أنهى لايل دراسته وغادر المنزل في في الوقت نفسه. وبالنسبة إلى ديوليتا، بدا قرار لايل بالاستقلال وكأنّه إعلانٌ من طرفٍ واحد لا أكثر.
لقد حاولت ديوليتا مرارًا وتكرارًا نهي أخاها عن الخروج من المنزل من دون أن يصطحب معه أيّ خادم.
لكن لايل كان عنيدًا، ورفض كلّ المساعدات التي عرضتها عليه شقيقته ديوليتا.
ولاحقًا، بدا أنّ لوسي كانت على علمٍ مسبق بكلّ شيء، غير أنّها لم تُبدِي اهتمامًا كبيرًا باستقلال لايل.
“هو يملك جانبًا من الاستقلاليّة، أليس كذلك؟ ربّما أراد أن يعيش وحده، لا أكثر.”
قالت لوسي بصوتٍ مبتهج عمداً كي تُخفّف من قلق ديوليتا. وبالطّبع، لم تكن تجهل أنّ ما قالته لم يكن إلّا كذبةً بيضاء.
فـلايل، في الواقع، لم يكن من النوع المستقلّ على الإطلاق. والدليل؟ مجرّد رؤيته يتبع لوسي في كلّ مكان كان كافيًا لإثبات ذلك.
ومع ذلك، ها قد مضى أكثر من عشر سنوات، ولا تزال لوسي تصرّ على اعتبار مشاعر لايل مجرّد صداقة… أمرٌ يدعو للعجب حقًا.
“آنستي ديوليتا، برأيك، أيّ من هذين اللونين يليق بي أكثر؟”
في أثناء انغماسها في التفكير، سمعت صوتًا مرحًا أمامها.
أخفت ديوليتا على الفور ما بدا على وجهها من شرود، وتقدّمت نحو بيلا التي كانت تختار بين قطعتين من الملابس.
“همم، برأيي… بدلًا من هذين، أظنّ أنّ ألوان الربيع تليق بك أكثر. حين أنظر إليكِ، أشعر وكأنّني أقف وسط ربيعٍ دائم… وهذا يجعل قلبي دافئًا، لا أدري لماذا.”
قالت ديوليتا بصوتٍ رقيق، وهي تخرج قطعة ملابس أخرى بتصميمٍ مشابه.
نظرت بيلا إلى ديوليتا التي لم تردّ حتّى على سؤال بسيط بتهاون، وفكّرت بأنّ الفارق بين الأشقّاء واضح حقًا.
‘الآن فهمتُ لماذا تتصرّف لوسي بتلك الطريقة. إنّها منذ الصّغر لا ترى سوى الجميلين من حولها، لا عجب أن تصبح بهذه الانتقائيّة.’
واصلت بيلا التأمّل في ديوليتا، التي لم تكن تقلّ جمالًا عن شقيقها الأصغر، وهزّت رأسها ببطء وهي تبتلع إعجابها بها.
“تلك تبدو مناسبةً لكِ أكث—”
لم تكن بيلا تسمع ما تقوله ديوليتا بتركيز، فقد كانت شاردةً في أفكارها.
أما ديوليتا، فلم تكن تلاحظ ما يدور في ذهن بيلا، بل كانت منهمكة في اختيار ما يناسبها بإخلاص.
ثمّ، حدث ذلك.
“أريد شراء كلّ شيء من هنا إلى هناك. بالمناسبة، آنساتي، هل تفكّرن في شراء تلك القطعة؟ إن كان الأمر كذلك، فالرجاء عدم احتسابها ضمن المجموع.”
جذب انتباه بيلا وأوقع قلبها مجددًا ظهور رجلٍ فاتن الجمال بصورةٍ مفاجئة.
وبدون إرادة، تحوّلت نظرة ديوليتا ذات العينين الزمرّديّتين من بيلا إلى ذلك الرجل ذي الشعر الوردي الفاتح.
وفي لحظةٍ خاطفة، التقت نظرات ديوليتا بـدايلر.
***
كان من الطّبيعي أن تشعر ديوليتا بالارتباك بسبب هذا الرجل الذي ظهر فجأةً وبدأ يشتري كلّ شيءٍ في المتجر. هي نفسها لم تكن قد قرّرت بعد ماذا تشتري.
“أعتذر، لكن هل يمكنك الانتظار قليلًا قبل الشراء؟ لم نقرّر بعد ما سنأخذه.”
ثمّ أضافت، إن كان هناك شيء يريده حقًا، فبإمكانه أن يضعه جانبًا إلى أن تنتهي.
أجابها الرجل بابتسامةٍ ودودة وهو يتراجع خطوةً للخلف، مشيرًا إلى ما بين هنا وهناك.
“حسنًا، سأنتظر حتّى تنتهين من الاختيار. في الحقيقة، لا يهمّني ما أشتري.”
ثمّ وقف ويداه خلف ظهره، وهو يهمهم بلحنٍ هادئ.
ربّما بسبب سلوكه الهادئ ذاك، شعرت ديوليتا برغبةٍ غير مألوفة في معرفة سبب شرائه كلّ هذه الملابس النسائيّة.
لم تكن أكثر من مجرّد فضولٍ بريء.
“…هل لي أن أسألك عن سبب شرائك هذا الكمّ الكبير؟ إن كان لغرض هدية مهمّة، فـ يعني، أقصد…”
“اسمي دايلر.”
“السيد دايلر.”
وحين سمعت اسمه، تنبّهت أخيرًا إلى الزيّ العسكريّ الذي كان يرتديه والرتبة على كتفه.
“بما أنّي عرّفتُكِ بنفسي، أليس من العدل أن تفعلي أنتِ أيضًا؟”
كان من الممكن إساءة فهم كلامه، لكن بما أنّه نطق به بابتسامةٍ مشرقة، أدركت ديوليتا أنّ هذا أسلوبه الخاصّ في الحديث.
“أنا ديوليتا مارسين. وهذه آنسة بيلا غايدن.”
“فهمتُ. بما أنّكِ أجبتِني، فسأجيبكِ بدوري.”
قال دايلر ذلك بنبرةٍ مليئةٍ بالمرح، وهو يحكّ ذقنه.
“في الواقع، أنا أشتري هذه الهدايا لأقدّمها إلى من أنوي التقدّم بطلب زواجٍ منها.”
لكن رغم قوله ذلك، لم يكن في عينيه أيّ أثرٍ للإحساس أو التلهّف. بل بدا كأنّه يكذب.
“أفهم…”
لكن ديوليتا لم تُظهر شكوكها. فقد تمّت الإجابة عن تساؤلها، ورأت أنّ الأمر لا يخصّها.
“لكنّني لا أعلم ماذا تحبّ النساء من تصميمات، إذ لا يوجد حولي سوى رجال. فكّرت كثيرًا، ثمّ تعبت… فقرّرت أن أشتري كلّ شيء.”
وحين ابتسم مازحًا وهو يقول إنّها فكرة جيّدة، نظرت إليه ديوليتا مستغربة وسألته مجدّدًا:
“لمَ لا تختار شيئًا يشبه ما ترتديه عادةً؟ فلا داعي للقلق بشأن الموضة.”
فهي لم ترَى أنّ ذلك أمرٌ معقّد إلى هذا الحدّ.
لكن، على عكس توقّعاتها، بدا الأمر معقّدًا جدًّا بالنسبة إلى دايلر.
وسرعان ما أجابها بكلّ بساطة:
“لا أعلم.”
“أنت لا تعلم؟”
ردّت ديوليتا بسؤالٍ عفويّ وهي تشكّ في ما سمعته.
“نعم، وكيف لي أن أعلم؟ فهي ليست حبيبتي أصلًا.”
في الواقع، لم يسبق لهما أن تحادثا من قبل. فكّر في قول ذلك، لكن حين رأى تعابير وجه ديوليتا تتغيّر، قرّر أن يصمت.
“لم يسبق لكما التحدّث…؟ إذن، لماذا… لا، ألم تقل قبل قليل أنّك ستتقدّم لخطبتها…؟”
تردّدت في إنهاء الجملة. لكنّه أجابها بكلّ استغراب:
“بصراحة، لا أفهم سبب دهشتك.”
“من الطبيعي أن—”
“كونكِ من آل مارسين، فلا بدّ أنّكِ على دراية. فالزواج المُرتّب أو الخطبة المصلحيّة شائعان بين النبلاء. صحيح أنّني لستُ منهم، لكن—”
“آه…”
الآن فقط فهمت ديوليتا ما كان يقصده. فهو يتحدّث عن زواجٍ سياسيّ، لا حب.
ولأنّها لم تكن تهتمّ بتلك الأمور أساسًا، فقد استغرق فهمها للحظة.
غطّت فمها بيدها، ثمّ بدأت بالكلام على استحياء:
“…إن كان الأمر كذلك، فربّما من الأفضل ألّا تأخذ الهدايا معك. فقد يشعر الطرف الآخر بالعبء.”
هذا ما كانت تشعر به شخصيًّا. ففي كلّ مرّة يقدّم لها أحدهم هديّة باهظة رغم أنّهم لم يلتقوا إلّا عدّة مرّات، كانت تشعر بالارتباك الشديد.
بل إنّ بعضهم حين رفضته، ترك لها الهديّة وكأنّه يفرض عليها أن تتصرّف بها كما تشاء. ولهذا، تفهّمت ديوليتا موقف الطرف الآخر تمامًا.
ولذلك قدّمت له هذه النصيحة بإخلاص، لا لأجله، بل لأجل الشخص الذي سيضطرّ إلى تلقّي تلك الهديّة منه دون سابق إنذار.
“حقًا؟ كنتُ أظنّها فكرة جيّدة…”
“الأمر يختلف من شخص لآخر، لكنّني أتكلّم عن نفسي.”
ثمّ التفتت ديوليتا بعينيها نحو بيلا التي كانت لا تزال تحدّق بهما بشرود.
التقطت بيلا الإشارة، وأومأت برأسها بسرعة.
بما ان اثنين من ثلاث قالوا ذلك، توقف دايلر عن العناد.
“حسنًا، سأعتبره كذلك.”
قالها بابتسامةٍ طيّبة، ثمّ أضاف:
“شكرًا على نصيحتكِ. كدتُ أبدو كشخصٍ غريبٍ وأنا أحمل الهدايا بكلتا يديّ.”
ثمّ رفع يده اليمنى إلى صدره، وانحنى قليلًا.
قابلته ديوليتا بانحناءةٍ طفيفة، وكأنّها تقول لا شكر على واجب.
ثمّ خرج دايلر من المتجر وهو يُدندن بلحنٍ هادئ. وبينما كانت تراقب ظهره يبتعد، انكمشت حاجبا ديوليتا قليلاً.
‘كنتُ قد سمعت أنّ قائد فرسان فِيليا شخصٌ متهوّر، ويبدو أنّ الأمر ليس فيه أيّ مبالغة.’
وبعد هذا التقييم القصير، قطعت ديوليتا أفكارها بشأنه.
فهي لن تلتقيه مجدّدًا، على أيّ حال.
***
منذ البارحة، ازدادت الأعمال غير المخطّط لها فجأة.
“آنستي، جاءت المزيد.”
سكبت سارة كومةً من الرسائل على مكتبي. لا، لم تسكبها، بل كانت الكومة قد فاضت من بين ذراعيها وسقطت دفعةً واحدة.
نظرتُ إلى تلك الرسائل التي حجبت رؤيتي بنظرةٍ تنمّ عن الضيق.
“عدد النبلاء يبدو أكثر من عدد الأسماء التي حفظتُها…؟”
“لكنّكِ لم تحفظي إلّا أسماء نبلاء الإمبراطوريّة، أليس كذلك؟ أمّا هؤلاء، ففيهم من دولٍ أخرى أيضًا.”
آه، صحيح… هذا منطقي.
وضعتُ يدي على جبهتي وتنهّدتُ بشيء من الإحباط.
“يبدو أنّ إرسال الردود عملٌ شاقّ بحدّ ذاته…”
لاحظت سارة نبرة صوتي المُتعبة، وأخذت تنظر إليّ وإلى الرسائل تارةً تلو الأخرى بشفقة.
وبصراحة، لم أمانع نظراتها هذه. فقد كنتُ مرهقة إلى درجة تقبّل كلّ تعاطف.
استدرتُ مع الكرسي وتوجّهتُ ناحية النافذة.
كان هناك، خلف الزجاج، الفرسان المتقدمون لاختبار القبول يصطفّون أمام لايل.
صحيح أنّني منهكة، لكنّه هو الآخر مشغول هذه الأيّام.
ولم يكن لديّ الوقت لأشتكي له، ولا حتّى أن أتحدّث معه.
لكنّي كنتُ أغبطه، لأنّه على الأقلّ يقضي وقته في الهواء الطلق خلال يومٍ مشمس، بينما أنا محبوسة هنا.
وبينما كنتُ أحدّق برأسه من الخلف، فجأة، اقترب منه رجلٌ وبدأ في التهجّم عليه.
‘ها نحن مجدّدًا.’
لقد بات هذا المشهد مألوفًا لي في الآونة الأخيرة.
تمكّنت بسهولة من توقّع ما سيحدث بعد ذلك.
ذلك الرجل الذي كان يتكلّم معه بعجرفة سحب سيفه على ما يبدو… إذ، أراد مبارزته.
ولم تمضِ سوى لحظات، حتّى هُزم أمام لايل دون أن يتمكّن من توجيه ضربةٍ واحدةٍ حقيقيّة.
رأيت ذلك الفارس يجثو على ركبتيه بذهول، وهو يُمسك بساقه التي تلقّت الضربة الأخيرة.
كان بعض المتقدمين، رغم علمهم باختبار القبول، يستخفون بقدرات لايل ويطلبون مبارزته، ظنًّا منهم أنّهم قادرون على الفوز عليه.
لكن لايل، رغم صبره المعروف، لا يتساهل مع هذا النوع من التصرّفات.
ومع ذلك، لم يكن يعجبني أنّه يوافق على مبارزتهم أصلًا.
حين قلت له ألا يُعيرهم انتباهًا، رفض الفكرة قائلًا إنّ الأمر قد يؤدّي إلى شكاوى رسميّة ضدّ بيت سويينت.
يا له من شخصٍ مفرط في الجدّية.
هززتُ رأسي، مقلّدةً ما فعله في الماضي، ثمّ عدت إلى مكتبي وجلستُ على الكرسي.
نظرتُ إلى كومة الرسائل التي بدأت تُظهر قاع الطاولة، حين وقعت عيناي على مظروفٍ ورديّ.
ظننتُ أنّ المُرسِل يحبّ هذا اللون ببساطة، فأردتُ رؤية اسم
ه.
“معبد فيليا… دايلر…”
اسمٌ مألوف…
لم يطل تفكيري كثيرًا.
“آه!!!”
صرختُ لا إراديًّا وأسقطتُ المظروف الورديّ من يدي.
تأرجح المظروف ذات اليمين واليسار، ثمّ هبط بلطفٍ على سطح المكتب.
‘ما سبب ظهور اسم البطل الأصليّ هنا؟!’
ترجمة :لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 68"