه لن يقتلها.
وهكذا، وسط ذلك المستقبل المظلم، بزغ بصيص أملٍ في قلب لوسي.
تمسّكت بتلك الشعلة الهزيلة وسألت بخوف:
“ألن، ألن تقتلني؟”
رغم كلّ شيء، نحن أصدقاء…
مرّت لحظة صمتٍ ثقيلة، قبل أن يلمع وجه لايل بوميضٍ حاد، كأنّ وحشًا مرّ بعينيه.
لم يفُت لوسي أن تلاحظ ذلك التغيّر المخيف.
عاد الرعب ليتضخّم في داخلها.
“أقتلك؟”
ضحك بخفّة، وكأنّ شيئًا لم يحدث.
لكنّ عينيه ظلّتا حادتين، تشعّان بجنونٍ غريب.
“بل أراكِ كنزًا عليّ أن أحتفظ به إلى الأبد.”
“إلى الأبد…؟”
ردّدت لوسي كالبلهاء.
“لوسي.”
“أ-أجل…؟”
“لماذا تظنّين أننّي قد أقتلكِ؟”
ثمّ شدّ على يدها وسحبها إليه بقوّة.
مال جسدها نحوه، حتى أنّه كاد أن يغرق في صدره، لولا أنّها تماسكت في اللحظة الأخيرة.
امتلأت عيناها بذلك الصدر العريض الذي لم تره من قبل.
تجمّدت أنفاسها.
“انظري إليّ.”
“…….”
أنا أنظر… فقط ليس إلى وجهك.
يبدو أنّ لايل لم يكن يولي الكثير من الاهتمام لمظهره، فقد بدا غير مرتّب كما لو أنّه لم يخرج من المنزل منذ أسبوع.
صدره مكشوف، ملابسه غير مرتّبة.
ولوسي، مهما كانت لا مبالية، لم تستطيع أن تتجاهل ذاك المنظر.
وفي لحظة تردّد، قرّرت أن تنظر إلى عينيه مباشرةً كما طلب.
لكن ما إن فعلت، حتّى عضّت على أصابع الندم.
كان ذاك الشخص الذي ينظر إليها الآن… شخصًا آخر.
هل… هل تحوّل بالفعل؟
احتمال وارد، بل متوقّع.
ولو لم يكن كذلك، لما احتاجت لوسي أن تقاتل بكلّ ما أوتيت من قوّة لمنعه.
غصّة.
من فرط التوتّر، بلعت ريقها الجاف، وبالكاد ارتجف حنجرتها.
“ألن تجيبي؟”
قالها لايل بنفاد صبر.
كانت عيناه تسرحان في عنقها.
دون أن تدرك ما الذي يحدّق به، أجابت لوسي بتردّد:
“لأنّ شكلك… شكلك الآن…”
يشبه الوحش تمامًا.
وما الذي يفعله الوحش؟ يقتل البشر ويصطادهم.
كان صوت لوسي يرتجف وهي تحاول الكذب عليه.
أرادت أن تُخفي عنه أنّها تعرف الرواية الأصليّة.
الرعب وحده لم يكن كافيًا… كان عليها أن تكذب أيضًا.
“هل لا يعجبك؟”
“ماذا؟”
“هل تفضّلين اللون الأسود؟”
ما علاقة ذوقي الآن؟!
“إن كنتِ تفضلينه، سأغيّره مجدّدًا.”
قالها وهو يرفع يدها ويضعها على وجنته.
“سأحقّق لكِ كلّ ما ترغبين به، بشرطٍ واحد فقط.”
“لايل…؟”
ارتجفت لوسي وهي تحاول سحب يدها.
لكنّ لايل لم يبتسم هذه المرّة، بل قال بجديّة:
“عليكِ أن تحبّيني أنتِ أيضًا.”
ترجمة:لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 77"