ارتعد جسدي لا إراديًّا من المنظر أمامي.
رغم أنّها كانت تركض بسرعةٍ مذهلة، لم يضطرب تنفّسها ولو للحظة، وظلّ وجهها خاليًا من أيّ تعبير.
لأكون صريحة، كانت هيئةً تبث على الرعب حقًّا.
وحين استعدتُ وعيي، وجدتُ نفسي أُدير ظهري وأهرب منها بغريزةٍ بحتة.
“لِـ… لماذا تفعلين هذا؟!”
صرختُ وأنا أستدير بين الحين والآخر بخوفٍ بالغ. لكنّها ظلّت مغلقة فمها، تواصل ركضها تجاهي دون أن تنبس بكلمة.
‘مـ… مخيفة!’
من هذه؟! ولماذا تفعل ذلك؟!
لم تَطل أفكاري كثيرًا، إمّا لأنني بطيئة، أو لأنّها كانت سريعة جدًّا.
فحين التفتُّ إلى الوراء، رأيتُها تقترب منّي وعيناها تلمعان بشرارةٍ مرعبة.
في اللحظة ذاتها، رفعت المكنسة التي تحملها عاليًا.
فزعتُ وارتميتُ على الأرض بسرعةٍ، أُغطي رأسي بذراعيّ.
لكنّ المكنسة لم تكن موجّهة إليّ.
طَق! طَق! طَق! طَق!
بينما كنتُ أغمض عينَيّ استعدادًا للألم القادم، تناهت إلى سمعي أصوات ارتطام مكتومة.
رفعتُ ذراعيّ بخفّة، ونظرتُ نحو مصدر الصوت.
وهناك، بعيدًا عنّي، كانت تضرب شجرةً ضخمة بالمكنسة مرارًا وتكرارًا. حدّقتُ فيها بدهشة بالغة.
وسرعان ما بدأت الطيور المختبئة بين الأغصان تطير صارخةً بصخبٍ أكثر من ذي قبل.
قالت المرأة بصوتٍ خالٍ من الانفعال:
“على أيّ حال، رؤوس الطيور تلك، لا يفهمون حتّى حين أطلب منهم الهدوء.”
ثمّ أضافت بنبرةٍ مملوءة بالضيق:
“إن أحدثتم ضجّة، فأنا هي من تُوبَّخ.”
وبعد أن أنهت مهمّتها، التفتت إليّ وسألت:
“هل أنتِ ضيفة؟”
وكأنّها انتبهت لوجودي لتوّها. ورغم أنّها توجّهت إليّ بالسؤال، ظلّ صوتها خاليًا من أيّ إحساس.
أجبتُها متلعثمة:
“آه، نعم. جئتُ لأقابل لايل… هل تعملين هنا؟”
ربّما كانت كذلك، لكنني لم أشأ أن أتكلّم معها بصيغةٍ متهاونة.
“نعم. بدأتُ العمل هنا منذ أيّام كـ…خادمة…”
ثمّ قطعت حديثها فجأة وهي تعرّف نفسها كخادمة. وبعد لحظة، قالت بنبرةٍ توحي بالارتباك، دون أن يظهر على وجهها أيّ حرج:
“همم… هل سيكون من الوقاحة إن لم أُفصح عن اسمي؟”
يا لها من لامبالاةٍ عجيبة. كيف لشخصٍ أن يقدّم نفسه بذلك البرود؟!
وفوق ذلك، كانت تبدو وكأنها ما زالت تفكّر إن كان عليها أن تُصرّح باسمها أم لا.
وأنا التي كدتُ أسقط من الفزع بسببها!
رمقتُها بنظرةٍ منزعجة، علّها تستشعر غضبي، لكنها ربّما لخطئها في تفسير نظرتي تنفّست بعمق وقالت:
“نادِني بـ مامون.”
اقتربت مامون منّي وسألت:
“هل أُساعدكِ على الوقوف؟”
كان مظهرها يبعث على الغرابة، فقد كانت ترتدي الأسود من رأسها حتى أخمص قدميها.
لكنّني كنتُ أشعر بالحرج بالفعل، ورفضتُ أن تستندني بسرعةٍ بالنهوض بمفردي.
مامون، بالنسبة لامرأة، كانت طويلة القامة. لذا، رغم أنّني وقفت، بقيتُ أنظر إليها من أسفل.
سألتني من جديد:
“هل جئتِي لتقابلي سيّدي الوقور؟”
“سيّدي الوقور…؟”
“أقصد، السيّد لايل.”
“آه، نعم.”
‘ما هذا اللقب؟ لماذا تناديه بذلك؟’
بدأتُ أشعر مجددًا بالرعب من تصرّفات مامون وكلامها. لذا بدأتُ أبتعد عنها بخفة، تحسّبًا لأيّ طارئ.
لكنّها لم تبدُو مهتمّةً بحركتي.
“هل ستدخلين القصر إذًا؟”
كانت تحدّق فيّ بعينيها السوداوين الخاليتين من الحياة.
تردّدتُ وسألت:
“لقد أرسلتُ رسالة مسبقًا… لكن، هل لم تصلكم أيّة أخبار؟”
فأجابت دون تردّد:
“نعم، لم أُبلّغ بشيء.”
‘هل هذا يعني أنّني لا أستطيع الدخول؟’
‘لماذا لم تُخبرني بذلك مسبقًا؟ الآن وضعتني في موقفٍ محرج.’
نظرتُ إلى مامون وإلى مدخل القصر بالتناوب بوجهٍ حائر، فما كان منها إلّا أن قالت بلا مبالاة:
“إن كنتِ ستدخلين، فلن أمنعكِ. غرفة السيّد تقع في الطابق الثالث، آخر غرفة جهة اليمين.”
‘إذا يُمكنني الدخول؟!’
كان واضحًا أنّنا لم نكن نفهم بعضنا. أو بالأحرى، أنا من لم أُحسن تفسير كلامها.
كنتُ على وشك أن أسألها عن سبب أدائها لوظيفتها بهذا الشكل الفوضوي، لكنّها بادرت برفع المكنسة من جديد.
“كفّوا عن هذا واغربوا عن وجهي!”
“كاااااك! كااااك!”
طارَت الطيور وهي ترفرف هاربةً من مكنستها، وكأنّ طرد الطيور هو عملها الرئيسي.
قالت فجأة:
“هل ترغبين بأن أرافقكِ؟”
يبدو أنّها لاحظت نظرتي إليها، وأرادت إظهار بعض اللطف، وإن لم يبدُو ذلك طبيعيًّا عليها.
لكنّني لم أكن أرتاح لها، فهززتُ رأسي بالنفي رفضًا.
أومأت برأسها وكأنها فهمت، ثمّ بدأت تركل جذع الشجرة هذه المرة.
“ششش! ششش! اخرسوا كلكم!”
‘بصراحة، الذهاب وحدي يبدو أأمن.’
***
حين دخلتُ القصر، استقبلتني برودةٌ قاسية اخترقت صدري.
لم تكن حرارة الداخل تناسب هذا الفصل أبدًا، فضممتُ جسدي تلقائيًّا.
“الطابق الثالث، آخر غرفة جهة اليمين…”
كان الدرج أمامي مباشرة، فلم أواجه صعوبة في العثور عليه.
وأثناء صعودي، ألقيتُ نظرة سريعة على الممرّات في الطابقين الأول والثاني.
الغريب أنّه لم يكن هناك أيّ خادم غير مامون.
لولا لقائي بها، لكنتُ ظننتُ أنّ لايل لا يملك أيّ خدمٍ على الإطلاق.
والأعجب، أنّ جوّ القصر من الداخل كان أكثر رهبة من صياح الغربان في الخارج.
البرودة، الهدوء، كلّ شيء هنا يوحي بالمرض أو الجنون.
غصتُ في أفكاري حتى وجدتُ نفسي في الطابق الثالث.
ربّما لأنّ كلّ طابقٍ كان أطول من المعتاد، فقد استغرق الأمر وقتًا للوصول إلى الأعلى.
“الممرّ الأيمن… آخر غرفة…”
نظرتُ حولي، وسرتُ وفقًا لتعليمات مامون. وكما لاحظتُ سابقًا، بدا المكان نظيفًا بشكلٍ مفرط، فلا أثر للغبار أبدًا.
من المؤكّد أنّ لايل هنا… لكنّ الجوّ الهادئ جعلني أشعر وكأنني وحدي في القصر.
رغم أنني خفّفتُ خطواتي قدر الإمكان، فإنّ وقعها بدا واضحًا جدًّا وسط هذا الصمت الموحش.
‘هل من الطبيعي أن يكون زيارة صديق بهذا القدر من الرعب؟’
جئتُ لأطمئن عليه، لكنّني لم أعد أرغب بالعودة إلى هنا مجدّدًا.
وأخيرًا، وصلتُ إلى الغرفة التي أظنّ أنّها غرفة لايل. تنفّستُ بعمق واستعددتُ للطرق.
“لاي…”
صرير—
قبل أن أطرق الباب، سُمع صوتُ صريرٍ خافت.
كان الباب غير مغلقٍ بإحكام، فتكوّنت فيه فجوة بسيطة.
“…”
هل لايل فتحه لي بعد أن شعر بقدومي؟ لا، الفتحة ضيّقة جدًّا لذلك.
بلا وعي، وجّهتُ نظري إلى الداخل.
ورأيتُ من بين الفجوة سريرًا أبيض، وشخصًا ذو ظهرٍ عريض جالسًا عليه. رمشتُ ببطء، ثمّ أمسكتُ بمقبض الباب.
وفجأة—
“…”
رفع الرجل رأسه، الذي كان مطأطأً كمن سيهوِي أرضًا.
وفي اللحظة التي تحرّك فيها، ظهرت خصلات شعرٍ أبيض كانت مخفيّةً خلف كتفيه العريضين.
‘هل أخطأتُ الغرفة؟ ربما هذا الممرّ هو الأيسر وليس الأيمن…’
بدت ملامحه غريبة. لم أتعرف عليه. شعرتُ كأنّني أتجسّس على شخصٍ غريب.
فسحبتُ يدي من المقبض بسرعة.
لكنّ الرجل حوّل نظره إليّ ببطء، كما لو أنّه كان ينتظر اللحظة.
تلاقى نظرنا.
كانت عيناه من الذهب الممزّق طوليًّا تمامًا مثل الوحوش الشيطانية التي رأيتُها في القصر الإمبراطوري.
شعرتُ بالقشعريرة تتسلّل من قدميّ.
صرختْ غريزتي:
“اهربي!”
لكنّني لم أستطع. فقد تلاشت قواي أمام عينيه المذهلتين، وسقطتُ على الأرض.
حتى حين واجهتُ وحشًا سحريًّا في القصر، لم أشعر بهذا الخوف.
ارتعشتْ يداي المستندتان على الأرض.
حاولتُ تمالك نفسي، أغمضتُ عينيّ بشدّة ثمّ فتحتهما.
لكنّها كانت خطوةً خاطئة، فقد ارتفعت رغبة التقيّؤ في داخلي فورًا.
خجلتُ من حالتي، خفضتُ رأسي وسددتُ فمي بكفّي. كان التنفّس صعبًا، تمامًا كما حدث حين فقدتُ الوعي سابقًا.
بدأت أنفاسي تتسارع، وضغطتُ على رأسي بيدي الأخرى لأخفّف الألم.
لكنّ الصداع لم يزُل. وحين بدأت أطرافي تفقد سيطرتها، سمعتُ صوت خطواتٍ تقترب.
لم أحتج لرؤيته لأفهم الوحش، كان يقترب منّي.
“أوُغ…!”
حاولتُ النهوض، لكنّ الغثيان أسكتني. أمسكتُ بفمي من جديد، أتنفّس بصعوبة.
وفجأة—
توقّفت الخطوات.
ثمّ شعرتُ بوجودٍ كثيفٍ أمامي مباشرة.
كان قلبي ينبض بعنف. لم أجرؤ على رفع رأسي. كنتُ خائفة من رؤية وجهه.
لكن، رغم إرادتي، بدأت رأسي ترتفع ببطء.
كأنّها قطعة آلة صدئة تتحرّ
ك بلا زيت.
ثمّ وقعت عيناي على ذقنه.
‘ربّما من الأفضل أن أُغمض عينيّ.’
لكنّ عينيّ تجاهلتا قراري، وارتفعتا ببطء.
وحين هممتُ برؤية وجه الوحش كاملًا..
شعرتُ بدوارٍ كأنّني أُصبتُ بالإغماء، وسقط رأسي على الأرض مع صوت دوري خافت
ثمّ ابتلع الظلام كلّ شيء.
ترجمة:لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 76"