كلّما خفّ صوت اهتزازات العربة، ازدادت مشاعر القلق داخلي شيئًا فشيئًا.
كنت أُلقي نظرات خاطفة عبر النافذة باستمرار، ولا بدّ أنّ لايل قد لاحظ اضطرابي، إذ سألني بابتسامة محرجة:
“آسف، أليس الطريق بعيدًا بعض الشيء؟”
لقد قطعنا قرابة ساعة من السير، لذا لم يكن الطريق قصيرًا بالفعل.
لكن مع الأخذ في الاعتبار وجهتنا، فقد بدا أنّ المكان بعيد عن الأكاديميّة فقط، وليس عن منزلنا بالضبط.
على أيّ حال، لن أتأكّد حتى نصل.
“لا، ليس هذا ما يقلقني…”
فالمسافة بحدّ ذاتها لا تشكّل مشكلة، خصوصًا أنّ الطريق من منزلي إلى الأكاديميّة لم يكن قصيرًا أيضًا.
ما كنتُ أخشاه حقًّا، هو أن يكون الطريق أصعب ممّا ظننت.
“هل نحن على الطريق الصحيح…؟”
“نعم، لقد شارفنا على الوصول.”
أجابني لايل دون أن يُلقي نظرة واحدة من النافذة، وكأنّه يُقدّر المسافة بالزمن فقط.
وسرعان ما توقّفت العربة، كما قال.
“سيّدتي الماركيزة! سيّد لايل! لقد وصلنا!”
وصلني صوت السائق الحماسي، ففتح لايل باب العربة بخفّة وترجّل منها بهدوء.
أمّا أنا، فلم ألحق به، بل اكتفيت بإخراج رأسي لأتفقّد المنطقة المحيطة.
“لا، لا أثر لأيّ قصر هنا…”
رغم نظري في كلّ اتجاه، لم أرَى سوى غابة كثيفة وسفح جبل منخفض.
وإذا أردتُ أن أُضيف، فثمّة طريق فرعيّ صغير يمتدّ إلى أعلى الجبل.
هل ضللنا الطريق؟
“البيت هناك في الأعلى.”
أشار لايل بإصبعه نحو الطريق الضيّق الذي يصعد إلى التلّة أو الجبل.
“من هنا، علينا أن نكمل سيرًا على الأقدام. الطريق وعِر.”
أوعَر من هذا؟ لما اختار هذا المكان بالذات من بين كلّ القصور؟
نظرتُ إلى لايل كما لو كنتُ ألومه على ذوقه الغريب، فابتسم باعتذار وقال:
“إنه مكان مريح بطريقته.”
لكن حتى وهو يقول ذلك، لم يُشعرني بأيّ مصداقية.
بل وراودتني أفكار غريبة، كأنّ لايل قد تعرّض للاحتيال أثناء شراء هذا المنزل.
لكن لا، لايل أذكى من أن يقع في فخّ كهذا، فهو أكثر دراية بالتعاملات المالية منّي، ويتّسم بالحذر.
“حسنًا… ما دمتَ تحبّه، فماذا عساي أن أقول؟”
أجبتُ بينما كنتُ أُرجع شعري المتدلّي إلى الخلف كيفما اتّفق، بعدما انحنى جسدي قليلًا للأمام.
“كم من الوقت يستغرق الوصول من هنا؟”
“مم… بخطواتي أنا، حوالي عشر دقائق. أمّا بخطواتكِ… فعشرين دقيقة تقريبًا.”
لا أدري لما تكلّف عناء حساب خطواتي، لكن يبدو أنّ الطريق يحتاج لعشرين دقيقة مشيًا وفقًا لمتوسّط الخطى.
يا له من شقاءٍ تصنعه بيدك.
“الطريق من هنا مستقيم فقط نحو الأعلى. على كلّ حال، شكرًا لأنّكِ أوصلتِني.”
نظر إليّ بعينين متعاطفتين وشكرني، فهل هذا يعني أنّه لا يمانع في رحيلي الآن؟
أومأتُ برأسي، وكنت على وشك العودة إلى مكاني والجلوس مجدّدًا، لولا أنّ لايل تابع الحديث فجأة.
“لوسي، أرجوكِ لا تُخبري أحدًا بمكان إقامتي.”
“همم؟ لماذا؟”
“لا أعتقد أنّ أحدًا سيزورني كثيرًا على أيّ حال… لكنّكِ قد تأتين أحيانًا، أليس كذلك؟ لذا، قد يُساء الفهم.”
“آه…”
بين البالغين، خصوصًا بين النبلاء، قد تُثير الزيارات المتبادلة بين رجل وامرأة الشبهات، تمامًا كما انتشرت الشائعات حولي وحول لايل في الأكاديميّة.
لكنّ المكان هنا بالكاد قد يلاحظه أحد. لا بل، من المستحيل أن يظنّ أحد أنّ في هذا الخراب قصرًا!
فالمنطقة كلها مقفرة وكئيبة إلى درجة لا تُصدّق.
“أنا في الحقيقة لا أُبالي بالشائعات… لكنّكِ، لوسي، لا تُحبّين ذلك.”
كنت أتأمّل المكان وأتساءل إن كان أحد قد يلحظ وجود منزل هنا، حين أضاف لايل تلك الجملة.
حينها فقط رفعتُ بصري نحو وجهه لأعود إلى صُلب الموضوع.
رغم صوته الذي حمل بعض الحزن، كان يبتسم لي بلُطف.
تأمّلتُ زاوية ابتسامته التي ارتسمت على شفتيه، بينما كنتُ أُفكّر في الأمر.
“الآن، اذهبي. الشمس ستغرب قريبًا، ويصير المكان مخيفًا عندما يحلّ الظلام.”
ودّعني مرّة أخرى، بل وأغلق باب العربة بيده.
ومع صوت صرير الباب وهو يُغلق، لم أكن قد توصّلت بعد إلى قرار بشأن ما أفكّر فيه.
طَرق.
بعد أن أُغلق الباب بالكامل، سمعته يقول للسائق:
“انطلق.”
فانطلقت العربة فورًا.
“لستُ أكره الفكرة في الواقع…”
تمتمتُ وأنا أُسرع في الجلوس مع بدء تحرّك العربة.
حين أفكّر في الأمر ببرود، لا يبدو أنّني أكره أن تُطلق شائعات حولي وحول لايل.
لكنّي تجنّبت ذلك لأنّه لن يكون مفيدًا لأيّ منّا.
ولو أردتُ تعريف مشاعري بدقّة، فالأقرب أن يُقال عنها مُربكة، لا مزعجة.
“لكن لا يُعرف أبدًا ما قد يحدث…”
أدرتُ جسدي وفتحت النافذة باتجاه السائق، ثمّ أخرجت رأسي فجأة.
“……؟”
فوجئ السائق من وجهي الذي ظهر فجأة، فرأيت كتفه يرتجف قليلًا.
“سمعتَ ما قاله لايل، أليس كذلك؟ لأجل سمعته، لا تُخبر أحدًا عن مكان هذا المنزل.”
“نعم؟ آه، بالطبع. لن أفعل.”
أجابني السائق بسهولة، وكأنّ الأمر لا يستحقّ التفكير أصلًا.
صحيح أنّ وعده لن يُجدي شيئًا إن كانت عائلة لايل تعلم مسبقًا بمكان المنزل، لكن لابأس.
وقبل أن أُغلق النافذة، لاحظتُ أنّ السائق فتح فمه مجدّدًا، وكأنّه لا يزال لديه ما يقوله.
“ماذا؟”
“أه… ليس بالأمر المهمّ، لكن… الآن فقط، فهمتُ لماذا كانت المرحومة الماركيزة أنيس تشعر بالضيق الشديد.”
ما دخل جدّتي في هذا الآن؟
تجمّدتُ لحظة، أتساءل إن كنتُ قد أعطيتُه سببًا ليتذكّرها.
“لا، لا شيء. فقط، أدخلي واجلسي، فالطريق خطر.”
حين لاحظ ارتجاف جسدي الطفيف، سارع بهزّ رأسه والتقط اللجام مجدّدًا.
فأغلقتُ النافذة وجلست في مكاني ثانية.
هذا الإحساس المزعج… أشعر أنّني مررتُ به من قبل. متى كان ذلك؟
***
كان منزل لايل يقع على أطراف الإمبراطوريّة، في أقرب نقطة إلى الجدار الخارجي.
في الواقع، قبل نصف عام، حاول أن يبحث عن مكان أقرب إلى منزل لوسي.
واختار من بين أفضل الخيارات، لكنّه اضطرّ للتراجع عن قراره.
كااااك—
بينما كان يصعد التلّة، شعر بنظرات تخترقه من الغابة من حوله.
لم تكن نظرات بشر… بل وحوش، مخلوقات شيطانية.
مسح عنقه بضيق وقال:
“لماذا تبحثون عن ملككم عندي؟”
لقد سئم حقًّا.
تزداد تلك الوحوش جرأة كلّ يوم، بل وأصبحت تتخطّى الجدار لتصل إلى حيث يسكن.
لذا قرّر أن يختار هذا المكان المنعزل القريب من الجدار الخارجي كمقرّ له.
“إن كنتم تستطيعون دخول المنزل، فادخلوا بأنفسكم.”
قالها دون أن يُعير تلك النظرات أيّ اهتمام.
وحينها، فُتحت مناقير الطيور قليلًا.
[نحن لا نستطيع.]
[الملك أخفى نفسه حتّى عنّا.]
[دون أمرٍ منه، لا يمكننا دخول المكان.]
راحت الطيور تُفسّر الأمر بصوتٍ يشبه التأوّه.
فردّ لايل بعينين نصف مغمضتين، كأنّه يستمع لحكاية مملّة:
“لكنّكم قد دخلتم بالفعل، فما هذا الهراء؟”
ضحك ساخرًا، وهو يُعبّر عن استغرابه.
[أنت وحدك من يستطيع إيجاد الملك.]
يا للغرابة.
كان لايل يتمنّى لو يتمكّن من رؤية وجه ذلك الملك.
فردّة فعل الوحوش تجاهه تُشير بوضوح إلى أنّ الوشم في كاحله له علاقة بذلك الملك.
لكنّه لم يكن واثقًا.
فالناس يعتقدون أنّ ملك الشياطين قد مات منذ زمن طويل.
“اختفوا من وجهي.”
أنهى تفكيره العقيم هذا، وأمر الطيور بالمغادرة.
فبدأت ترفرف بأجنحتها، كما أشار.
واحدة تلو الأخرى، انفصلت أقدامها عن الأغصان، والتي ارتجّت قليلًا بفعل الحركة.
وما إن همّت بالرحيل، حامت فوق رأسه لبعض الوقت قبل أن تتلاشى في السماء.
***
كان دايلر يمرّ بظرف عصيب في تلك اللحظة.
“ما زلتَ لم تعثر عليها؟”
لقد مرّ عامٌ كامل منذ ادّعى بثقة أنّه وجدها، دون أن يُظهر أيّ نتيجة تُذكر.
وصبر سيّده قد بلغ أقصاه.
وإن طال الأمر أكثر، فسيجنّ جنونه لا محالة.
وبينما كان يسير في الشارع وسط الفرسان، كان يئنّ بتنهيدة طويلة.
أمّا بقيّة الفرسان، فلم يكونوا على علم بما يُعانيه، بل غرقوا في حديثٍ صاخب.
“إذاً، تمّ رفضك؟”
“لا مفرّ، فهي لا تُحبّ أمثالي.”
“ألم تكن تُحبّها منذ ثلاث سنوات؟ كفى، تزوّج من التي اختارتها عائلتك وانتهِي من الأمر.”
أحد الفرسان، لاحظ صمت دايلر، فسأله بقلق:
“هل تشعر بشيء؟”
أومأ دايلر نافيًا، لكن فجأة… وصلت إلى أذنه صوت أنثوي مألوف:
“قلتُ لك، الأبيض لا يُناسبك!”
“حقًا؟ لكن إن صُمّم بشكل جيّد فقد يبدو جيّدًا…”
ثمّ تبعها صوت مألوف آخر.
دايلر استدار بفزع، وكأنّ الآلهة قد منحته أخيرًا فرصة منصفة.
فرأى لوسي و لايل يتجادلان بخفّة.
“حسنًا، ما دمتَ سترتديه، فافعل ما تريد.”
كانت لوسي تحمل قطعتي قماش، إحداهما سوداء، والأخرى بدرجات الكحلي.
يبدو أنّهما يناقشان زيًّا رسميًّا.
ثمّ بدأت لوسي تشرح:
“كما أنّني بحثتُ قليلًا عن طرق لزيادة عمليّة الزيّ الرسمي…”
وكانت عينا دايلر لا تبارح وجهيهما.
وهذا هو السبب الرئيسي وراء فشله في التقدّم حتّى الآن.
فالعلاقة بينهما كانت كجدارٍ منيع لا يُمكن تجاوزه.
بل ولم يكن لايل وحده صعب المنال، بل حتى لوسي، بصفتها مركيزة، يصعب الوصول إليها.
‘أليس هناك مبرّر جيّد أستطيع التقدّم من خلاله؟’
فكّر في التظاهر بالغباء والتقدّم نحوهما.
لكن صوت فارسٍ كان لا يزال حزينًا، قطع عليه حبل تفكيره:
“كنتُ أحلم بزواجٍ عن حب!”
“لكنّ عائلتك محافظة جدًا. حلمك مستحيل من البداية.”
“يا لك من عديم الرومانسية…”
“أنا شخص واقعي. أرسلتُ قبل مدّة عرض زواج لفتاة من الدولة المجاورة
. أنصحك بأن تفعل شيئًا قبل أن يفوتك قطار الزواج.”
وما إن سمع تلك الكلمات، حتى خطرت في ذهن دايلر فكرة خاطفة.
الماركيزة التي تُدعى لوسي سويينت، بلا خطيب.
“عرض زواج…”
فكر بها، ولم تكن فكرة سيّئة تمامًا.
ابتسم وهو يُفكّر بأنّ لديه الآن ذريعة معقولة… حتى لو بدت غريبة بعض الشيء.
ترجمة:لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 67"
لااااااااااااااا !!
لوسي لـ لايل !!
ان شاء الله لايل يدفنه ويفكنا منه