“مَن الذي أتى؟”
ما إن عدّلتُ وضعيّة جسدي المترهّلة، حتّى ظهر خلف سارة رجل ضخم لا يمكن لجسدها الصغير أن يُخفيه.
شَعره الورديّ المألوف، ومظهره الأنيق الذي يليق بشخصيّة رئيسيّة، كلّ ذلك أخبرني بأنّه نفس الرجل الذي التقيته من قبل.
تقدّم دايلر متجاوزًا سارة، ودخل الغرفة.
رفعتُ بصري إليه وفمي مفتوح بدهشة.
عندها رسم دايلر ابتسامة خفيفة على شفتيه، وأمال رأسه قليلاً إلى الجانب.
فعلتُ مثله، وأملتُ رأسي بدوري.
‘التالي أنت، حسنًا…….’
***
جلس دايلر قبالتي، ونظر بهدوء إلى أنحاء غرفة الاستقبال.
أمّا أنا، فكنتُ أُحدّقه ببلاهة ووجهي يعلوه التعب.
أخيرًا، تكلّم.
“تبدين مرهقة.”
هل أخطأ في اختيار التوقيت؟
وجهه المشرق المبتسم أشبه بوجه طفل صغير.
“لا، حتّى لو أتيتَ في وقتٍ آخر، لكان الأمر كما هو.”
رغم أنّني سبق وتحدّثتُ مع شخصيّات من الرواية، إلا أنّني كنتُ متوتّرة هذه المرّة.
فمع لايل وأختي ديوليتا، كنتُ أعرفهما حتّى قبل أن أتذكّر أحداث الرواية، لذا لم أشعر بالحرج معهما.
“همم، يبدو وكأنّ جوابك محدّد مسبقًا. آمل أن يكون ذلك مجرّد وهم.”
هل كان الأمر واضحًا لهذه الدرجة؟
“طبعًا، إن كان جوابك إيجابيًّا، فسأرحّب به بكلّ سرور.”
قدّمت سارة فنجانًا من الشاي أمام دايلر، فمال برأسه شاكرًا.
ثمّ أعاد نظره إليّ، و نظر بحدّة غريبة جعلتني أرجع جسدي إلى الوراء لا إراديًّا.
“قلتَ إنّك دايلر، أليس كذلك؟ آسفة، لكنني لن أستطيع تلبية توقّعاتك. لا أفكّر في الزواج الآن.”
حسنًا. بهذا، لن يكون هناك شيء يربطني بدايلر بعد الآن.
ولو كنتُ أُمنّي نفسي بأمر إضافي، فهو أن تظهر أختي ديوليتا صدفةً في هذا القصر وتلتقي به… لكنّ ذلك مستحيل.
فلو كانت تنوي زيارة القصر اليوم، لكانت جاءت برفقة السيّدة.
‘……لايل سيتفهم، أليس كذلك؟’
لايل، صديقي، فتى ناضج وطموح بخلاف ما ورد عنه في الرواية. لم يظهر أيّ اهتمام بالعلاقات العاطفيّة، وكرّس حياته كلّها للتدرّب.
لذا، كنتُ أُشجّع علاقة دايلر بأختي ديوليتا بطمأنينة.
“إذًا… هل الأمر يشمل المواعدة أيضًا؟”
“نعم؟”
“لن أطلب الزواج مباشرة، فقط… ألن تقبلي بمجرّد علاقة بسيطة بين رجل وامرأة؟”
ربّما لأني أُعتبر من النمط المحافظ، كدتُ أقول له كيف يمكن لعلاقة بين رجل وامرأة أن تكون “بسيطة”؟
تردّدتُ لحظةً وأنا على وشك الردّ، ثمّ تماسكتُ وأجبتُ بعد انتقاء الكلمات بعناية.
“عذرًا، لا.”
نظرتُ إلى وجهه، متأكّدة أنّه استوعب الرسالة، لكنّي رأيتُ تقطيبة غير راضية على جبينه.
اختفت سريعًا، حتّى شككتُ أنني توهّمتها.
غطّى دايلر فمه وكأنّه في حالة تفكير عميق.
“……؟”
لقد رفضتُه، فلماذا لم يغادر بعد؟
ما زال جالسًا على كرسيّه وكأنّه لا ينوي المغادرة.
“دايلر… حضرة الكونت؟”
هلّا غادرتَ الآن؟
ناديتُه بنبرة جادّة، لكنّه لم يفتح فمه، واكتفى بنظرة جانبيّة نحوي.
الخطوط العميقة بين حاجبيه أوحت بأنّ رفضي كان صدمة حقيقيّة له.
“لم أكن أتوقّع هذا إطلاقًا.”
وأنا كذلك. لم أكن أتوقّع أن يظهر بهذه الطريقة.
في الحقيقة، كنتُ قد نسيتُ أمر دايلر تمامًا.
“عفوًا؟”
“حتى وإن كنت لا أُجيد شيئًا آخر، على الأقل أملك وجهًا جميلًا، أليس كذلك؟”
الآن جاء دوري للحيرة.
ما كانت شخصيّة دايلر في الرواية؟ أذكر أنّه كان ماكرًا ومحبوبًا، يملك روحًا مرحة تدخل السرور على من حوله.
وبفضل هذا الطبع، كسب قلب أختي ديوليتا.
فهو من دعمها حين كانت تُعاني من ضغط دروس الوراثة والمسؤوليّات، وبهذا، أحبّته واختارت الزواج به.
رغم أنّها الآن لا تبدو متعبة كما كانت في الرواية، لكن ذلك ما حصل هناك، ولهذا بدا العمل حينها سوداويًّا أكثر.
فهل يحاول دايلر إضحاكي الآن مستغلًّا شخصيّته المرحة؟
قرّرت أن أتفاعل معه، فابتسمتُ بأقصى ما أستطيع وقلت:
“نعم، وسيم جدًا وطويل.”
ها قد جاملتُك. الآن، ارجع إلى بيتك.
لديّ مخاوف تخصّ لايل سأشغل نفسي بها لاحقًا، ولا وقت لديّ لتضييع طاقتي على شيء محسوم.
لم أكن أعلم أنّني قادرة على التصرّف بهذا البرود، لكنّ الدوقة كانت قد أفسدت مزاجي قبل قليل، فليس ذنبي.
“كنتُ واثقًا. لهذا ظننتُ أنّك ستُعجبين بي إن قابلتِني.”
ثقته بنفسه عالية جدًا. والمشكلة أنّها مبنيّة على أساس، لذا لا أستطيع حتى أن أُكذّبه.
أخفيتُ علامات الإحباط التي بدأت تظهر على وجهي، وقلت:
“لكلّ شخص ذوق، أليس كذلك؟”
لم أُفكّر كثيرًا بالعلاقات من قبل، لكنّني الآن أدركت أنّني لا أتوافق مع شخصيّات مثل دايلر.
هناك دائمًا أولئك الذين لا يتناسبون معك على مستوى الشخصية، حتّى لو لم ترتكبوا شيئًا خاطئًا.
“الذوق مهمّ، وقد تعلّمتُ هذا مؤخرًا.”
حقًا؟ يبدو أنّك تعلّمتَه متأخّرًا.
لم أعرف كيف أردّ، فاكتفيتُ بهزّ رأسي.
“إذًا، كلامك يعني… أنّني لا أُناسب ذوقك؟”
مواجهة شخص يُصرّ على التقدّم مرهقة جدًّا.
تذكّرتُ ميلسيا في أيّام الأكاديميّة، وكيف كانت تتعامل معي رغم نظراتها المليئة بالملل. كانت ملاكًا.
“وهل هناك سبب آخر لرفضي؟”
“أه…….”
لهجة غريبة، كأنّه يُحاول جسّ النبض.
رمقتُه باستغراب، فبادلني بنظرة لطيفة وابتسامة عريضة.
ظننتُ أنني كنتُ حسّاسة، فأجبتُ بهدوء:
“نعم.”
لكن صوتي خرج أقوى ممّا أردتُ.
تمنّيتُ ألّا أكون قد أزعجته، فتفقّدتُ ملامحه.
ثمّ أسرعتُ بتعديل كلماتي:
“أقصد… الذوق لا يشمل فقط المظهر، وإن كان مهمًّا، إلّا أنّني أُولي أهميّة أكبر للصفات الداخليّة…”
“هل هذا يعني أنّكِ لم تُعجبي بشخصي من أوّل لقاء؟”
لقد أخطأتُ، فعلًا.
أسرعتُ بهزّ رأسي ونفيتُ الأمر:
“لا، زلّت لساني فقط. أعني، كلّ شخص يملك طبعًا معيّنًا، وأنا شخصيّتي نشيطة ولا أستطيع الجلوس بهدوء، لذا… شريكي المستقبلي بعد عشر سنوات مثلًا، أتمنّى أن يكون أكثر هدوءًا… و… من النوع الانطوائي أكثر…”
لا ينفع. بدأتُ أخلط الكلام بالكذب ولم أعد أفهم ما أقول.
“إذًا بعد الذوق، الآن الطباع…”
لكن دايلر بدا مشغولًا بأمر آخر، ولم يركّز على كلامي الفوضوي.
تنفّستُ الصعداء سرًّا.
كنتُ أريد أن أكون حازمة، لكنّ نهاية الموقف خرجت بشكل مُزرٍ.
“حتّى لو أخذنا وقتًا لنتعارف… ألن يناسبك ذلك أيضًا؟”
نبرته أوحت بأنّ هذا السؤال الأخير.
فكّرتُ في التظاهر بالحيرة، لكنّني قرّرت أن أكون واضحة، وهززتُ رأسي.
“هاه… هذا مربك.”
“مربك؟”
أيّ شيء بالضبط؟
“آه، فقط زلّة لسان أخرى. لا تهتمّي.”
لوّح بيده ليصرف الموضوع. ردّة فعله السريعة أوحت بأنّه تكلّم دون قصد.
فكّرتُ في سؤاله، لكنّني خفتُ أن يُطيل الحديث.
“بما أنّكِ بهذا الحزم، فلا خيار لي.”
أخيرًا، قالها.
حاولتُ كتم ابتسامتي، وسعلتُ بخفّة.
نهض دايلر وقال:
“سأعود الآن. شكرًا للتفرغ من أجلي.”
نهضتُ بدوري، رغم أنّ السيّدة لم تُمهلني فرصة لوداعها، فإنّ حركات دايلر كانت راقية ومتأنّية.
“سترافقك الخادمة الواقف أمام الباب.”
حاولتُ التصرّف بلباقة أرستقراطيّة، فأجبتُه بجفاء مُتأنّق.
ضحك بخفة، وسأل:
“ألن تسأليني عن سبب تقدّمي لكِ بالزواج؟”
جسدي ارتجف للحظة كأنّه انكشف.
كنتُ أُخفي فضولي خوفًا من أن يظنّ بأنّني مهتمّة به، لذا قرّرتُ ألّا أطرح السؤال من الأساس.
لكن بما أنّه سأل بنفسه، فلا مفرّ.
“همم… لو سألتُك، هل ستُجيب؟”
جمعتُ يديّ أمامي وسألتُ وكأنني لا أعلم شيئًا. فابتسم هو بنفس طريقتي.
“لا، بما أنّكِ رفضتِني، فسأُع
اند ولن أُخبرك.”
“…….”
“لو غيّرتِ رأيك يومًا ما، أخبريني. سأُجيبك حينها. إلى اللقاء.”
بهذه الكلمات العبثيّة، خرج دايلر من غرفة الاستقبال.
وقد تأكّد الآن لا شيء يجمعني بدايلر.
قد لا أعرف مشاعره ناحيتي، لكن أنا… أعلم جيّدًا.
ترجمة: لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 71"