انفصلتُ عن ميليسا وتوجّهتُ مباشرةً نحو ساحة التدريب. غير أنّ شعورًا غريبًا راودني طوال الطريق.
لماذا يبدو الجميع يتجهون في الاتجاه المعاكس، وليس نحو ساحة التدريب مثلي…؟
بتردّدٍ وارتباك، أخذتُ أتمعّن في وجوه وأحوال من مرّوا بجانبي. ومن النظرة الأولى، كان من الواضح أنهم طلّاب فنون السيف مع عائلاتهم.
ولم يكن ذلك غريبًا، إذ لفتت نظري السيوف المعلّقة بدقّة على خواصرهم، والخيوط الحمراء المتدلّية من مقابضها.
تلك كانت الشارة التي تُمنَح عند تلقّي وسام الفروسية.
وما إن استوعبتُ الموقف، حتّى اجتاحتني موجة من القلق.
‘لا يعقل…!’
أسرعتُ الخطى نحو ساحة التدريب، وما إن وصلتُ إلى المدخل، حتى بادرتُ بالسؤال أحد المدرّبين الواقف هناك:
“هـ، هل انتهت مراسم منح الألقاب بالفعل؟”
“هاه؟ نعم، لقد انتهت للتو فقط…”
أجابني المدرب وهو يحكّ رأسه، وكأنّه يتساءل إن كنتُ أجهل الأمر.
مستحيل…
كنتُ على يقينٍ تام أنّ المراسم ستُعقد داخل الأكاديمية، ولهذا السبب لم أجد ضرورة لسؤال لايل عن مكانها.
صحيح أنّي لم أعرف الموقع بدقّة، لكنّي على الأقل تأكّدتُ من توقيت البداية كي لا أتأخّر.
ولقد قيل لي بوضوح إنّها ستبدأ في نفس توقيت حفل التخرّج…
“آه، ربّما أخطأتي في فهم الموعد. لقد تمّ تقديمه قبل ثلاثة أيّام، وأصبح يُقام قبل ساعة من موعده السابق.”
لماذا…؟ لماذا بالضبط في اليوم الثالث الذي انقطعتُ فيه عن لقاء لايل… غيّرتم الموعد؟
وفوق ذلك، ألا يجدر به مهما كان مشغولًا أن يخبرني بذلك على الأقل برسالة بسيطة؟
حدّقتُ في المدرب بوجهٍ خالٍ من التعابير، فتنحنح متضايقًا وحرّك رأسه جانبًا كي يتفادى نظراتي.
ورغم أنّي لم أتمكّن من حضور مراسم التخرج، فإنّي لم أستدر لأغادر.
بل دخلتُ إلى ساحة التدريب، عازمة على البحث عن لايل.
وبما أنّي لم أصادفه في الطريق، فالمرجّح أنّه لا يزال داخل الساحة.
كنتُ على الأقل أرغب في تهنئته على تخرّجه.
رغم أنّي قضيتُ أكثر من عامٍ في هذه الأكاديمية، فإنّها كانت المرة الأولى التي أدخل فيها ساحة التدريب، لذا شعرتُ بغرابةٍ طفيفة.
والسبب في ذلك أنني وعدتُ لايل في السابق ألا أزوره هنا مجددًا، ولم أشأ أن أخلّ بذلك الوعد.
“همم…”
لكن، لا بأس إن كان اليوم فقط، أليس كذلك؟ هكذا تمتمتُ في داخلي وأنا أتلفّت حولي.
رأيتُ عددًا من الطلّاب لم يغادروا بعد، لكن لايل لم يكن من بينهم.
‘إلى أين ذهب هذا الفتى؟’
***
فور انتهاء المراسم، بدا وكأنّ لايل كان يفرّ من أحدهم وهو يبتعد عن المكان.
أسرع ليختبئ خلف أحد المخازن، ثم سقط جالسًا على الأرض متأوّهًا من ألمٍ تصاعد من كاحله.
حاول أن يمسك بكاحله وهو يسحب ركبته نحوه، لكن الألم لم يهدأ قيد أنملة.
ظنّ أنّ حالته قد استقرّت في الآونة الأخيرة، لكنّ الألم، وكأنّه يسخر منه، عاد قبل ثلاثة أيّام بطريقة غير منتظمة وكأنّ كاحله سينكسر.
“هاه…”
أطلق لايل تنهيدةً ثقيلة، ثم رفع ذقنه وأغمض عينيه بصمت.
‘الآن تقريبًا موعد وصول لوسي…’
بسبب الألم الذي عذّبه طيلة الأيام الثلاثة الماضية، لم يكن لديه أي طاقة لإبلاغ لوسي بتغيير الموعد.
“……”
حين بدأ العرق البارد يتجمّع على جبينه، فتح لايل عينيه نصف فتحة ثم ترك كاحله.
مدّ ساقه محاولًا تخفيف الألم قليلًا، ثم اتّكأ بظهره على جدار المخزن، يلهث بين الفينة والأخرى.
لكنّ الألم لم يختفِي.
بل أخذ يرهقه حتى كادت عيناه تنغلق من شدّته، وفي النهاية، امال رأسه إلى الجانب وسقط في حالة شبه إغماء.
وأثناء غفوته المؤلمة، لم يتوقّف الثعبان عن الحركة.
كان يلتفّ حول كاحله باستمرار، إلى أن تجمّد فجأة في مكانه.
وعندها فقط، بدأ الألم يهدأ تدريجيًّا وكأنّه لم يكن.
وفي تلك اللحظة بالذات—.
“لايل.”
سمع صوته، بنبرةٍ خافتة فيها شيءٌ من الارتجاف. لقد كانت لوسي.
وما إن تعرّف على الصوت، حتى ارتعشت رموشه كأمواجٍ تهتزّ تحت الماء.
“هل كنت نائمًا؟”
هنا؟ نائم؟
فتح لايل عينيه، ليرى لوسي تتلفّت حولها بتعبيرٍ حائر. عندها فقط بدأت رأسه، التي كانت مشلولة، تعمل مجددًا.
عدّل من وضع رقبته وأجاب ببطء:
“لا، فقط كنتُ مغمضًا عيني من التعب.”
رمش بعينيه عدّة مرّات، وما لبثت الرؤية الضبابية أن تلاشت.
وكان الألم الذي عذّبه قد تلاشى كذلك.
‘كم سيدوم هذا الهدوء؟’
طرح على نفسه سؤالًا لا يملك له إجابة، ثم وقف من مكانه بحركة بطيئة.
رفعت لوسي رأسها تلقائيًا لتنظر إليه، ثم فجأة، فتحت عينيها على اتّساعهما ومدّت يدها لتزيح خصلات شعره عن جبينه:
“هل هذا عرق بارد؟ أأنت مريض؟”
بالنظر إلى أننا في نهاية فصل الشتاء، فإن التعرّق لم يكن طبيعيًّا.
خشيًا من أن تلاحظ ذلك، أمسك لايل بمعصمها على الفور.
“لا، لستُ مريضًا. ربما فقط متعب قليلًا.”
دون تردّد، استخدم نفس الكذبة القديمة لتجاوز الموقف.
لكن لوسي، التي شعرت بأنّ في كلامه شيئًا غريبًا، ضيّقت عينيها وحدّقت فيه من أعلى إلى أسفل.
غير أنّ آثار الألم كانت قد اختفت تمامًا من ملامحه.
ولذلك، سرعان ما استسلمت لوسي وتخلّت عن محاولة التأكّد من صدق كلامه.
قالت بشيء من التبرّم:
“لنذهب. تبدو متعبًا فعلًا.”
رغم شكّها، يبدو أنها صدّقته بدرجة معيّنة، فمدّت له يدها بوجهٍ متعاطف.
فأخذ يدها دون تردّد.
“هل ستأتي إلى بيتنا؟ هل أجهّز لك غرفة الضيوف؟ أم أوصلك إلى منزلك؟”
كانت لوسي تعلم أنه بدأ العيش بمفرده منذ أسبوع، لذا قدّمت له خيارات متعددة.
“لكن إن أردتَ أن نذهب إلى منزلك، فعليك أن تخبر السائق بمكانه.”
لاحظت لوسي هدوءه الزائد عن المعتاد، فحاولت أن تملأ الصمت بصوتٍ خافتٍ وعذب.
“أوصليني إلى المنزل، من فضلك.”
وحين أجاب أخيرًا، رمقته لوسي بنظرة جانبية خفيفة.
يبدو أنها كانت تتوقّع أن يقول
‘سآتي معكِ’.
ومع ذلك، لم تُظهر خيبة أمل، بل أومأت برأسها موافقة.
“حسنًا.”
“أأنت بخير حقًّا؟”
سألت من جديد، وعلى الرغم من أنها باتت تنظر أمامها، إلا أنّ لايل اكتفى بهزّ رأسه دون كلام.
تمايلت خصلات شعره الأرجوانية الخفيفة أمام ناظريه، فنظر إلى لوسي التي كانت تسير بصمت وهي تمسك بيده، وابتسم بخفوت.
‘هل أقول لها الآن أنني أتألّم؟’
لو فعل، لركعت فورًا كما اعتادت في السابق، وأزاحت بنطال ساقه لتتفحّصه وهي بعينين مرعوبتين تنظران إليه.
لقد كان يشعر بسعادة غامرة حين يرى ذلك القلق الصادق يتلألأ في عينيها الحمراء بلون الغروب.
“لوسي.”
في النهاية، لم يستطع كبح جماح رغبته وناداها باسمها.
“هم؟”
استدارت نحوه وهي تمسك بطرف قبّعتها، تتأمّله بعينيها الواسعتين، تنتظر كلامه.
“لا شيء.”
تمكّن من كبح اندفاعه وردّ بإجابة باهتةٍ أنهت الحديث.
أمالت لوسي رأسها قليلًا، ظنّت أنه يمزح.
كانت على وشك الرد، لكنها بعد لحظة صمت، أغلقت فمها.
أدركت أن حالته اليوم لا تسمح.
حتى أنها لم توبّخه لأنّه لم يخبرها بتغيير موعد المراسم.
فقد بدا لها اليوم أن حالته ليست على ما يرام.
ولم يكن لايل غافلًا عن ذلك.
فقد أدرك تمامًا أنّ لوسي تحاول مراعاته، فتجنّبت حتى أبسط توبيخٍ له.
“تفضّل، اصعد أوّلًا.”
ما إن وصلت العربة حتى أسرعت لوسي إلى فتح بابها، متصنّعة دور الرجل النبيل.
كان تصرّفها غريبًا لدرجة أنّ لايل توقّف عن السير لحظة.
“لكن هذا من المفترض أن أفعله أنا لكِ.”
تمتم متذمّرًا، وكأنّه يقول
ل’ماذا تسلبينني دوري؟’
ضحكت لوسي وأجابت بوجهٍ مشرق:
“لأنّك أصبحتَ فارسًا الآن، وسأضطرُّ لتلقّي هذه المعاملة الغريبة منك لاحقًا. فاعتبرها مرّة أخيرة لتذوق شعوري!”
لقد أرادت أن تعبّر عن اهتمامها بطريقتها المرحة، تمامًا كما فعلت حين زارت كوخه القديم.
كانت دائمًا تعرف كيف تبعث الدفء إلى قلبه.
“صحيح… تبدين غريبة فعلًا.”
ابتسم وهو يقولها، وقد شعر بأن حالته النفسية بدأت تتحسّن.
ولحسن الحظ، كان كاحله لا يزال على ما يرام.
غطّى عنقه بظاهر يده، متظاهرًا بأنه يمسح ذقنه، ثم قال:
“لكن بما أنّك تفتحين الباب، ألا يجدر بكِ إمساك المقبض حتى لا يغلقه الهواء فجأة؟”
رمقته لوسي بنظرة جانبية محرجة، ثم أمسكت المقبض وقالت بعينيها
‘هل كان يجب قول هذا الآن؟’
“… حسنًا. سأضعه في الحسبان لاحقًا.”
ضحك لايل وقال:
“هل ستفعلينها مجددًا؟”
“كنتُ سأكتفي اليوم فقط، لكن بعد انتقادك، سأفعلها مجددًا حين تنسى!”
ثم قفزت داخل العربة أوّلًا.
ويبدو أنّها انزعجت قليلًا بالفعل.
نظر إليها لايل
بطرف عينيه، ثم خفَض بصره.
كما أنّ لوسي وضعت حدًّا بينهما، كذلك هو أيضًا باتت أسراره تزداد واحدةً تلو الأخرى.
ثم—.
سمع صوتًا كخشخشة، كأنّ شيئًا خفيًّا يتشقق.
ربّما كانت فجوة تتّسع شيئًا فشيئًا.
وكان لايل يعلم… أن ذلك الصوت لا يسمعه أحد سواه.
ترجمة :لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 66"