أتذكّر نظرات أمّي الزجاجيّة وهي تحدّق بدوق مارسِن قائلةً إنّها تحبّه.
‘ما أردتُه هو ألّا تنظري إليّ بتلك الطريقة. لذلك كنتُ أنوي الانتظار حتّى تبادليني المشاعر. ظننتُ أنّكِ، إن اجتهدتُ، فستنظرين إليّ يومًا ما.’
لم أرِيد أن أُصبِح مثل دوق مارسِين.
لكن، إن كانت هذه هي النتيجة الوحيدة لكلّ ذلك… فإنّني…
فجأةً، شعرتُ أنّ جميع الأيّام الماضية كانت عبثًا.
فجأةً، فتح لايل عينيه اللّتين كان قد أغمضهما. عروق الدماء كانت تلمع في عينيه المُسمرّتين نحو الأرض.
لسببٍ ما، لم تبدُو له هذه الحالة غريبةً.
كأنّه كان يتوقّع أن يصل إلى هذه النّقطة.
“هل أصبحتَ بخير الآن؟”
سأله الثعبان، الّذي التهم قلبه، بصوتٍ لم يُسمع. فأجابه لايل بصوتٍ بلا أيّ مشاعر:
“أجل، افعل ما تشاء.”
كانت في عينيه المظلمتين شرارة جنونٍ غريبة.
صحيحٌ أنّه سلّم جسده للشيطان طوعًا، إلّا أنّ لايل لم يتخلَّى عن أيّ شيءٍ بعد.
***
كان قلبي ينبض كمن ركض طويلًا، كان تنفّسي كذلك أسرع من المعتاد.
دخلتُ إلى المكتب وأغلقتُ الباب خلفي، ثمّ اتّكأتُ عليه ألهث بشدّة. ومع هذا، لم يهدأ أيّ شيء.
هل هو بسبب اضطراب تنفّسي؟ شعرتُ كأنّ رأسي يدور، ودوخةٌ قوية لفّتني.
حتى وسط هذا الاضطراب، كان يؤرّقني أنني تركتُ لايل وحيدًا. لكن، في الوقت ذاته، كنتُ غاضبة.
كنتُ خائفة من مدى ما قد يفعله باسم “كلّ هذا من أجلكِ”.
شيئًا فشيئًا بدأت رؤيتي تتشوّش. كنتُ أشعر بدوارٍ شديد، كأنّه لا مانع إن سقطتُ في أيّ لحظة. فتمسّكتُ بحافة الكرسيّ القريب لأستند إليه.
“لوسي، لوسي… لا تتركيني…”
قبل أن أغيب عن الوعي، خطرت ببالي صورة الطّفل الصّغير الذي كنتَ عليه ذات يوم.
آسفة لأنّني تركتُك.
لكنّني، هذه المرّة… كنتُ غاضبة حقًّا.
بمجرّد أن قدّمتُ اعتذارًا له في قلبي، تدفّق دوارٌ لا يُحتمل عبر جسدي.
وحين أغمضتُ عينيّ، غمرني الظّلام الحالك فورًا.
***
رغم أنّني فقدتُ الوعي بلا إرادتي، لم تكن جفوني ثقيلة حين فتحتها.
فتحتُ عينيّ بسهولة، فرأيتُ سقفًا مألوفًا.
قصر دوق مارسِين. تحديدًا، سقف أحد الممرّات.
‘لماذا أنا مستلقية هنا وحدي؟’
شعرتُ أنّ الغثيان الذي انتابني قد هدأ قليلًا، فجلستُ ببطء أتلفّتُ حولي.
“هل… هل أتيتِ لرؤيتي…؟”
سمعتُ صوت لايل الصغير ينبعث من مكانٍ قريب. فالتفتُّ تلقائيًّا نحو مصدر الصّوت.
وكما توقّعت، كان لايل هناك. وطبعًا، أمامه كانت هناك أنا حين كنتُ طفلة.
حين ناولتُ الخادمةَ معطفي، ارتسمت على وجه لايل نظرة رجاءٍ وترقّب.
“انك تشبهها.”
أجبتُه أنا الحاضرة هناك ببرود.
كان الاختلاف في المشاعر بيني وبين نفسي في الحلم واضحًا كما دائمًا.
وبرغم الردّ الفاتر، احمرّت وجنتا لايل بفرحةٍ خجولة.
أما أنا الطفلة، فنظرت إليه ببرودٍ خالٍ من المشاعر، ثمّ مررتُ بجانبه نحو الأمام.
“اتبعني.”
كأنّني أنادي خادمًا. ومع ذلك، لم يُظهر لايل أيّ انزعاج، وتبعني بخطًى هادئة.
وكأنّني مسحورة، وقفتُ بدوري وتبعتُهما.
‘كم كان عمري آنذاك؟’
لا أتذكّر بدقّة، لكنّي تبعتُ الصّغيرين حتّى وجدنا أنفسنا داخل غرفة لايل.
أنا الطفلة دخلت الغرفة كما لو كانت غرفتي الخاصة. ولم يعارض لايل، بل تبعها مطيعًا.
يا له من حلمٍ لم أره منذ وقتٍ طويل.
‘هل حلمتُ به لأنّني تشاجرتُ مع لايل؟’
لكن، في المرّتين السابقتين، لم أتشاجر معه، ومع هذا حلمتُ أيضًا.
‘لا أرى نمطًا واضحًا.’
لكن، بما أنّها المرّة الثّالثة، تمكّنتُ على الأقل من التّفكير بهدوء أكثر.
جلستُ على الأرض قرب الطفلين، وهما أصغر منّي بمرّتين على الأقل. على أيّ حال، لن يراني أحد، وقد أستيقظ في أيّ لحظة.
فكّرتُ أنّه من الأفضل مراقبة تصرّفات نفسي الصغيرة، وما المفاجأة التي ستفجّرها هذه المرّة.
“أنا قلقة، لذلك لا أستطيع تركك.”
“هآه…؟”
“أشعر بذلك. نوعًا ما.”
رغم أنّها قالت إنّها قلقة، كان وجه الطفلة مليئًا بالضّجر.
رغم أنّها جاءت لرؤية لايل، أجابت على سؤاله ببرودٍ واضح، وكأنّها تتضايق من وجوده.
حدّقتُ بنفسي الطفلة بشدّة التي تحرّكت بخطًا هادئة نحو المكتب في زاوية الغرفة، حيث كان يوجد كتابان سميكان على سطحه.
وللحظة، لمعت في عينيها نظرة اهتمام.
بدا أنّها مهتمّة بالكتب أكثر من اهتمامها بـ لايل.
“هل تقرأ؟”
سألت الطفلة وهي ترفع أحد الكتابين برفق. وما إن تلقّى الاهتمام، حتّى أسرع ليير في الإجابة.
“أ-أجل.”
“زوجة الدوق… هل سمحت لك بالدراسة؟”
“…لا، أفعلها سرًّا مع أختي.”
لم يعجبني كيف كانت الطفلة تفتح جراح لايل بكلّ بساطة. ولم يعجبني أيضًا كيف أجاب على سؤالها بخجلٍ وحرج.
‘العلاقة بين هذين الاثنين…’
بدت لي غريبة، وغير طبيعية.
رغم أنّني لم أرَر سوى ثلاثة أحلام، إلّا أنّني شعرتُ بذلك بشدّة.
“أتستطيع حقًّا تفسير هذا كلّه؟”
“أجل… أختي علّمتني، صحيح أنّ هناك بعض الكلمات التي لا أفهمها، لكنّني أستطيع قراءة معظمها.”
“…”
رغم إجابته، لم تُعره الطفلة اهتمامًا يُذكر، بل كانت منشغلة بتصفّح الكتاب.
ثمّ فجأة، ضحكت بخفّة وأغلقت الكتاب بصوتٍ عالٍ وهي تُسقطه على سطح المكتب.
“سآتي كثيرًا لزيارتك.”
ابتسمت الطفلة فجأةً ابتسامة مشرقة.
لسببٍ ما، أزعجتني تلك الابتسامة الغريبة.
“كثيرًا…؟”
سأل لايل بصوتٍ ملتهفٍ يشعّ فرحًا. يبدو أنّ عبارة “سآتي كثيرًا” أسعدته كثيرًا.
“أجل، كنتُ أشعر بالملل، وهذا جاء في وقته.”
نبرة صوتها كانت كمن عثر على لعبةٍ مسليّة.
نظرتُ إلى نفسي الصغيرة بعينين قلقَتين، وقد بدا على ملامحها أنّها تخفي شيئًا.
كانت الزاوية المرتفعة في ابتسامتها تخبرني بوضوح أنّ لديها هدفًا آخر.
‘هل هذه… أنا حقًّا؟’
لايل البريء، الغرفة التي دخلتها مرارًا وكأنّها غرفتي الخاصّة…
كلّ شيء بدا كما هو.
ما عدا شيء واحد الطفلة التي كنتُها.
‘هل يُعقل…؟’
خطر ببالي فجأة افتراضٌ غريب.
أنّ الأحلام الثلاثة التي رأيتها حتّى الآن، قد تكون قصص “لوسي” الأصليّة في الرواية، لا أنا.
***
بوف–.
حين غاص النصل في اللحم، انتشرت رائحة الدماء في أنفه.
‘قلتَ ، افعل ما تشاء…’
الثعبان، على ما يبدو، لم يُعجبه أنّ لايل يعترض طريقه، فأصدر صوتًا ضجرًا.
لكن، بدلًا من الردّ، غرز لايل السّكين مرّةً أخرى في كاحله.
وحين لم يعُد يتحمّل الألم، انهار جسده بلا حولٍ ولا قوّة على الأرض. وسقط السّكّين الذي كان يمسكه، ثمّ تدحرج أسفل السّرير.
وحين فشلت محاولته في التّغلب على الألم بألمٍ آخر، بدأ لايل يتلوّى على الأرض وهو يتصبّب عرقًا باردًا.
“مؤلم…”
همس بصوتٍ لم يكن ليسمعه أحد، ثمّ أغمض عينيه ببطء. رمشت رموشه المرتجفة والمبلّلة بالدموع والعرق.
“تحمّل.”
ذكرى لم تكن موجودة أصلاً راحت توبّخه من جديد. لوسي، بصوتها الحازم، كانت توبّخه لأنّه يتدلّل ويشكو من الألم.
مدّ لايل يده نحو الفراغ. شعر أنّ لوسي ستُمسك بها. كانت تفعل ذلك في السّابق، أليس كذلك؟
لكن، في هذه الغرفة، لم يكن هناك من يمسك بيده.
فسقطت يده الممدودة على الأرض بلا حول.
كان جسده منهكًا من العرق، ولم تكن فيه قوّة تجعله يعود إلى السّرير.
ولا حتى الموت كان خيارًا.
“هل تفعلين هذا لأنّكِ تكرهينني؟”
‘هل تكرهينني إلى هذا الحدّ، فتطلبين منّي التحمّل رغم هذا الألم؟’
سأل لايل وهو يتلوّى في الذكرى. وكان الردّ، كالعادة، من لوسي.
“قلتُ لك من قبل لا أحبّك ولا أكرهك.”
“بعيدًا عن هذه المشاعر التافهة، هذا طريق لا بدّ لك من عبوره.”
“لا خيار لك، إن أردتَ أن تعيش.”
كان هذا ما تقوله لوسي. ولذلك، حاول لايل أن يتحمّل الألم بعنادٍ.
لم يكن لديه من يبوح له. لذا، كما قالت لوسي، لم يكن أمامه سوى التّحمّل.
‘ما دمتِ تطلبين ذلك، سأفعل.’
لم يجرؤ على مخالفة أمرها.
انتشر الألم من كاحله ليملأ جسده بالكامل. ومع تمزّق أعضائه، تقلّص لايل بانفعالٍ عنيف.
“آه…!”
لم يعد لديه قوّة ليكبح تأوّهاته. فشدّ جفنيه المغلقَين، وإذا بعالمه ينقلب رأسًا على عقب.
تحوّله الجسدي لم يوقظ حواسّه فحسب. بل استخرج من أعماقه ذكرياتٍ كان من الطبيعي أن ينساها.
ظهر أمامه سقفٌ قديم متصدّع، يبدو كأنّه سينهار في أيّ لحظة.
كان ملفوفًا بقطعة قماشٍ بيضاء، محمولًا بين ذراعي أحدهم.
حرّك لايل عينيه نحو من كان يحتضنه.
فوقه، كانت أرينيل أمّه الميتة تنظر إليه بوجهٍ لا يُصدّق.
رؤية أمّه بعد غيابٍ طويل لم تبثّ في قلبه السّعادة. بل، كانت مشاعره تتّجه إلى مكانٍ آخر.
“كما وعدتُك، أنقذتُ ابنكِ…”
انبعث صوتٌ خافت مريب من مكانٍ غير بعيد. كان باردًا لدرجة يصعب تصديق أنّه صوتُ إنسان. ورغم ذلك، أراد لايل أن يرى صاحبه.
حرّك عينيه في الاتّجاه الآخر.
وهناك–.
“والآن، عليكِ أن تحقّقي لي ما أريده.”
كان هناك كيانٌ ضخم، مغطّى بالسّواد، يطوي جسده داخل الغرفة الصغيرة. كان يمتلك جناحين هائلين، وساقه اليمنى قد قُطعت على ما يبدو.
ثمّ، بدأت أجنحة ذلك الكائن ترتجف. وكذلك فعلت ذراعا أرينيل الّتي كانت تحتضن لايل.
بعينيها المرتجفتين، رمقَت ذلك الشّيطان بنظرةٍ ملؤها القهر.
لكنّها لم تستمرّ. إذ سرعان ما تدفّقت دموعٌ من عينيها المفتوحتين بصعوبة.
وسقطت تلك الدّموع على القماش الأبيض الّذي كان يغطّي لايل.
رمش لايل بعينيه.
وفي تلك اللحظة، التفت الكائن السّوداويّ ونظر إلى لايل.
رغم أنّ كلّ شيء كان مغمورًا بالسّواد، كانت عيناه بلون الدّماء القرمزيّة.
حين تلاقت عيناهما عيونٌ مشقوقة عموديًّا فتح لايل عينيه فجأةً وهو يلهث:
“هَأَهْ…! هاه، هاه…”
حين التقت نظراتهما، اجتاحت جسد ليير نشوة لا يمكن وصفها بالكلمات. للحظةٍ،
نسي الألم الذي كان ينهشه.
يده ارتجفت برعشةٍ خفيفة. لم يفق بعد من أثر الصّدمة.
عينان حمراوان متلألئتان وسط جسدٍ مغمورٍ بالسّواد. أجنحة ضخمة، وجسد صغيرٌ نسبيًّا.
حين استعاد هيئته من أعماق الذاكرة، مرّ على وجه لايل لمحةٌ من نشوةٍ عميقة.
لم يحتج الأمر إلى تفسير.
ذلك، كان مصدر وجوده.
ترجمة:لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 74"