دق، دق—
كنت على وشك أن أستعيد هدوئي وألتفت مجددًا نحو لايل، حين طرق أحدهم الباب.
بطبيعة الحال، توجهت أنظار كلٍّ منّي ومن لايل نحو الباب.
“يا ابن عائلة مارسِن، هل لي ببضع دقائق؟”
كان الطارق هو جلالة الإمبراطور نفسه.
وما إن سمعت صوته المألوف حتى رمقت لايل بإيماءة.
“افتح له الباب بسرعة.”
كنت أنوي رؤيته على أي حال، لكن الفرصة سنحت أبكر مما توقعت.
وما إن فتح لايل الباب، حتى وقف خلفه الإمبراطور ممسكًا بيد الأميرة كلوي.
وبوجهٍ يملؤه القلق، توجه الإمبراطور بالكلام إلى لايل:
“أليس من الأفضل أن تعود الآن؟ عندما تستفيق ماركيزة سويينت سنُعلِمك بذلك، لذا ارجع قبل أن يفوت الأوان.”
يبدو أنه لم يسمع بعد أنني استيقظت، فقلق بشأن دراسة لايل.
كنت أفكر متى سيكون الوقت الأنسب لأظهر أنني استيقظت، حين التقت عيناي بعيني الأميرة، التي كانت تبدو مكتئبة.
وفجأة، أشرقت ملامح الأميرة كما لو لم تكن حزينة منذ لحظة!
“لوسي!”
نادَتني بصوت مفعم بالفرح لا يُضاهى، فبادلتها ابتسامة مشرقة.
ثم تركت يد الإمبراطور وهرولت نحوي بخطوات قصيرة سريعة بدت في غاية الظرافة.
وبينما كنت غافلة للحظة، وصلت إلى حافة السرير ووضعت ذراعيها عليه وسألتني:
“لوسي! هل أنتِ بخير الآن؟!”
رأيت عن قرب كيف أن عيني الأميرة الصغيرتين محمرّتان، وجفنيها متورّمان.
فمسحت لهما بلطف، لتغمض عينيها وتفتحهما بهدوء.
“بالطبع، أنا بخير تمامًا.”
وضعت يدي على خصري، متعمدة المبالغة في حركاتي لطمأنتها، حتى إنني رفعت كتفيّ كما يفعل الأقوياء.
“أنا أقوى مما أبدو عليه، على ما يبدو.”
بصراحة، هذه أول مرة أكتشف فيها أنني قوية إلى هذا الحد. طبعًا، كان الحظ عاملًا كبيرًا في نجاتي بهذه الجروح البسيطة.
“وهل أنتِ بخير يا صاحبة السمو؟”
نظرت إليها بعناية لأتأكد، إذ لم أستطيع طرد الشعور بالذنب من رميها فجأة في خضمّ الموقف الطارئ.
ولحسن الحظ، كما قال لايل، لم تكن مصابة بشدة.
“انها بخير بفضلك.”
لكن من أجاب كان الإمبراطور، لا الأميرة.
لم ألاحظ متى اقترب، لكنه كان يرمقني بنظرات مدهوشة.
“كنا نظن أنكِ ميتة لا محالة…”
نبرة صوته كانت مشبعة بالارتياح. فأومأت برأسي موافقة.
وأنا أيضًا، كنت أعتقد أنني لن أنجو.
“لا شكّ أنّ يدَ القدر كانت لطيفةً بكِ. سعيدٌ لأنّكِ بخير.”
كدت أن أُكذّب عبارته، فأنا أعلم جيدًا أن من أنقذني لم يكن القدر، بل لايل…
لكنني لم أشأ أن أفسد اللحظة، فاكتفيت بصمتٍ ونظرةٍ خاطفةٍ نحو لايل، الذي كان واقفًا قرب الباب يتأملني بابتسامةٍ هادئة.
“بالمناسبة، كلوي، ماذا قلتِ أنكِ ستقولين أولًا عندما تستفيق ماركيزة سويينت؟”
قال الإمبراطور ذلك واضعًا يده على رأس الأميرة الصغيرة التي كانت تمسك بطرف اللحاف بإحكام.
حينها التفتُّ إلى الأميرة من جديد.
“أجل! لوسي، شكرًا لكِ… ثكرًا جزيلاً… ثكرا كثيرًا…”
قالتها بحماسة وثقة، لكنها ما لبثت أن تلعثمت. يبدو أنها حاولت التعبير عن امتنانها بأقصى طاقتها، لكنها لم تكن متأكدة إن كانت تستخدم المستوى اللغوي المناسب.
“ثم… ثم!”
لم أُجِب بعد، لكنها سارعت بإكمال كلامها:
“لم تعودي بحاجة للعب معي بعد الآن!”
نظرت إليها بدهشة، وكذا فعل الإمبراطور.
لكنها لم تُدرك نظراتنا وواصلت:
“سأقلّل من اللهو، وأكرّس نفسي للدراسة، حتى أصبح إمبراطورة عظيمة في المستقبل!”
لهو؟ دراسة؟
حسنًا، الدراسة أمر معقول، لكن أن تخرج كلمة “لهو” من فم طفلة في الخامسة…!
وهي حتى لم تعرف كيف تعبّر عن الشكر منذ قليل!
“هممم… يا صاحبة السمو، أنتِ بالفعل تجتهدين كثيرًا.”
أومأتُ برأسي نافية، لكنها فعلت الأمر نفسه بعزم، وكأنها ترفض الفكرة بشدة.
“لا! هذا لا يكفي.”
كانت جديتها تامة، زادها وضوحًا الظلّ الذي ارتسم على وجهها بسبب الإضاءة الخلفية.
“فهمت. سأشجعكِ إذن! لنعمل معًا لنصبح بالغين رائعين!”
أنا نفسي لستُ بالغة بعد، لذا شعرت أن من الأفضل أن أعدها بالمشاركة بدلًا من أن أبدو كأني فوقها.
وحين قبضت على قبضتي بحماس، ضحكت الأميرة بصوت عالٍ.
ثم، وكأنها تذكّرت شيئًا فجأة، بدأت تضرب وجنتيها بلطف لتُظهر احمرارًا مصطنعًا.
“أوه، صاحبة السمو… لماذا تضربين خدّيك؟”
كنت على وشك إيقافها عندما قاطعتني بصوتها الواضح:
“إذًا… عندما أكبر، هل تتزوجينني؟”(عموتتت😭)
لحظة… ألم تطلبي من لايل الزواج قبل شهر؟
رُفض طلبها آنذاك، لأن لايل أخذ كلامها على محمل الجد…
لكن الآن، ها هي تتقدّم إليّ بعرض زواج، وبأسلوب أكثر توترًا، مما جعلها تبدو جادّة للغاية.
مع ذلك، لم أرَى فيها سوى براءة طفلة في الخامسة من عمرها، فلم أتمالك نفسي عن الابتسام بلطف.
لكن ما إن ابتسمت، حتى صاحت الأميرة بصوت أعلى:
“لو— لوسي أنقذت حياتي! فكيف لي ألّا أقع في حبّك؟!”
آه، إذًا لهذا السبب…
الآن فهمت سبب اقتراحها المفاجئ. ومع هذا الإدراك، اتسعت ابتسامتي أكثر.
“الزواج، هاه… هممم…”
وضعت ذراعيّ على صدري وتظاهرت بالتفكير بجدية، كأنني راشدة مسؤولة.
في الحقيقة، كنت أبحث عن إجابة لا تجرح ذكرياتها عندما تكبر.
“إذًا—”
كنت على وشك أن أتكلم، عندما—
“أعذريني، صاحبة السمو.”
لايل، الذي لم أسمع اقترابه، قاطعني بصوت رسمي، وقد اختفت ابتسامته السابقة تمامًا.
أنت تقاطعني كثيرًا اليوم، أليس كذلك؟
“حسب قوانين الإمبراطورية، هذا مستحيل.”
ما مشكلتك بالضبط؟
لماذا تُحبط أحلام الأطفال بهذه الطريقة؟
“قا— قانون…؟”
تمتمت الأميرة بذهول وكأنها اصطدمت بجدار الواقع.
“لـ— لا، صاحبة السمو… الأمر ليس هكذا…”
لكن لأن لايل كان محقًا، لم أجد ما أقول. رمقته بنظرة غاضبة ووبخته هامسة:
“لمَ تقول هذا الآن…!”
رغم خفوت صوتي، لم يكن مستحيلًا على الإمبراطور القريب سماعه، وبدأ العرق يتصبّب من ظهري.
“أنا فقط أقول الحقيقة.”
آه، وهل يجب قول الحقيقة دائمًا؟!
خفت أن يتفوّه بكلام أكثر، فسحبت ذراعه بسرعة وقربته مني، ثم غطيت فمه بيدي ونظرت نحو الإمبراطور.
“جلالتك، أعتذر. هو، أعني، لايل، أعني ابن آل مارسِين، لم يقصد شيئًا سيئًا، فقط…”
ماذا أقول؟ هل أقول إنه لا يعرف كيف يتعامل مع الأطفال؟
بينما كنت أفكر، بدأت ملامح الأميرة تتلوى وكأنها ستبكي.
لا، كارثة… إن بكت الأميرة الآن، فالإمبراطور سيغضب—
“وما الذي تعتذرين عنه؟ لقد قال ابن آل مارسِين الحقيقة، أليس كذلك؟”
“… عذرًا؟”
ظننت أنني سمعت خطأ.
“كلوي، ربما لم تتعلمي بعد قوانين الزواج في الإمبراطورية، لكن كما قال ابن آل مارسِين، لا يمكنك الزواج من ماركيزة سويينت.”
“آه… اهععع…”
كلمات الإمبراطور، التي بدت كمحاضرة قانونية، صدمت الأميرة التي بدأت تدمع من جديد.
كنت أتبادل النظرات بينه وبين الأميرة بدهشة لا أستطيع إخفاءها.
“وفوق ذلك، أن تطلبي من فتى تكبرك بسنوات أن ينتظركِ للمستقبل، هو أمر غير عادل له.”
في هذه المرحلة، بدأت أشكك في نفسي.
“ماركيزة سويينت، لا بأس بأن تكون صريحة و قولي إن الأمر لا يجوز. سيساعدها ذلك على النمو.”
هل أنا من يفكر بشكل غريب…؟
شعرت بالهزيمة، وتركت ذراع لايل، بينما بدا هو غير مدرك لأي خطأ ارتكبه.
والآن، مع كلام الإمبراطور الذي يتماشى مع لايل، أصبحتُ أنا الطرف الغريب في المعادلة.
“كلوي، فهمتِ؟”
قالها الإمبراطور بنبرة صارمة أولًا، ثم بلطف في النهاية، كأن الأمر انتهى.
“نـ نعم… اهععع اهع… واععع!”
رغم أنها أجابت، لم تستطع تمالك دموعها، فانفجرت بالبكاء مجددًا.
كنت أعرف أنها ستبكي،
بناءً على تجارب كثيرة سابقة.
تعلّقت الأميرة بأطراف سريري، كأنها تتمسك بآخر أمل لها، فمددت يدي وربّتُّ على ظهرها.
بصراحة؟ لها كامل الحقّ في البكاء هذه المرة.
لكن لايل، بل وحتى الإمبراطور، بدوا حقًا غير مدركين سبب بكائها.
ترجمة: لونا
التعليقات لهذا الفصل " 63"