عندما غفت الأميرة باكية من شدة الإرهاق، كنت قد عدت إلى قصر الماركيز برفقة لايل.
كنت أنوي أن أستريح في القصر الإمبراطوري لفترة أطول، لكنني عدلت عن الفكرة مراعاةً لـ لايل.
وفي مقابل أن أعود معه إلى القصر، اشترطت عليه شرطًا واحدًا:
أن يوصلني فقط إلى القصر، ثم يعود فورًا إلى الأكاديمية إما هذه الليلة أو في وقت مبكر من الفجر.
كما هو متوقّع، تجهم وجه لايل وكأنه يستعد لجولة جديدة من الجدال، لكنني بادرت بالقول:
“يمكنك دائمًا المجيء عندما لا يكون لديك تدريب”، فارتبك فجأة وجمد في مكانه.
“تستطيع المجيء كلما أردت لتتأكد أنني بخير.”
كنت سابقًا أصر على ألا يأتي بسبب إرهاقه في الأكاديمية، لكن بما أنني الآن سمحت له، بدا عليه الحيرة وكأنه لا يعرف كيف يتصرف.
صحيح أنني تراجعت بهدوء قليلًا في المرة السابقة، لكن هذا لا يعني أنني تخلّيت عن فكرة إبعاده، أليس كذلك؟
ابتسمت بابتسامة نصر بعد غياب، وأنتظرت بصمت حتى يتحدث لايل مجددًا.
لقد تردد طويلًا حتى شعرت أنني أسمع صوت تفكيره من شدة تركيزه.
“…حسنًا. سأعود نهاية هذا الأسبوع إذًا.”
إذًا هو سيتوقف عن التدريب هذا الأسبوع. يا لها من مصادفة مناسبة، أومأت برأسي موافقة.
في داخلي، كنت أعتقد أيضًا أنه بعد زيارات قليلة، سيجد الأمر مرهقًا ويتراجع من تلقاء نفسه.
“عد بحذر.”
لوّحت له بيدي سريعًا قبل أن يغيّر رأيه.
في النهاية، صعد لايا إلى العربة كمن استسلم تحت الضغط. وبينما كان ينصرف، نظر خلفه عدة مرات وكأنه لم يرغب بالرحيل، لكنه لم يتوقف.
وحين غادرت العربة أخيرًا، أنزلت يدي ببطء. وتوجه بصري تلقائيًا نحو أثر العجلات على التراب.
وقفت هناك، أسترجع ما حدث في وضح النهار.
لقد كانت هذه المرة الأولى التي أرى فيها وحشًا شيطانيًا بعينيّ، لذا ظلت تفاصيل المشهد حاضرة في ذهني كأنها محفورة.
“وحش ضخم… وكأنه نمل…”
رغم أنها كانت وحوشًا على هيئة حشرات، فإن أحجامها كانت هائلة مقارنة بالحشرات العادية.
وما زالت أعينها المشقوقة عموديًا، والتي تميّز الوحوش الشيطانية، عالقة في مخيلتي.
ومع ذلك—
“لحسن الحظ أنها كانت بطيئة، على عكس الحشرات العادية… وإلا لما كنت على قيد الحياة الآن.”
لم تُصِبني آثار نفسية أو جسدية تُذكر.
حتى أنا نفسي فوجئت بمدى تماسك أعصابي، وفهمت لم بدا ريير مندهشًا مني.
“هل يُعقل أنني أمتلك شجاعة أكثر مما أظن…؟”
أو ربما لأنني تعرّضت كثيرًا للوحوش والشياطين بسبب لايل منذ الصغر، فقد أصبح لدي قدرة تحمّل لا بأس بها—
“آنستي!”
“آه!”
صُدمت فجأة من صوت غير متوقع، فارتجفت أطرافي بعنف لا إرادي.
التفتُ بسرعة، ممسكةً قلبي الذي خفق بقوة، لأجد أمامي سائق العربة الذي عمل في القصر منذ صغري.
“الحمد لله! آنستي، كانت سارة محقة! كنا قلقين جدًا عليكِ!”
“أوه، أهه…”
كنت منشغلة بتهدئة قلبي المفزوع لدرجة أنني لم أستطع حتى أن أعتذر لهم على القلق الذي تسببت فيه.
… هل أنا شجاعة حقًا؟ أم لا…؟
***
في الليل، انخفضت درجة الحرارة فجأة، ومع تسلل البرودة إلى الأجساد، ارتجف الفرسان الذين أنهوا عملهم للتو.
فقد بدأ العرق الذي غمرهم أثناء العمل يجف، فشعروا بالقشعريرة.
“شكرًا لكم على جهودكم المتواصلة حتى هذا الوقت المتأخر.”
في هذه الأثناء، عاد دايلر من دوريته على أسوار الإمبراطورية، وحيّى الفرسان العاملين تقديرًا لهم.
انحنوا له باحترام. وقد أعرب بعضهم عن أسفهم لأن وقت تسلل الوحوش الشيطانية تزامن مع وقت دورية دايلر.
“سمعت عن الحادثة بشكل عام، لكنني أود الاستماع لتقرير تفصيلي قبل إبلاغ الكاهن الأكبر…”
نظر إلى الفرسان من حوله وقال، عندها رفع أحد الفرسان يده قائلًا إنه سيشرح بنفسه.
بدأ الفارس يسرد التفاصيل التي يعرفها بلغة سلسة ومترابطة دون أن يغفل شيئًا.
وخلال استماعه، أومأ دايلر بجدية. كان التقرير قصيرًا نسبيًا، وربما كان أقصر لولا ما أضافه الفارس عن لوسي و لايل.
“من بين الذين سقط عليهم المبنى، وحدها ماركيزة سايوينت نجت. أما البقية…”
توقف عند هذا الحد بصوت حزين، لكن في المقابل، عينا دايلر لمع فيهما بريق وسط الظلام.
“هل هناك من نجا أحد فعلاً؟”
سأل دايلر بنبرة فيها لمحة من الفضول، لكن الفارس أجاب بجدية دون أن يلاحظ ذلك.
“نعم. ربما بسبب وجود فجوة بين الأنقاض، نجت بأعجوبة.”
أثناء حديثه، تذكّر منظر لايل وهو يزيح الحطام بنظرة قاتمة، فأحس بقشعريرة ومسح ذراعه لا شعوريًا.
“ويُقال إنها عادت إلى القصر برفقة ابن آل مارسين.”
“لو أنها تضررت من الانهيار بهذا الشكل، فلا بد أنها تعاني إصابات. لكنها عادت؟”
ازداد الفضول في نبرة دايلر.
“نعم… على ما يبدو تعافت سريعًا وعادت كما لو لم يحدث شيء.”
وافقه الفرسان المحيطون به بهز رؤوسهم، وكأنهم يؤكدون أن لا مبالغة في الأمر.
رأى دايلر حركتهم الجماعية، فرفع يده ليغطي فمه بصمت، وظل ساكنًا للحظات.
ولم يستغرب الفرسان سكوته، وظنوه مندهشًا من حظ لوسي، كما حدث معهم.
ثم، أنزل يده وأطلق ابتسامة بعينيه قبل أن يتحدث مجددًا.
“لقد تأخر الوقت، فلنعد. لا يمكننا إنجاز المزيد في الظلام على أي حال.”
وبمجرد أن قالها، تنفس الفرسان الصعداء وانصرفوا واحدًا تلو الآخر.
لكن دايلر الذي اقترح الرحيل، لم يتحرك من مكانه. ظل واقفًا، يلوّح لهم وهم يبتعدون.
وبعد قليل، بقي وحده وسط الأنقاض التي لم تُزال بعد.
وعندها، اتسعت ابتسامته.
ثم التفت نحو القسم المنهار من القصر الإمبراطوري.
يا تُرى، كم سيفرح سيده عندما يعلم بذلك؟
أو ربما… سيغضب.
فقد أوصاه ألا يقتل أي طرف قبل الآخر مهما حصل.
وبالرغم من أنها كانت خطوة للتحقق، فإن ما فعلته كان مخالفة صريحة لتلك التعليمات.
فقط مع الثقة بأن إذا كانت توقعاتي صحيحة، فلن أموت من شيء مثل هذا.
مع أن النتيجة هذه المرة لم تكن واضحة كليًا.
كان الأمر طبيعيًا، كنت سأتجنب هذا الأمر دون تفكير ثانٍ.
“حسنًا… الأمور سارت في اتجاه جيد على أية حال.”
ابتسم دايلر بوجه مفعم بالرضا، كأنّه طفل أنهى واجباته المنزلية أخيرًا.
***
رغم أن اليوم الذي وقع فيه الحادث كان من أسوأ الأيام في تاريخ الإمبراطورية، فإن ما تلاه كان هادئًا بشكل غريب.
بالنسبة لي، أكثر ما كان مزعجًا هو أن النبلاء أخذوا يتهافتون لسؤالي عن صحتي دون توقف.
ونظراتهم التي تشبه النظر إلى مبنى أثري غريب لم تكن مريحة أبدًا.
ومع مرور الوقت، بدأت أعداد الوحوش الشيطانية في أنحاء الإمبراطورية تنخفض بشكل ملحوظ، وكأن الحادثة كانت مجرد نكبة عابرة، وسارت الأمور بسلاسة بعد ذلك.
وحين بدأت ذاكرتهم عني تتلاشى ببط
وبينما كان الوقت يمرّ بهدوء، أكمل لايل جميع مقرراته الدراسية وعاد إلى القصر.
وبما أنه كان قد أخذ إجازة فصل دراسي سابقًا، تأجل موعد تخرجه إلى نصف عام لاحق، ليكون في نفس وقت تخرج ميليسا.
ولأن التعيين الرسمي كفارس لا يتم إلا بعد التخرج، ظل لايل يتنقل طوال تلك الأشهر الستة في عدة أماكن.
كما فعل سابقًا حينما أخذ إجازته، بدا واضحًا أنه لا يستطيع البقاء في مكان واحد طويلًا.
وبالتالي، لم أتمالك نفسي وسألته:
“إلى أين تتنقل طوال هذا الوقت؟”
فأجابني بابتسامة:
“أتنقل بين القصر والأكاديمية، أقبل المهام وأكسب المال.”
تفاجأت، لكن ما قاله بعد ذلك فاجأني أكثر.
“أخطط لمغادرة البيت بعد التخرج. علي أن أستعد من الآن.”
لم يكن مجتهدًا فحسب، بل كان يخطط للمستقبل بدقة أيضًا.
كان يستعد للاستقلال التام.
“إذا ادخرتُ قليلًا بعد، سأتمكن من شراء المنزل الذي اخترته مسبقًا.”
كانت ملامحه متألقة بالفخر حين قال ذلك.
حقًا، لطالما ضاق ذرعًا بالبقاء طويلًا في قصر الدوق، وكان يقضي أغلب وقته في الخارج أو عندنا.
ربما كان ينوي الخروج من البيت بمجرد أن يُتم سن الرشد ويتخرج، لكنني تسببت في تأجيل خطته دون قصد.
جلست أمامه بعدما ناولته أوراق تأسيس الفيلق الجديد. راقبته وهو يوقّع بأناقة لا تزال كما عهدتها.
هذا القرار نابع مني جزئيًا، لذا أردت مساعدته قدر المستطاع…
بينما كنت أراقب خط يده الأنيق، تجرأت وقلت:
“لايل.”
ناديت باسمه بنبرة جادة، فتوقّف ورفع رأسه نحوي.
“نعم؟”
“كنت أفكر… لم أقدّم لك هدية دخول الأكاديمية من قبل، أليس كذلك؟”
“هدية دخول؟”
فتح عينيه بدهشة وكأن الموضوع قديم جدًا.
ثم أجاب:
“اتفقنا حينها أننا لن نتبادل الهدايا.”
حسنًا، ولكن—
بدا عليه الارتباك، وكأنه لا يفهم ما الذي أقصده، فتابعت بسرعة:
“لكننا لم نتفق على شيء بخصوص هدية التخرج، أليس كذلك؟”
اعتدلت في جلستي وأظهرت وجهًا جادًا كما لو كنت سأصدر قرارًا خطيرًا. ومع ذلك، كان ينظر إلي بحيرة أكبر.
“أنا، رغم كل شيء، أملك بعض المال.”
والبعض هذا… كثير في الحقيقة.
“كما أنني لا أنفق على رفاهيتي كثيرًا.”
“لوسي؟”
“لذا، ادّخرتُ مبلغًا لا بأس به.”
ولأني سأدفع من مالي الخاص وليس من ميزانية العائلة، فلا بأس بذلك… صحيح؟
“هل ترغب بمنزل كهدية تخرج؟”
لم يكن كلامي ثقليلًا من شأنه أبدًا. بل، في الواقع، استطاع في أقل من نصف عام أن يدّخر ما يكفي لشراء منزل— وهذا بحد ذاته إنجاز.
كانت نيتي صافية— مجرد هدية تهنئة.
وبالطبع، لو رفض، فلن أصر عليه.
“…يمكنني أن أشتري لك منزلين أيضًا.”
وحين بدا عليه التردد، رفعت أصبعيْن بابتسامة وأضفت العرض.
عندها، غطى لايل فمه سريعًا بيده، وكان واضحًا أنه يحاول كتم ضحكته.
وكانت كتفاه ترتجف بخفة.
…هل تضحك علي الآن؟
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 64"
دايلر يا غثاثته ..!!! ما كنت مرتاحته من الفصول اللي قبل من مشاهده مع لايل! حتى لايل حس.. والحين أثبت لي صحة إحساسي ومع الوقت لايل بيتأكد من إحساسه😂😂😭