ما إن خرج من غرفة الاستقبال حتّى وجد سارة بانتظاره عند الباب، تمامًا كما قالت لوسي.
تبعها دايلر بهدوء، غارقًا في أفكاره.
‘الشكوك موجودة، لكن لا أدلّة ملموسة.’
ظنّ أنّه بلغ القمّة أخيرًا، لكن يبدو أنّه فشل.
كان يعضّ ظفر إبهامه بلا توقّف. ظلّ يعبث بطرف الظفر المقصوص حتّى قارب الدم أن ينزف.
‘هل هي تتحفّظ؟’
في تلك اللحظة، بردت نظرة دايلر فجأة.
على ما يبدو، لم ترفض زيارته رسميًّا من أجل الصورة العامّة، لكن بالمقارنة مع دعوتها له، كانت لوسي تبدي حذرًا مبالغًا فيه.
لذا جرّب أن يقترح لقاءً خاصًّا بينهما، لكن كلّ ما فعلته لوسي هو التهرّب بأعذار سخيفة لا تُقنع أحدًا.
وبين الحين والآخر، كانت ترمقه بنظرات متبرّمة، وكأنّها قد ضاقت به.
والأدهى، أنّ تصرّفاتها لا تشبه أبدًا ما قيل له عنها من قبل.
‘سمعتُ أنّها مغرورة متكبّرة لا ترى غير نفسها.’
فكّر بأنّها قد تكون تمثّل أمامه لكونه من رجال المعبد، لكنّ الأمر بدا عفويًّا أكثر من أن يكون تمثيلًا.
لو كانت تمثّل، لكانت أخفت نظراتها التي تنظر إليه كما لو كان مهرّجًا.
‘هل يُعقل أن شيطانًا عاش مئات السنين لا يُجيد إخفاء ملامحه؟’
بل حتّى حين اقترب منها متقمّصًا دور الفارس المقدّس، لم تسأله عن غايته. كان يمكنها أن تحاول استدراجه.
وفي النهاية، حين ألحّ عليها وهو يسأل إن لم تكن تتساءل لماذا تقدّم لها بالزواج، لم يجد منها سوى صدودًا متكرّرًا.
‘لا يعقل أنّها ليست هي… لكن إن كانت، فهي متواضعة أكثر من اللازم…’
وهكذا، بين شكّ ويقين، بدأت ثقة دايلر التي حسبها راسخة تتلاشى شيئًا فشيئًا.
اقترب من بوّابة الخروج.
ألقى نظرة طويلة على الرواق خلفه، كأنّ قلبه ما زال متعلّقًا بشيء هناك.
‘من المؤسف أن أغادر هكذا… هل أُطلق بضع كائنات صغيرة للمراقبة؟’
لكنّه عدل عن الفكرة على الفور.
إن كانت لوسي فعلًا هي “الملكة” التي يبحث عنها، فلن تعجز عن كشف مخلوقاتٍ تافهة يزرعها في قصرها.
والأسوأ، أنّ الوعاء الذي يحرسها لن يبقى مكتوف اليدين.
“متى ستأتي الفرصة التالية، يا تُرى؟”
بمجرّد أن خرج إلى الخارج، لسعته أشعّة الشمس الحارقة. رفع يده يحجب بها عينيه وتمتم لنفسه.
سمعته سارة وظنّت أنّه يكلّمها، فاستدارت وسألته بتفاجؤ:
“نعم؟”
أجابها بابتسامة هادئة ولوّح بيده، كأنّ شيئًا لم يكن.
***
زيارة دايلر بالأمس صارت حديثًا شائعًا بين الخدم في القصر.
خصوصًا الخدم القدامى الذين عرفوا لوسي منذ صغرها، فقد كان وقع الأمر عليهم أعظم.
“يا ويلي… كيف سيكون حال سيّدنا الآن…”
تمتمت إحدى الخادمات بحزن ما إن خرجت لنشر الغسيل.
سألتها خادمة أخرى خرجت معها، وعلامات الحيرة تعلو وجهها:
“لماذا؟”
كانت خادمة جديدة لم يمضِي على عملها شهر بعد، فلم تكن تعلم بأبسط الأمور التي يُفترض أن تكون بديهيّة.
“لماذا تقولين لماذا؟ ألم يكن هذا أوّل رجل غريب تستقبله الآنسة في القصر؟!”
كلامها قد يُفهم بطرق كثيرة. نظرت الخادمة الجديدة، وتُدعى ريل، إلى زميلتها الأكبر بدهشة.
“لكن أليس السيّد لايل أيضًا رجلًا غريبًا…؟”
“وهل تظنينه كأيّ رجل؟ ثمّ إنّه الآن فارس في القصر، أليس كذلك؟”
‘وما الفرق؟’
تأفّفت ريل في سرّها. شعرت أنّه ينبغي أن يُدعى “السيد” الآن لا “الفارس”، لكنّها لم تجرؤ على مخالفة كلام الخادمة الأقدم منها.
“السيّد لايل يدخل ويخرج من القصر منذ أكثر من عشر سنوات!”
إن فسّرنا كلامها على طريقتها، فهذا يعني أنّ لوسي كانت تسمح لرجل غريب بالدخول منذ عشر سنوات على الأقل.
على عكس فوني، كانت ريل تُحلّل كلامها بعقلٍ بارد.
“أنتِ لا تعلمين لأنّك جديدة، لكن السيّد سيكون صهر هذه العائلة يومًا ما، صدقيني.”
“حقًا؟ هل كان مخطوبًا للسيّدة؟”
سؤال ريل أربك فوني التي كانت تحمل شرشفًا بيدها.
“ل، لا… ليس كذلك تمامًا…”
“……؟”
“لكن هناك شيء ما بينهما!”
صرخت فجأة، ولا يُعرف لماذا كانت منفعلة هكذا لأمرٍ لا يعنيها. ريل لم ترد إثارتها أكثر، فاكتفت بالإيماء.
ثمّ سحبت الغطاء من بين يديها وعلّقته على الحبل.
“لكن… لا تقولي أنّ السيّدة تفكّر بالزواج من ذاك الفارس الجديد؟”
فوني ما زالت عالقة في دوّامة زواج لوسي. أمّا ريل، فلم تكن تهتمّ كثيرًا بالأمر، فردّت ببرود:
“إن قرّرت الزواج، فلتفعل. لكن اليس قائد فرسان فيليا مناسبًا اكثر.”
“ما… ما الذي تقولينه! مناسب؟!”
“طالما أنّ السيّدة رفضت كلّ الخطّابين من قبل، ثمّ دعت السيد دايلر بنفسها إلى القصر، ألا يوحي ذلك بشيء؟”
كانت فوني من أولئك الخادمات اللاتي يُدلّلن لايل كثيرًا، لذا بدا التأثّر واضحًا على وجهها بعد كلام ريل الصريح.
“يا الهي، سيّدنا المسكين…”
“…….”
‘مسكين؟ بأيّ معنى؟’
فجأة نظرت ريل حولها بتحسّب، فقد قرأت الكثير من الروايات التي يظهر فيها بطل القصة فجأة عند ذكره.
لكن لحسن الحظ، هذه ليست رواية… أو هكذا ظنّت.
ما لم تكن تعرفه ريل، هو أنّ:
“هل السيد لايل يحبّ السيّدة فعلًا؟”
“أخيرًا أدركتِ؟”
وكان جسده يخضع لتغيّرات متسارعة بفعل تلك القوى.
“لكنني لم أعمل هنا سوى شهر!”
“وشهر كثير! البعض يعرف من الأسبوع الأوّل!”
لم تدري ريل أنّ فوني بدأت ترفع صوتها شيئًا فشيئًا.
“السيّد يحبّ السيّدة منذ زمن طويل! كلّ من في القصر يعرف هذا! وحدها السيّدة لا تدري! وكأنّها…”
“إن كان الكلّ يعرف والسيّدة وحدها لا تعلم، فربّما… هي بطيئة الفهم قليلًا…”
“هيه! انتبهي لكلامك! السيّدة فقط تفكّر بطريقة تقليديّة ولا تلتفت للاحتمالات الأخرى!”
“لكن هذا تعريف البطء في الفهم…”
مع تغيّر جسده، كانت حواس لايل تتجاوز البشر العاديين. وصارت الأصوات البعيدة تصل إليه بسهولة.
“أقول انتبهي لكلا…”
لكن لم تُكمل.
فوني قطعت جملتها فجأة وكمّت فمها.
نظرت إليها ريل باندهاش ولوّحت بيدها أمام وجهها لتفهم السبب، لكنّ عيني فوني بقيتا ثابتتين على ما خلف ريل، بلا رمشة.
شعرت ريل بقشعريرة تسري في جسدها، فأدارت رأسها ببطء إلى الوراء.
وهناك… كان يقف لايل.
ينظر إليهما بصمت، وهو الشخص الذي كان موضوع كلّ أحاديثهما.
“…….”
ضحك لايل فجأة، ضحكة قصيرة، كأنّها أنفاس مريرة بدلًا من زفرة.
ثمّ قال بصوت بارد:
“ذكروا أنّ عروض الزواج كانت تنهال باستمرار…”
لم يقل أحد ذلك فعلًا، لكن لم يكن لأحد أن يعارض دقّة تعبيره.
شعرت فوني بذنبٍ عظيم، وعضّت على شفتها من شدّة تأثّرها بمشهد لايل الحزين.
أمّا ريل، فقد بدأت تتخيّل كيف أنّها قد تُطرد قريبًا من القصر الذي اشتهر بأنّه الأفضل للخادمات.
‘أخيرًا دخلت هذا المكان بعد جهدٍ عظيم…’
غطّت وجهها بيديها في حسرة.
وكان العرق يملأ راحتيها من فرط التوتّر.
***
“دايلر؟”
سأل لايل، وكأنّه يتأكّد من الاسم. كان قد رأى فارس فرسان فيليا يدخل القصر بعربته البارحة.
هزّت فوني رأسها بسرعة.
“ن، نعم… أعتقد أنّ هذا كان اسمه… لكن لا تقلق، السيّدة حتمًا رفضته!”
“…….”
عندها فقط أدرك لايل سبب تلك الكلمات الغريبة التي بات يسمعها من الخدم مؤخرًا.
ولمّا رأى فوني تحاول مواساته، لم يحتج إلى تفكيرٍ طويل ليُدرك الحقيقة.
‘لماذا أنتِ الوحيدة التي لا تعرفين؟’
الماركيزة، والخدم، وكلّ من عرفه لسنين طويلة…
حتى لو لم يتكلّم، فهم يعرفون.
‘فقط أنتِ… فقط أنتِ لا تعلمين. أو ربّما… تعلمين، لكنّك ترفضين.’
أطال النظر إلى الغطاء الأبيض خلف فوني، ثمّ ابتسم ابتسامة خفيفة.
“أجل.”
هكذا يجب أن يكون. من رفضني لا يمكن أن تقبل بغيري.
رؤية رجلٍ آخر بجانب لوسي… كان كالموت.
لو خُيّر بين الاثنين، لاختار القفز من فوق الجرف.
شدّ فكه تحت تلك الابتسامة.
ثمّ استدار عن ريل وفوني، وخطى خطوةً إلى الأمام.
ترجمة:لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 72"