فكّرتُ قليلًا، فرُبّما رأيتُ شخصًا يُشبه دايلر قبل نحو عامٍ من الآن.
لكن سرعان ما توالت الأحداث واحدة تلو الأخرى، فمُحيت صورته من ذهني تمامًا.
وماذا بعد؟
لا وجود لأيّ صِلة أخرى تربطني به.
بالطبع، معظم من أرسل إليّ عرائض زواج لم تجمعني بهم أيّة علاقة سابقة على كلّ حال.
نظرتُ إلى الرسالة الموضوعة في منتصف المكتب كما لو كانت شيئًا مقزّزًا، محافظًة على مسافة بيني وبينها.
‘لعلّها كانت موجّهة إلى ديوليتا أُختي، وأُرسِلت إليّ عن طريق الخطأ… أجل، قد يكون الأمر كذلك.’
ورغم أنّ احتمال ذلك لا يتجاوز احتمال أن يطولني القَامة أكثر من لايل… فقد قرّرت أن أعلّق آمالي على هذه الفرصة الضئيلة.
بوب.
‘لماذا أشعر بالتوتر هكذا؟’
ابتلعتُ ريقي الجاف وفتحتُ المغلّف بحذر. ثمّ بدأتُ أقرأ محتواه بعينين دقيقتين.
وما إن أنهيتُ القراءة، حتى وضعتُ الورقة على سطح المكتب من جديد وأنا أرسم ابتسامة مريرة.
“اللعنة… أرسَلها لي فعلًا، بلا أدنى شك…”
مُجمل الرسالة كان اقتراحًا بلقاءٍ للتعارف، بما أنّنا كما ورد فيها قد بلغنا سنّ الزواج المناسب.
‘سنّ الزواج؟ أنا لا زلتُ في العشرين من عمري! أما دايلر… لا أذكر جيدًا كم عمره، لكنّه قطعًا أصغر من ديوليتا أُختي.’
صحيح أنّ عمري يُعدّ مناسبًا للزواج حسب معايير النبلاء، لكنّ جدّتي كانت تؤمن بأنه لا ضرورة للتعجيل في الزواج.
وبما أنّ كلّ معاييري ترتكز على تعليمات جدّتي، فإنّ العشرين في نظري سنٌّ مبكرٌ جدًا للزواج.
“ثمّ لمَ عليّ أن أتزوّجك أساسًا؟”
‘من سيرتبط بديوليتا أُختي لا يمكن له أن يلفت انتباهي مهما فعل.’
تناولتُ القلم بوجهٍ حازم وهممتُ بكتابة الردّ.
“…….”
لكنني سرعان ما اصطدمتُ بجدار الواقع.
في العادة، كنتُ سأكتب عبارة رفض بسيطة وأرسلها فحسب… لكنني تذكّرتُ أنّ الطرف المقابل من رجال الدين.
وإن كان دايلر هو المقصود، فهو قائد فرسان فيليا، المعروف بأنه الأحبّ إلى قلب الكاهن الأكبر.
بمعنى آخر، هو آخر شخص ينبغي لي أن أُثير عداءه.
“آه… هذا المجتمع المهووس بالدين…”
وبخاصة نحن، كعائلة تلتزم بالحياد، لا يُمكن لنا الدخول في خلافٍ مع أيّ جهة.
لكنّ دايلر، من بين كلّ الناس، هو فارس المعبد… تلك المؤسسة التي لا تقلّ قوة عن البلاط الإمبراطوري نفسه.
شعرتُ بثقل الموقف، وعضَضتُ شفتَيّ بانفعال. دون أن أعي، بدأ جبيني ينقبض.
وحين بدأتْ عضلات وجهي تفقد الإحساس، عقدتُ العزم وشرعتُ أكتب الردّ بوجهٍ غاية في الجديّة.
لم يكن القرار صعبًا. سأقابله كما اقترح، ثم أرفض طلب الزواج بأدب.
فالأمور المُزعجة يجب إنهاؤها بأسرع ما يمكن.
وسأحرص على ألا يترك اسمي ولا وجهي أيّ أثر في ذاكرته.
***
ولحسن الحظ، لم يُرِد دايلر إطالة المسألة أيضًا، فردّ برسالة يُخبرني فيها بنيّته زيارة القصر خلال هذا الأسبوع.
وقد أرفق اعتذارًا لعدم تمكّنه من تحديد الوقت بدقّة بسبب انشغاله أحيانًا بدوريات الأسوار عوضًا عن الفرسان المصابين.
وبما أنّني لم أكن أنوي الخروج خلال هذا الأسبوع، كتبتُ له ردًّا مختصرًا بالموافقة وسلّمتُه إلى سارا.
وما إن تلقّت سارة الرسالة منّي حتى ناولتني مغلّفًا آخر.
ولأنّه لم يكن سوى مغلّفٍ واحد، فقد استنتجتُ أنه ليس عرضَ زواجٍ جديد.
وكان توقّعي صائبًا، إذ كان اسم دوقة مارسين مُدوّنًا على المغلّف.
‘أظنّها المرّة الأولى التي أستلم فيها رسالة منها.’
فتحتُ المغلّف وقرأتُ ما بداخله. كانت تقترح زيارة القصر بعد أربعة أيّام، وقت الغداء.
لم أعرف الغرض من الزيارة، لكنني كتبتُ ردًّا أُرحّب فيه بها، وأرسلته.
وكما هو متوقّع من دوقة دقيقة في مواعيدها، حضرتْ إلى القصر في اليوم المحدّد تمامًا.
***
كان لايل يشعر مؤخرًا بانشغال لوسي يُثقل قلبه.
بل إنّ أجواء قصر الماركيزة نفسه بدت مضطربة على غير العادة.
وربّما السبب يعود إلى كلماتٍ يُلقيها الناس عليه بين الحين والآخر.
“لا تقلق، سيّد لايل! ستمرّ هذه الفترة سريعًا!”
“أجل. الأمر مؤقّت فقط.”
‘أيّ أمر؟’
“قريبًا، ستعود الأمور إلى طبيعتها.”
“لا تنسَى، نحن في صفّك منذ أن كنت صغيرا!”
‘ما الذي تتحدثون عنه؟!’
كلّ من يمرّ به من الخدم يرميه بجملة مبهمة تُثير قلقه دون سبب واضح.
ومع مرور أسبوعٍ تقريبًا على هذا الحال، لم يعُد بإمكان لايل رغم طبيعته اللامبالية تجاهل الأمر.
لكن لم يكن بمقدوره سؤال كلّ شخصٍ على حدة.
وذلك لانشغاله التام في الفترة الأخيرة بترتيب أمور فرقة الفرسان الجديدة التي أُسّست حديثًا.
تفقّد لايل ميدان التدريب والمستودع بعد أن تمّ بناؤهما حديثًا.
ففي الأصل، لم يكن في قصر الماركيزة فرقة فرسان، وقد ساهمت لوسي بنفسها في كلّ تفاصيل التأسيس.
رغم أنّها كانت تتحسّر دومًا على عدم تقديم هديّة مناسبة له، فإنّ لايل رأى أنّ لا هديّة أعظم من هذا.
ولذا، كان حريصًا على ألّا يضيع جهودها.
وبحسب ما قطعه على نفسه من وعد، بدأ بتأديب الفرسان الجُدد وبذل جهده في تثبيت قواعد الانضباط.
فلولا هذا، لما اهتمّ أبدًا بأيّ شخص يحاول إثارة المشاكل معه.
لكن للمستقبل حسابات، ويجب إحكام السُلّم الوظيفي منذ الآن.
وهكذا، قلّت لقاءاته مع لوسي رغم وجوده في نفس المكان.
كان يُذكّر نفسه بأنّ هذه الفترة المزدحمة ستنقضي سريعًا، واستمرّ بتفتيش المعدّات والمخزون بدقّة.
حينها، توقّف أمامه عربة عبرت البوابة الرئيسية بسلاسة.
فُتح باب العربة، وخرجت منها دوقة مارسين بخطى متّزنة.
نظرتْ إلى لايل المتجمّد أمامها، ثمّ مسحت بنظرةٍ حادّة أرجاء الفناء الذي أُعيد ترميمه.
“مكانٌ لائق، إلى حدٍّ ما.”
وأطلقتْ تعليقًا إيجابيًا على غير العادة.
يبدو أنها لاحظت صراخ الفرسان وملابسهم الرسمية التي كان يرتديها لايل.
فكما يبدو، لم تقتصر جهود لوسي على ميدان التدريب، بل امتدّت لتشمل زيّ الفرسان الجُدد.
رغم أنها لم تُصمّمها بنفسها لقلّة خبرتها، فإنها حرصت على تعلّم ما يلزم لتضمن عمليّتها.
وبما أنّ الزائرة قد وصلت، كان لازما على قائد الفرقة استقبالها كما يليق.
انحنى لايل بأدبٍ وسألها:
“ما سبب زيارتك، يا سيدتي؟”
وبصراحة، لم يتوقّع أن تُبادره بالكلام بهذه السرعة فور دخولها.
بعد قليل، تلقّى جوابًا مُبهَمًا منها:
“في ظل الظروف… لا أرغب بأن أقدّم لك معروفًا، لكن قد أستفيد منك بطريقةٍ أو بأخرى.”
“……؟”
“فقط، لا تشكرني لاحقًا. فأنا لا أرغب برؤية تعبير الفرح على وجهك.”
ثمّ عبرت إلى داخل القصر دون مزيد من الشرح.
تأمّل طلايل ظهرها طويلاً، عاجزًا عن استيعاب كلماتها.
***
“وصلت دوقة مارسين، سيّدتي، وتنتظر في قاعة الضيوف. هل أُرافقها إلى حضرتك؟”
وصل صوت سارة مع طرقٍ خفيف على الباب.
عندها فقط تذكّرتُ أنّ اليوم هو موعد زيارتها المتّفق عليه، فسارعتُ إلى الخروج من المكتب.
“في قاعة الضيوف؟ لا بأس، سأتوجّه إليها بنفسي.”
وكان ذلك خير مفرّ من كومة الرسائل المزعجة التي كنتُ أتعامل معها لتوّي.
وهكذا، بخُطى لا هي بالمتثاقلة ولا بالخِفّة، توجهتُ إلى قاعة الضيوف.
ما إن فتحتُ الباب، حتى وقع بصري على دوقة مارسين تحتسي الشاي بوجهٍ واثق.
“أهلًا بكِ.”
رغم أنّ هذا منزلي، فإنّ وقفتها المُتغطرسة جعلتني أشعر وكأنّني أنا الضيفة.
“هل لي أن أسأل… ما سبب الزيارة اليوم؟”
طرحتُ السؤال مباشرةً، فأجابت وهي تميل إلى الخلف:
“أسرعتُ بالحضور خشية أن يسبقني أحدهم.”
“يسبقك إلى ماذا؟”
“في مثل هذا التوقيت، لا يُمكن أن يكون سبب زيارتي سوى أمرٍ يتعلّق بخطبة السيدة ماركيزة.”
شعرتُ أن الحديث بدأ يأخذ منحًى غريبًا…
***
‘ما بال الجميع هذه الأيام يتفوهون بكلامٍ مبهم؟!’
حتى بعد دخول دوقة مارسين، لم يستطع لايل التخلّص من أفكارها المُحيّرة.
وبينما كان يُخطّط لما ينقص ميدان التدريب، رأى دوقة مارسين تعود خارجةً من القصر.
لم يمضِي وقتٌ طويل، ومع ذلك بدت وكأنها أنجزت ما جلبها.
وبلا وعي، اقترب منها وسأل:
“هل ترحلين بهذه السرعة؟”
لكنها لم تكن بذات الثقة التي ظهرت بها عند قدومها، بل بدا الذهول طاغيًا على وجهها.
غير أنّها، ما إن وقعت عيناها على لايل، حتى تغيّر تعبيرها تمامًا.
“لقد أنهيتُ زيارتي.”
لكنّ علامات الاستغراب كانت لا تزال عالقة على وجهها، وكأنها لم تتوقّع انتهاء المحادثة بهذه السرعة.
نظرت إليه نظرة عجيبة، ثمّ أضافت:
” في الواقع، كنتُ قد اقترحتُ على الماركيزة أن تتّخذك زوجًا بالنيابة.”
صُدمت عيناه من الاقتراح الذي لم يخطر بباله مطلقًا.
“……ماذا؟”
“قلتُ لك… هذا الوقت يتطلّب التفكير بمثل هذه الأمور. والآن وقد أصبحتَ راشدًا، من الطبيعي أن يُطرَح عليك أمر الزواج.”
ثم بدأت لهجتها تميل إلى اللوم:
“لقد كنتَ تُلاحقها بلا كلل منذ الصغر، فأين جهودك الآن؟”
حتى دون أن تُكمل، كانت نظراتها تقول كلّ شيء. وشدّ لايل قبضته من الألم الداخلي.
“لكنها رفضتني على الفور.”
لم يعد بمقدوره قول شيء آخر.
“……لم أتخيّل يومًا أن أشعر بالشفقة تجاهك…”
رغم نظراتها التي تحمِل الاستهزاء، بدا شيء من الأسى في عينيها.
فقد تذكّرت، فجأة، ذلك الفتى الذي طالب بالتنازل عن إرثه ليتمكن من مرافقة لوسي إلى الأكاديمية.
‘ما أتعس هذا الشعور…’
“تسك!”
ونهضت إلى عربتها، تاركةً لايل المتجمّد في مكانه كمن خُطف منه عقله.
وغادرت عربة دوقية مارسين القصر كما دخلته، بهدوءٍ وسلاسة.
وبينما كان لايل لا يزال واقفًا لا يقوى على الحركة…
دخلت عربة أخرى من بوابة القصر، هذه المرّة كانت تحمل شعار فرسان فيليا.
وحدقت عينا لايل إلى نافذة العربة، فرأى دايلر جالسًا بداخلها، تمرّ عينيه عليه في لحظةٍ صامتة.
قرع الحوافر وصوت عجلات العربة وهي تمرّ به، كانت كأنها تخدش أعصابه.
لكن حتى حين توقّفت العربة عند البوّابة الخلفيّة، لم يكن بمقدوره التحرّك.
تدفّقت مشاعر متضاربة في صدره.
وفي ذلك اليوم، لم يذهب إلى لوسي.
بل… لم يكن قادرًا على الذهاب.
فلأوّل مرة، شعر بالخوف من لقائها.
ذلك الخوف العميق الذ
ي فاق كلّ ما واجهه في حياته.
فهي تملك من القوة ما يكفي لإلقائه في الهاوية بكلمةٍ واحدة فقط.
ولذلك، كان يُرهبه أن يسمع منها سبب رفضها له.
لم يكن مستعدًا للسقوط بعد.
لكن مقاومته لم تدم طويلًا.
فقد اكتشف في اليوم التالي أنّها تلقّت عروض زواج من عددٍ لا يُحصى من الناس غيره.
ترجمة :لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 69"