“في مثل هذا الوقت، لا أظنّ أنّ هناك سببًا يدفعني لزيارتك شخصيًّا سوى الحديث عن زواجك، أليس كذلك؟”
ما إن سمعتُ كلمات السيدة حتى تجمّد جسدي من شدة التوتر. للحظة ظننتُ أنني سمعتُ خطأً، فأمعنت النظر إليها.
مرّت لحظات من الصمت، إلا أنّ ملامحها الجادة لم تتغيّر. كانت تنتظر جوابي بهدوء واتزان.
توقّفت لأرتّب أفكاري قليلًا، في ظلّ ما بدا أنّه اهتمام منها، وإن لم يكن كذلك حقًّا.
حديثها عن الزواج… هل يعني أنها تنوي التدخّل لترتيب زواجي بنفسها؟
ربّما أنا الآن أفترض أسوأ الاحتمالات لمجرّد الهروب من كارثة أكبر، لكنّها على الأرجح لم تقصد هذا.
ففي عالم النبلاء، من غير اللائق أن تتدخّل سيدة من عائلة أخرى لا قرابة دم بيننا في ترتيب زواج شخص ما. ذلك قد يُعدّ تقليلًا من مكانته.
ورغم أنّي لا أعرف السيدة معرفة عميقة، لكنّي لا أراها من ذلك النوع.
ولكن، كلّما فكّرت في الأمر، ازدادت قناعتي بأنّها جاءت بالفعل لتقترح زواجًا.
والمشكلة أنّه لا يوجد في دوقية مارسِين سوى شخص واحد فقط يمكن أن يُقصد به هذا الزواج.
“هل من الممكن أنّكِ أتيتِ لتقترحي زواجي من… لايل؟”
حاولت أن أبدو هادئة قدر الإمكان، لكنّ نبرة صوتي خانتني في النهاية واهتزّت قليلًا. ولم يفت هذا على السيدة، فمحَت ابتسامتها فورًا وأجابت:
“وهل هناك ما يُقلقك؟”
كان كلّ ما في الأمر مقلقًا! حدّقتُ بها بعينين يملؤهما الخذلان، غير أنّها ظلّت تنظر إليّ وكأنها لا ترى أي مشكلة.
“سيدتي…”
كانت لديّ الكثير من الكلمات، لكني لم أجد الأسلوب المناسب لقولها. ربما لاحظت السيدة أنّ ملامحي شحبت، فسألتني باستغراب:
“أليست هذه فرصة جيدة للماركيزة أيضًا؟ طالما أنّ الزواج لا مفرّ منه، أليس من الأفضل اختيار شخص نعرفه ويملك تقييمًا حسنًا بدلًا من مقابلة غرباء؟”
“لكن لايل…”
“ثم إنني لستُ خبيرة، لكن ما يُقال عنه في المجتمع ليس سيئًا أبدًا.”
وكأنها شعرت بجدّيّتي، فبدأت تمدح لايل، وهو أمر لم أعهده منها.
الأدهى من ذلك أنّها كانت تحافظ على وجهٍ خالٍ من أيّ تعبير، بكل برود.
“فما رأيك؟ أليست هذه فرصة لتعزيز العلاقة بين العائلتين بالزواج أيضًا؟”
أنهَت كلامها ثمّ ثبتت نظرها عليّ، وكأنّها تطالب بجواب.
أردت أن أضغط على جبيني بكفّي، لكنّي تماسكت وقلت بصوتٍ ثابت:
“هل لايل يعلم بشأن هذا الحديث؟”
أردت التأكد أولًا إن كان لديه رأي أو علم مسبق.
ورغم أني كنت أتوقّع الجواب، لكنّي سألت على أيّ حال.
مسألة لا تحتاج إلى تردّد. ومع ذلك، تظاهرت السيدة وكأنّها تفكّر قبل أن تجيب:
“يبدو أنّه لا يعلم.”
كما توقّعت. ومع ذلك، بدا الجواب مربكًا بعض الشيء.
على أيّ حال، الآن تأكدت من شيءٍ واحد هذه الخطبة لم يكن لايل رأي فيها إطلاقًا.
“لكن، هل ذلك مهم إلى هذا الحد؟”
سألتني وهي تميل برأسها باستغراب، ما جعلني أتنهد بحنق.
من تصرّفها، أدركتُ أنّ حتى لو علم لايل، فلن يكون له أيّ رأي حاسم.
عندما لم أنطق بشيء، بدأت ملامحها تتجه نحو الجدية هي الأخرى.
“أليس عرضًا جيّدًا للماركيزة أيضًا؟ صحيح أنّه ابن غير شرعي، لكن كما قلت، لن تشعري بالعار من وجوده بجانبك، بل إنّك تفعلين ذلك فعلًا، أليس كذلك؟”
كلامٌ يُقال من منظار الأرستقراطيّة فقط. لكنّ ما يهمّني ليس هذا المنظار.
‘ابن غير شرعي…’
ردّدت الكلمة التي كنتُ قد نسيتُها مؤقّتًا.
لو كان لايل بالفعل ابنًا غير شرعي، ربما لما شعرتُ بهذا الثقل في قلبي.
فعلى الأقل، لكان له بعض من العائلة.
لكنّ الحقيقة أنّه ليس كذلك. هو ليس من دم آل الدوق، بل غريب بالكامل.
بمعنى آخر، لا يملك في حياته من يُمكن أن يدعوه “عائلة”.
ورغم ذلك، كان عليه أن يتحمّل نظرات الازدراء من عائلة الدوق، ويعيش بينهم وحيدًا.
حتى ديوليتا، التي لم تكن تعرف شيئًا، كانت تُعامله بلطف فقط لأنه أخوها، دون أن تعلم أنه ليس كذلك.
لذلك، كنتُ أتمنّى أن يُدفَن هذا السرّ للأبد.
عندما توفيت جدتي، تمنّيت ألا يشعر أنّه وحيد في هذا العالم.
والأمر نفسه ينطبق على الزواج.
كنت أعتقد أنّ وضع لايل يتطلّب تعاملاً حساسًا في أمور الزواج أيضًا.
صحيح أنّي لستُ ضدّ فكرة أن يُكوّن عائلة في وقت ما.
لكن، لا أريده أن يُستخدم بهذه الطريقة، كأداة لأجل مصالح العائلة التي تجاهلته.
لا، كصديقةٍ له، لا يمكنني أبدًا أن أقبل بهذه الطريقة.
لا يمكنني أبدًا أن أراه يُدفَع نحو زواجٍ لا يُريده.
“عذرًا، سيدتي، لكني سأعتبر أنّني لم أسمع هذا الاقتراح.”
كنتُ أتمنّى من أعماقي أن يحظى لايل بزواجٍ يختاره بقلبه، ويغمره حبٌّ عائلي افتقده في طفولته.
“ماذا؟”
بدت الدهشة واضحة على وجه الدوقة.
يبدو أنّها كانت واثقة تمامًا من قبولي العرض.
ربّما ظنّت أنّ الزواج بين النبلاء مجرّد صفقة بين العائلات، وتوقّعت أنني سأُفكّر بالربح فقط.
خفضت نظري، وبعينين باهتتين، واصلت:
“هذا الشيء… بالنسبة لـ لايل… قاسٍ للغاية.”
عندما كانت تأتيني عروض الزواج من مجهولين عبر رسائل، لم يكن يصعب عليّ الرفض.
لكن بما أن الأمر يتعلّق بـ لايل، فالوضع مختلف تمامًا.
“أعتقد أنه أمر قاسٍ جدًا.”
تمكّنت أخيرًا من إنهاء الجملة.
رفعتُ رأسي ببطء ونظرت إليها، فرأيتُها تضغط على صدغها بإبهامها بقوّة.
أطبقتُ يدي المرتجفة بشدّة، ثم أكملتُ:
“لا أريد أن يُزَجّ بـ لايل في أمر كهذا.”
رغم أن عقلي ظلّ يحثّني على التحلّي بالعقلانية، كان قلبي يزداد حزنًا.
“بالنسبة لي، فالأمر لا بأس به، لكن لايل…”
أحسستُ بخيبة أمل كبيرة تجاه الدوقة، التي أرادت أن تُلقِي به عليّ دون أيّ اعتبار لرأيه.
ومع ذلك، حاولت أن أُذكّر نفسي بأننا لسنا في ذات الطبقة، وأبقيت رباطة جأشي.
“لقد ترك الدوقية بإرادته. لذا لا أظنّ أنّه من الضروري أن تُقحِميه في شؤون العائلة مجدّدًا من أجل الزواج.”
فضلًا عن أنّ الوسيلة كانت أنا. أنا، بالتحديد، لا يمكن أن أكون جدارًا آخر يقف في طريقه.
بل، إنّه الشخص الوحيد الذي وددت لو أُزِيل من طريقه كلّ حجر.
كم هو مُؤلم مدى قلقي عليه.
“لا أفهم ما تقولينه.”
أنكرت السيدة ببرود، وإن بدا لي أنّها تتظاهر بعدم الفهم.
“كنتُ متأكدة أنّك ستوافقين…”
تابعت تمثيلها للنهاية، فيما بلعتُ ريقي بصعوبة وقلت:
“لو اعتقدتِ ذلك بسبب علاقتي بـ لايل، فهذا مفهوم. لكن هذا شيء مختلف.”
لقد أصبح فارسًا للتوّ.
لم يُظهر سعادته علنًا، لكنّي كنتُ أراه يوميًا يعمل بتفانٍ، ما يعني أنّه كان سعيدًا بحلمه الذي تحقّق.
لم أُرد أن أُلقي عليه عبئًا جديدًا فوق كتفيه.
“هاه.”
ضحكت فجأة. أو بالأحرى، ضحكة ساخرة خرجت منها.
ولمّا لم أفهم تغيّر مزاجها المفاجئ، رمشتُ بدهشة، لكنّها سرعان ما عادت إلى صرامتها.
مسحت ذقنها بأناملها، وهمست:
“لكن يبدو أنّه لم يكن ينوي الاكتفاء بـالصداقة فقط…”
“عفوًا؟”
كانت كلماتها همسًا غامضًا، حتى أنني بالكاد سمعتها. سألتها مجددًا، لكن يبدو أن الفرصة مضت.
“يبدو أنني كنتُ أتكلم عن أمرٍ مختلف تمامًا، ماركيزة.”
اعترفت فجأة وتراجعت، ثم تمتمت بصوت ممتلئ بالضيق وكأنها وقعت في مأزق:
“من كان يظن أن الأمور ستنقلب بهذا الشكل…”
هذه الجملة سُمعت بوضوح رغم أنها قالتها وكأنها تحدّث نفسها، لكنّي تظاهرت بعدم سماعها.
“على كل حال، فهمتُ ما قصدتِه، ماركيزة. ويبدو أنني بالغت في تقديري له.”
له؟ تقصدين لايل…؟
بدأ التوتّر في داخلي يتبدّد قليلاً.
لسببٍ ما، بدا أنّ انزعاج السيدة توجّه فجأة نحو لايل.
مع أنها هي من بدأت هذا الضغط عليه، فلماذا تُحمّله المسؤولية؟!
رغبتُ في الردّ، لكنّ عينيها الخضراوين اللامعتين التفتت نحوي فجأة، ما جعلني أرتبك وأُجبر على رسم ابتسامة متكلفة.
“لكن ماركيزة، لا أريد أن أُساء الفهم. لذا سأوضّح نقطة واحدة فقط. لم أكن أرغب في سرد كل هذا الكلام، لكن…”
بخلاف عادتها، كانت تُظهر مشاعرها دون تصنّع.
“كنتُ أحاول أن أُراعي شعور ذلك الطفل، على طريقتي.”
حتى ملامح وجهها الملتوية كانت تدلّ على مدى استيائها وكبريائها المجروح.
“وإلا، لماذا كنتُ سأأتي لأعرض زواجه على الماركيزة اولا، و ليس باقي العائلات؟”
أنهت كلامها وأطبقت شفتيها.
لكن، مهما كانت مشاعرها، لم يكن ذلك ما يهمّني الآن.
بكلماتٍ أخرى، كانت تعتقد أنّها تُراعي وضع لايل، فاختارتني أنا تحديدًا، بما أنني أعرفه.
لكن هذا لا يُبرّر تجاهل رغبة لايل بالكامل.
ولذا قرّرتُ أن أطلب منها بكلّ صراحة:
“سيدتي، أرجوك. لا تستخدمي لايل في شؤون العائلة بعد الآن.”
بما أنها قالت أولًا، فقد لا تكون هذه نهاية الأمر.
ولذا، بعكس لهجتي السابقة، انحنيتُ باحترام وطلبتُ منها بتوسّل.
ومضت لحظة طويلة من الصمت…
“هاه…”
كسرته تنهيدة من السيدة.
“على الأقل، هذه المرّة، أشعر بالشفقة عليه فعلًا.”
اليوم، بدت كلماتها غامضة أكثر من المعتاد. رفعت رأسي لأستفسر، لكنّها لم تكن تنوي منحي الوقت.
فقد نهضت واستعدّت للرحيل.
“سأغادر الآن. وبشأن ما طلبتِيه أخيرًا، لا تقلقي. لا أهتمّ بذلك الطفل إلى درجة أن أُدبّر له زواجًا من عائلة أخرى أيضًا.”
أطلقت كلماتها بتتابع سريع.
أتت خصيصًا إلى مقرّي من أجل هذا الأمر، ثم تدّعي أنها لا تهتم؟!
أردتُ الرد، لكنّها لم تمنحني فرصة.
وما إن خرجت من غرفة الاستقبال، حتى شعرت بقواي تخور.
في تلك اللحظة، فقط شعرت بشيء من الراحة.
في الحقيقة، لم أكن أملك الشجاعة لمواجهة تناقضات الدوقة.
“آه… إنها تستنزفني…”
ارتميتُ على الكرسي، وغطّيت عينَي بظهر يديّ. وما إن حجبت رؤيتي، حتى اجتاحتني موجة تعب.
تعبٌ نفسيّ، وعاطفيّ… إلى أقصى الحدود.
فالعرض الذي
قدّمته السيدة كان شيئًا لم أتخيّله يومًا.
أنا… مع لايل؟!
حتى لايل نفسه لم يكن ليتخيّل ذلك يومًا.
لكن، ألم تقل إن لايل لا يعلم عن هذا الأمر؟
هل أخبره؟ أم لا؟
كنتُ غارقة في الحيرة، عندما فُتِح الباب فجأة، وسمعت صوت سارة:
“ماركيزة، السيّد دايلر قد وصل.”
ترجمة:لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 70"