ما إن رفعتُ جفنيّ الثقيلين، حتّى اخترق ضوءٌ ساطع عينيّ بشدّة. فانعقد حاجباي من تلقاء نفسي.
جلستُ ببطء، فدخلت مشاهد الغرفة المألوفة إلى مجال بصري. ظلّ نظري شارداً في الفراغ، بعينين لا تزالان عالقتين في ضباب النعاس.
‘لوسي في الرواية الأصليّة كانت عديمة الذوق فعلاً…’
كان هذا أوّل ما خطر لي فور استيقاظي.
لمَ افترضتُ أنّها ستكون مثلي تمامًا؟
باستثناء أنّها كانت صديقة لـ لايل منذ الطفولة، لم أكن أعرف شيئًا عن شخصيّتها.
لكن، مع ذلك… أليست وقحة بشكل مفرط؟
رغم أنّ الأمر ليس مؤكّدًا بعد، فإنّ الاحتمال الأقرب حتى الآن هو أنّ أحلامي ترتبط بأحداث الرواية الأصليّة.
لكن لماذا بدأتُ أراها الآن فقط؟
وما كدتُ أُطلق سؤالاً آخر، حتّى دوّى صوتُ قرقرة في بطني عاليًا. عندها فقط أدركتُ كم أنّ معدتي كانت خاوية تمامًا.
لاحقًا، عرفتُ من سارة أنّني كنتُ في غيبوبة طوال الأسبوع الماضي تقريبًا.
***
المشكلة أنّ لايل، منذ اليوم الذي فقدتُ فيه وعيي، انقطع تمامًا عن زيارة قصرنا.
بينما كنتُ أُهدّئ بطني الفارغ بقليلٍ من الحساء، سألتُ ساهيةً:
“اليس هناك أخبار عن لايل؟”
كان صوتي مبحوحًا بعد انقطاع طويل عن الكلام، ويبدو أنّ سارة استغرقت بعض الوقت لتفهم ما قلتُه، فظلّت ساكنة للحظة.
ثمّ ما لبثت أن غادرت الغرفة مسرعة وهي تقول إنها ستعود بعد قليل.
بعد فترة قصيرة، عادت تحمل ظرفًا واحدًا، ناولتني إيّاه بلطف.
“أظنّ أنّه من السيّد لايل. لم أشأ فتحه من دون إذنك، لذا تركته كما هو.”
شرحت لي سارة الموقف باحترام. فأومأتُ برأسي وأنا أُخرج الورقة من الظرف.
[سآخذ راحة لبعض الوقت بسبب المرض.]
تكوّنت الرسالة من سطرٍ واحد فقط، فظللتُ أرمش كالمصعوقة.
مريض؟
لا أعتقد أنّه يكذب. لم يسبق لنا أن تشاجرنا بهذا الشكل من قبل، لكنّي أعلم أنّه ليس من النوع الذي يترك عمله جانبًا لمجرّد خلاف.
وما إن وصلتُ إلى هذا الحدّ في التفكير، حتّى بدأتُ أسترجع يوم الشجار بيننا.
“لا يوجد ما يدفعني للاستعانة بك في مثل هذه الأمور.”
أنا… نعم، لقد بالغتُ في كلامي.
غضبتُ من بروده المبالغ فيه، لكنّي كنتُ أعلم من داخلي أنّني تماديت.
راودتني رغبة في الحديث معه بصدق إن أُتيح لي لقاؤه مجدّدًا.
“لكن… كم يعني لفترة؟”
ما إن قرّرتُ الاعتذار، حتّى راح موضوع مرضه يُقلقني.
أين يؤلمه؟ هل زار طبيبًا؟ ماذا لو لم يجد أحدًا يعاونه؟
‘ما مرّ وقت طويل على انتقاله… تُرى هل عيّن خدمًا بالفعل؟’
شعرتُ بقلق حقيقي. ماذا لو كان مريضًا هناك في منتصف تلك الغابة المنعزلة، لا يرعاه أحد؟
ويبدو أنّ سارة لاحظت توتّري، فسألت بقلق عمّا كُتب في الرسالة.
فأجبتها بنفس قدر الإيجاز الموجود في الرسالة.
“قال انه مريض.”
لكنّي زدتُ قلقًا بعد النطق بتلك الكلمة.
فأرسلتُ إليه ردًا على الفور. طلبتُ منه أن يرتاح، وإذا تحسّن، فليعد متى أراد.
كنتُ أظنّ أنّه سيردّ على الأقل ليقول: حاضر.
لكنّ يومين مرّا، ثمّ ثلاثة… ولم يأتِي أيّ رد من لايل.
من حسن الحظ، إن صحّ التعبير، أنّ غيابه لم يُحدث فوضى بين الفرسان.
بل إنّ بعضهم تمتم، متمنّيًا استمرار هذا الهدوء.
لم أتوقّع أن يكون صارمًا مع الفرسان إلى هذا الحدّ. تجاهلتُ كلماتهم ومضيتُ في طريقي.
كان هذا أوّل مرّة منذ زمن أطوف في القصر بهذا القدر من الاسترخاء.
كنتُ أرتاح من المهام، تنفيذًا لنصيحة سارة بألّا أجهد نفسي ما دمتُ قد استيقظت حديثًا.
‘…هل أراسلُه مجدّدًا؟’
طالما أنّه لم يردّ بعد، فأمامنا احتمالان رئيسيّان:
إمّا أنّه مريض إلى درجة تمنعه حتى من حمل القلم، أو أنّه غاضب منّي ويتجاهلني.
وفضّلتُ الاحتمال الثاني. لأنّ الأوّل يعني أنّ وضعه الصحيّ في غاية السوء.
وفجأة، سرت رجفة في جسدي كلّه.
ماذا لو كان الأمر كذلك فعلًا؟
قرّرتُ أن أعود إلى غرفتي وأرسل له رسالة أخرى.
لكن ما إن مررتُ قرب البوّابة، حتّى سمعتُ صوتًا مألوفًا:
“سيّدتي الماركيزة، أنت هي الماركيزة سويينت، أليس كذلك؟”
“سينباي رود؟”
ناديتُه بلقب كنّت نستخدمه في الأكاديميّة من دون وعي، فابتسم بلطف وصحّح لي:
“بما أنّنا تخرّجنا من الأكاديميّة، من الأفضل أن تناديني بالسيّد رود أو السيّد إيدروك.”
كان محقًّا.
أومأتُ برأسي، واقتربتُ منه أسأل:
“لكن ما الذي جاء بك إلى هنا؟”
أشرتُ للحرس كي يفسحوا الطريق، فباتت الرؤية أكثر وضوحًا.
“في الواقع، أرسلتُ للسيّد لايل الأسبوع الماضي أعرض عليه العمل معه، لكنه أغلق الباب تمامًا في وجهي ومنعني من الدخول.”
كان يتكلّم بأسى كما لو أنّه فتى صغير، رغم ضخامته.
رغم أنّ تصرّفه لا يُناسب حجمه، لم أُظهر رأيي، لأنّ جزءًا من الخطأ يقع على لايل أيضًا.
“لايل مريض هذه الفترة، لذا هو في راحة حاليًّا.”
“هو؟ مريض؟”
عجيب…
كان واضحًا من نظرته أنّه لا يصدّق.
“آه، تذكّرت… أعتقد أنّه قال لي يوم كنّا في السنة الثانية إنّه يعاني من مرض مزمن.”
“مرض مزمن…؟”
حسب معرفتي، لايل لم يكن يعاني من أيّ شيء. سوى نوبة حُمّى طفوليّة، لم يمرض قط.
أحيانًا، كان يعرج قليلًا بسبب الثعبان في كاحله، لكن ذلك لم يحدث بعد دخوله الأكاديميّة.
“على أيّ حال، إن كان مريضًا فلا بأس. فقط أبلغه أنّه إذا تحسّن، فليتواصل معي.”
وافق ببساطة على المغادرة حالما سمع عن مرضه، فأومأتُ شاكرة لتفهّمه.
طبعًا، هذا مشروطٌ بأن يردّ لايل على رسائلي أصلًا.
حدّقتُ لبرهة في مكان وقوف رود، ثمّ اتّجهتُ إلى المكتب.
كنتُ أعتزم أن أرسل إلى لايل أسأله إن كان بخير فعلًا، وهل يعاني من مرض لم أكن أعلمه.
لكن مرّت ثلاثة أيّام أخرى… ولم يصل ردّ.
***
هل هو حيّ أصلًا؟
كان القلق يتضخّم داخلي يومًا بعد يوم. فلم أتحمّل أكثر، وقرّرتُ أن أذهب إلى منزله بنفسي.
لكنّي أرسلتُ رسالة أخرى على سبيل اللّياقة، ومعها بعض الرسائل الإضافيّة، فبلغ مجموع ما أرسلته خمس رسائل.
[أنا قلقة عليك، هل يمكنني زيارتك؟]
بحساب المسافة بين منزلينا، لا يستغرق وصول الردّ أكثر من يوم.
فإن لم يصل الردّ بحلول ظهيرة الغد، كنتُ سأتوجّه إليه فورًا.
لكن على عكس توقّعاتي، وصل الردّ في اليوم التالي.
[أجل.]
هل تعتبر هذا ردًّا يا هذا؟
حتى وإن كنّا لا نتكلّف بالكلمات الرسميّة، لكن حرفًا واحدًا كهذا؟ أليس مبالغًا في الجفاء؟
شعرتُ ببعض الانزعاج، لكنّه سرعان ما تبدّد. في النهاية، على الأقل هو ما زال حيًّا.
صعدتُ إلى العربة على الفور، وكانت ساقاي ترتجفان طوال الطريق.
حين أصل، أوّل شيء سأفعله هو التأكّد من أنّه بخير… ثمّ سأعتذر عن قسوتي عليه.
كرّرتُ هذه النيّة في ذهني مرارًا أثناء الطريق، وأخبرتُ نفسي أنّ عليّ تحذيره من التصرّف بجسده كما لو أنّه شيء بلا قيمة، فقط لأجل من حوله.
بينما كنتُ أرتّب تلك الأفكار، توقّفت العربة.
“سيّدتي الماركيزة، لقد وصلنا!”
استفقتُ على صوت السائق، ونزلتُ بسرعة من العربة.
ثمّ اقتربتُ منه وقلت:
“سأدخل فقط لأطمئنّ على لايل. انتظرني قليلًا هنا.”
“بكلّ سرور، خذي وقتك كما تشائين.”
ابتسم السائق بوجه طيّب، لكنّه سرعان ما نظر خلفي، إلى الطريق الجانبيّ، وبدت عليه ملامح القلق.
“هل تريدن أن أرافقك؟ الطريق مخيف بعض الشيء.”
“لا داعي. لايل قال إنّه لا يبعد سوى عشر دقائق مشيًا.”
كنتُ أشعر بالحرج من طلب مرافقة السائق، خصوصًا أنّه رجل مسنّ، ومن الأفضل ألا يُجهد نفسه.
“لكنّه قال إنّك ستحتاجيت عشرين دقيقة.”
“…ح-حسنًا، سأسرع الخطى.”
يبدو أنّ ذاكرة السائق حادّة جدًّا رغم سنّه.
ضحكتُ بخجل، ثمّ استدرتُ لأدخل الطريق المليء بالأشجار.
وبما أنّ الوقت كان نهارًا، لم يكن المكان مرعبًا كما ظنّ السائق.
كااااع–.
لكن… لماذا هناك هذا العدد من الغربان؟
الغريب أنّ أصواتها تتردّد بوضوح، لكن لا أثر لأيّ طائر في السماء.
“…لا، لا شئ مرعب.”
قلتُ لنفسي بضع كلمات لأتشدّق بشجاعة زائفة. فصرتُ أسرع بالمشي تلقائيًّا.
بعد مسافة كادت تُنهك قدميّ، انفتح المشهد أمامي، واخترق الضوء ظلال الأشجار.
من الواضح أنّ الأشجار تنحسر هناك فقط، ما يعني أنّ القصر لا بدّ أن يكون هناك.
وفعلًا، انكشف المنظر أمامي.
“آه… المكان… أفضل ممّا توقّعت.”
كان قصرًا واسعًا وحديقةً فسيحةً، على عكس توقّعاتي.
لا أعلم لماذا لم يكن ظاهرًا من الأسفل.
وبغضّ النظر عن دهشتي، كانت عيناي تمسحان العشب الأخضر بإعجاب.
ما أدهشني لم يكن حجم القصر، بل نظافته المفرطة، وحديقته المرتّبة بإتقان.
رغم غياب الزهور، إلا أنّ آثار العناية واضحة.
لكن، بخلاف ذلك، كان الصمت يعمّ المكان بشكلٍ غريب.
كااااع–.
صوت الغربان ما يزال يتردّد من الخلف.
بل كان يعلو أكثر فأكثر، ما دلّ على أنّها ليست غرابًا واحدًا أو اثنين.
فأسرعتُ إلى مدخل القصر هربًا من ذلك الصوت.
وفي تلك اللحظة…
“…؟ عذرًا، هل تعملين هنا؟”
ظهرت فجأة امرأة ترت
دي زيّ الخادمات.
كانت تمسك بمكنسة كبيرة بيدها.
شعرتُ ببعض الطمأنينة حين رأيت شخصًا يعمل في المكان.
لكنّ مشاعري انقلبت في لحظة.
“آه…؟”
فجأة، اندفعت نحوي الخادمة بسرعةٍ جنونيّة، تلوّح بالمكنسة وكأنّها ستضربني بها.
راحت تقترب وكأنّها تنوي ضربي على الفور.
ترجمة:لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 75"